وقفات تأملية على وقع إيقاع داخلي هامس

قراءة في «يقظة الصمت» لمحمد بنيس

غلاف «يقظة الصمت»
غلاف «يقظة الصمت»
TT

وقفات تأملية على وقع إيقاع داخلي هامس

غلاف «يقظة الصمت»
غلاف «يقظة الصمت»

حمل الديوان الأخير للشاعر المغربي محمد بنيس «يقظة الصمت» سمات وجودية بارزة على وقع إيقاع داخلي هامس، جعلنا نقف عند حالات أخرى من الذهول واليقظة الصامتة. الديوان الذي ضم 10 قصائد ملحمية كان متنوعاً من حيث الاختيارات الجمالية، استدعاءات كثيرة ومختلفة، بعضها من التراث، وأخرى فلسفية، بلغة اليومي البسيط، مع الكثير من الوقفات التأملية عند لحظة الإنصات والحقيقة، عناصر برع الشاعر بنيس في حبكِ تفاصيلها ممعناً في الشعر بالصوت والصمت.
ومن اللافت للنظر أن حالة الصمت هذه التي يقترحها العنوان، لم تنعكس كثيراً على حالة النص نفسها، فالمتن الشعري كان مكتظاً بأصوات داخلية هادرة. إنها حالة من الضجيج تحاصر الذات الواعية والقلقة والمتعطشة جداً لفكرة العزلة الحكيمة حين ينصت الشاعر لقلبه ولصوت الوعي بالكون والآخرين... «أسمعُ السماء والأرضَ، في كلامٍ بأجنحة خفيفة من قارّة إلى أخرى يطير، لا أحتاج إلى دليلٍ كي أعثر على نهر من الأناشيدِ في صدري يصطخب، يجتاحُ الأزمنة»، يقول بنيس في صمته المضيء والمسكون بالهشاشة.
والصمت في هذا المسلك العذب يكون اختياراً حين تكتظ سماء الليل بسحب القلق والأسرار، هذا الليل الذي يتسع من لغة إلى لغة هو ليل من الرموز بأشجار سامقة... هناك يستحيلُ الكلام! وهكذا تنتبه الذات إلى نفسها وهي ترى الصمت، لا شيء سوى بدءِ الخليقة ونهايتها يداً في يدٍ، ومن وراء الصمت، عالمان يتباعدانِ/ يتجاوَرانِ.
من زيّن للذات هذا الصمت المهيب؟ ومن فتح أبوابه؟ يتساءل الشاعر وكأنه يستمطر غيوماً من أجوبة الحاضر. إنّه التيه مجدداً يحاصر المعنى المتسرب من بين الأصابع، وهي تكتب، أو وهي تتأمل: «ليتني أعرفُ ما يُفعَلُ بي عندما أسألُ عن المعنى»، يقول بنّيس في لحظة من لحظات تلك الهشاشة. إنّه التيه قبل البياض وبعده، فلا وجهة تقود إلى اليقين والطمأنينة، هناك جهة ما في الكلام تمرّدت على الكلام، والليل... هذا الليل، كم هو موغل في الرمز والضباب! «لن أعثر في هذا الليل على وجهي»، يقول محمد بنيس، مستدركاً في القصيدة نفسها «ليلٌ ونهارٌ» المهداة إلى صديقه الكاتب عبد الجليل ناظم.
جوهر هذه العلاقة المجازية بين اليقظة والصمت نعثر عليه في قصيدة «بلاغة مضادّة»، حين يصبح النداء قريناً للصمت، نداءٌ يجري نهراً ولا فكرة تنام في هذا النهر، إنها يقظة الأفكار إذن، إنه الوعي اللامتناهي بالوجود والعذاب الفكري المسلط على تلك الذات الشاعرة وسط صخب السؤال وحيرة الأجوبة. أطول من عمر الأرض هذا الصمت، كم هو قاسٍ هذا الاستنتاج، فكيف سيحتمل قلبُ الشاعر المفكِّر هذا القدَر الوجودي الصعب! إنه صمت مُتعِب، مُضنٍ، مضاعَف العبء، إنه الصمت الذي يسكن فيه الضجيج أو يولد من جسده الصخّب الملتهب بنار اليقينيّات الهشة والشك المنتشر، ها هو يقول: «الصمت براكينٌ حبلى بنجومٍ تسطعُ من أدنى جبلٍ في الفجر»، وها هو يستدرك «براكينٌ تتنفّس في أعماقك».
أشياء كثيرة يمكننا أن نتحدث عنها في غمرة اكتشافنا لهذا الديوان، لكن إحدى أهم النقط البارزة هو الانشغال المزدوج للشاعر بقضايا الذات وقضايا الهم العام أيضاً. فلسطين وغزة، مدينة محاصرة ووطن مسلوب وذاكرة من نار الحق تستعصي على الانطفاء والنسيان، إنها أرض بدماء كثيرة يقول بنيس وهو يستعيد ملامح تاريخها البعيد والقريب في مسرح من دراما الحاضر المرتبك. يسترجع قصص الرّحالة عنها ويستأنس بأحاديثهم المسهبة، ويستدعي المعاني السماوية عنها، وما قاله الشعراء، إنه يراها وهي تطير، ويراهُم وهم يرفعون الأنخاب ويتبادلون الهدايا على أرضها، ويرى الآخرين المُغيَّبين في أمكنة متوارية عن الأنظار يتفجعون لأجلها بدماءٍ كثيرة... يستعيد محمد بنيس كل هذه التفاصيل وكأنه في لحظة ما يستعيد فلسطين.
«إنهم هناك... فوق الأرض. ينقُلون عيونهم إلى الأرض الممنوعة عنهم، إلى أرضهم. يمشون منذ أول الصباح لأجل أن يقفوا. فقط. لأجل أن يقفوا».

- شاعر وكاتب مغربي


مقالات ذات صلة

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط
كتب «أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها نص مخادع وذكي وكوميدي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ

د. ربيعة جلطي (الجزائر)
ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد
TT

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان. وصدر الكتاب حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة «آفاق عالمية» بالقاهرة.

يقول الشاعر، في كلمته التي كتبها خصوصاً بمناسبة صدور هذه الترجمة العربية الأولى لقصائده، إن «هذا الحدث المبهج» أعاد إلى ذاكرته تلك الأيام التي تعرف فيها للمرة الأولى إلى الشعراء العرب فصار أسيراً لسحرهم ومغامراتهم الشعرية مثل امرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي... وغيرهم.

ويذكر أفضال أن لمسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية علاقة خاصة باللغة والثقافة العربيتين، وهذا هو السبب في أن الترجمات الأردية للشعراء والكتّاب العرب تحظى بشعبية كبيرة لدى القراء الباكستانيين وخاصة الأسماء المشهورة مثل أدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وفدوى طوقان، فضلاً عن الروائيين نجيب محفوظ والطيب صالح ويوسف زيدان.

وأشار إلى أنه حين كان طالباً في الجامعة الأميركية ببيروت في الفترة من سنة 1974 إلى 1976، أتيحت له فرصة ثمينة للتعرف المباشر إلى الثقافة العربية التي وصفها بـ«العظيمة»، وهو ما تعزز حين سافر إلى مصر مرتين فأقام بالقاهرة والإسكندرية والسويس ودمياط، حيث لا يمكن له أن ينسى مشهداً ساحراً وهو التقاء النيل بالبحر المتوسط في منطقة اللسان بمدينة رأس البر التابعة لدمياط. وضمن سياق القصيدة التي تحمل عنوان الكتاب يقول الشاعر في مستهل مختاراته:

«اخترع المغاربة الورق

الفينيقيون الحروف

واخترعت أنا الشعر

اخترع الحب القلب

صنع القلب الخيمة والمراكب

وطوى أقاصي البقاع

بعت أنا الشعر كله

واشتريت النار

وأحرقت يد القهر».

وفي قصيدة بعنوان «الهبوط من تل الزعتر»، يرسم الشاعر صورة مثيرة للحزن والشجن لذاتٍ مُمزّقة تعاني الفقد وانعدام الجذور قائلاً:

«أنا قطعة الغيم

المربوطة بحجر

والملقاة للغرق

ليس لي قبر عائلي

من أسرة مرتزقة

عادتها الموت

بعيداً عن الوطن».

ويصف تجليات الحرب مع الذات والآخرين في نص آخر بعنوان «لم يتم منحي حياة بكل هذه الوفرة»، قائلاً:

«وصلتني أنهاري عبر صفوف الأعداء

فشربت دائماً بقايا حثالات الآخرين

اضطررت إلى التخلي عن موسم فارغ للأمطار

من ترك وصية لي

لأعرف ما إذا كان

هو نفسه الذي كانت تحمله امرأة بين ذراعيها وهي تتوسل إلى الخيالة

والتي بقيت طوال حياتها

تحاول حماية وجهها

من البخار المتصاعد من خياشيم الخيل

لا أعرف ما إذا كان

هو نفسه

الذي ربطته أمه في المهد».

وتتجلى أجواء السجن، نفسياً ومادياً، والتوق إلى الحرية بمعناها الإنساني الشامل في قصيدة «إن استطاع أحد أن يتذكرني»؛ حيث يقول الشاعر:

«حل الشتاء

صدر مجدداً الإعلان

عن صرف بطاطين صوف للمساجين

تغير طول الليالي

وعرضها ووزنها

لكنّ ثمة حُلماً يراودني كل ليلة

أنه يتم ضبطي وأنا أهرب من بين القضبان

أثناء تغير الفصول

في الوقت الذي لا يمكن أسره بمقياس

أقرأ أنا قصيدة».

وأفضال أحمد سيد شاعر ومترجم باكستاني معاصر، ولد في 26 سبتمبر (أيلول) 1946 في غازي بور التابعة لمقاطعة أتربرديش بالهند، قبل تقسيم الهند وباكستان وبنغلاديش؛ حيث بدأ فيها أيضاً حياته المهنية بالعمل في وزارة الزراعة الائتلافية هناك وعند تقسيم باكستان وبنغلاديش 1971، انتقل مع أسرته إلى مدينة كراتشي الباكستانية.

بدأ أفضال كتابة الشعر 1976 وأصدر 5 مجموعات شعرية هي «تاريخ منتحل» 1984، «خيمة سوداء» 1986، «الإعدام في لغتين» 1990، «الروكوكو وعوالم أخرى» 2000، ثم أصدرها مجمعة باعتبارها أعماله الشعرية الكاملة 2009 بعنوان «منجم الطين»، كما أصدر في مطلع 2020 كتاباً يضم قصائده الأولى في الغزل.

وتمثل أغلب قصائده طفرة نوعية في قصيدة النثر الأردية التي ما زالت تعاني من الرفض والتهميش إلى حد كبير لحساب فن الغزل بمفهومه الفارسي والأردي التقليدي الذي ما زال مهيمناً بقوة في شبه القارة الهندية.

ترجم أفضال أعمالاً عن الإنجليزية والفارسية وهو من أوائل من ترجموا لغابرييل غارثيا ماركيز وجان جينيه، كما أصدر في مطلع 2020 ترجمته لمختارات من الشعر الفارسي.

درس أفضال أحمد سيد ماجستير في علم الحشرات بالجامعة الأميركية ببيروت بين عامي 1974 و1976، وذلك في بعثة علمية من الحكومة الائتلافية الباكستانية، فشهد الحرب الأهلية اللبنانية في أثناء إقامته هناك.

يعمل حالياً أستاذاً مساعداً في جامعة حبيب بكراتشي، وهو متزوج من الشاعرة الباكستانية البارزة تنوير أنجم.