عمّال «التّوصيل» همزة الوصل الحيوية في خضم الأزمة الراهنة

ازدياد اعتماد المعزولين على العمالة المهاجرة لتأمين الطعام

لي مينغبا يعمل لدى تطبيق «كافيار» لتوصيل الطعام
لي مينغبا يعمل لدى تطبيق «كافيار» لتوصيل الطعام
TT

عمّال «التّوصيل» همزة الوصل الحيوية في خضم الأزمة الراهنة

لي مينغبا يعمل لدى تطبيق «كافيار» لتوصيل الطعام
لي مينغبا يعمل لدى تطبيق «كافيار» لتوصيل الطعام

توسلت زوجة تشين واي لزوجها أن يتوقف عن توصيل طلبات الطعام إلى المنازل، لأنّها تخشى إصابته بفيروس كورونا القاتل من أحد العملاء.
وتساءل لي مينغبا، أحد عمال التوصيل الآخرين، إذا كانت اليد التي امتدت إليه لتسلم حقيبة الدواء من خلف أحد أبواب الشقق في جولة التوصيل الأخيرة تخص مريضاً قيد الحجر الصحي بسبب الفيروس، أم لا.
ويحاول أدولفو غارسيا توصيل البيتزا في وقت لا يتجاوز 4 ثوان فقط! وأحياناً يترك علب البيتزا بالقرب من المصعد في الطابق الأول من المباني السكنية حتى يخرج العملاء بأنفسهم لتسلمها بعد رحيله. وهو يواصل تطهير يديه بعد كل جولة توصيل - لأنّه غالباً ما تكون بشرته جافة ومتشققة من كثرة التطهير.
وفي الوقت الذي يقيد فيه سكان نيويورك أنفسهم داخل منازلهم تنفيذاً لنصائح «التباعد الاجتماعي» للوقاية من الإصابة بالفيروس، بات عمّال توصيل الطلبات، الفئة المهمشة والمهملة في المجتمع عادة، يتمتعون بأهمية كبرى بعد أن صاروا يشكلون الجبهة الأمامية في مواجهة تفشي الوباء الفتاك.
ومع الارتفاع الكبير في عمليات توصيل الطلبات إلى المنازل، تحوّلت قوة العمالة المهاجرة بين عشية وضحاها إلى همزة الوصل الحيوية والحاسمة في خضم الأزمة الراهنة، حيث يوفرون الطعام، وطلبات البقالة، والأدوية، وكثيراً من العناصر الأخرى التي لم يعد بإمكان الناس الوصول بسهولة إليها أو هم لا يرغبون في المجازفة بالخروج والشراء بأنفسهم.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ عمال توصيل الطلبات في المعتاد يحصلون على رواتب هزيلة ولا يتمتعون بالتأمين الصحي المطلوب أو أي حماية عمالية أخرى.
وكانت إحدى المحادثات الجماعية على منصة من منصات الدردشة قد عكست حجم المأساة التي تعيشها تلك الفئة من عمال التوصيل الصينيين الذين كانوا يوازنون بين مخاطر العمل واحتمالات التعرض للإصابة.
وكتب أحد عمال التوصيل يقول: «يمكنك كسب المال في أي وقت، ولكن من دون جسد سليم لن يمكنك فعل أي شيء. إلى جانب أن المال الذي تكسبه لن يكون كافياً لتغطية الفواتير الطبية إن أصابك المرض». وقال آخر: «أنا أخشى توصيل الطلبات الآن لأنّني أخاف أن أموت». وقال ثالث إنّ «الحياة ليست سهلة أبداً في الولايات المتحدة».
ووفقا للمحلّلين، يزداد ارتفاع الطلب على خدمات التوصيل للمنازل في كل أنحاء البلاد منذ تفشي الوباء، في ظل تطبيقات إلكترونية مثل «وولمارت جروسري» و«شيبت» التي سجلت ارتفاعات كبيرة جداً في عدد مرات التحميل.
وكانت شركة «أمازون» قد أعلنت الأسبوع الجاري تعيين 100 ألف موظف جديد من عمال المستودعات والمخازن والتوصيل لتغطية الطلب المتزايد. وقالت الناطقة باسم الشركة إنّ «أمازون» كانت توظف 4 آلاف عامل جديد في ولاية نيويورك، وأغلبهم يخدم في مدينة نيويورك.
وفي يوم الثلاثاء، في منطقة ويست فيلاج، اصطف نحو 60 عاملاً من عمال التوصيل في شارع تتراص فيه مختلف المطاعم من أجل تلقي طلبات التوصيل التي تصل كل دقيقتين.
وقالت شركة «دورداش» و«أوبر إيتس»، من الشركات الرئيسية في توصيل المنتجات الغذائية، إنّهما تعتزمان توفير ما يصل إلى 14 يوماً من الإعانات المالية لأي من عمال التوصيل الذين يُصابون بفيروس كورونا ويخضعون للحجر الصحي جراء ذلك. كما توفر شركة «دورداش» المطهرات والقفازات الواقية لعمال الشركة.
وأدخلت شركة «إنستاكارت»، وهي من شركات توصيل البقالة إلى المنازل، خدمة جديدة تسمى «أترك الطلبات عند الباب»، التي تتيح للعملاء خيار ترك الطلبات عند باب الشقة خلال إطار زمني محدّد بدلاً من تسلم الطّلبات يداً بيد كما هو معتاد. ومع ذلك، قال العديد من عمال توصيل الطلبات إن كل ما حصلوا عليه حتى الآن من المطاعم أو شركات توصيل الطلبات لا يتجاوز عبارات التحذير الباردة: إذا شعرت بالمرض، الزم منزلك ولا تغادر.
يقول ألكسيس دابير، وهو من عمال توصيل الطلبات في مانهاتن، الذي يواصل الاطمئنان على زوجته في بوركينافاسو عبر تطبيق «فيستايم»: «ليس هناك أي احتياطات. إنّها وظيفة محفوفة بالمخاطر. وهم لم يمنحونا أي شيء من أجل حمايتنا سوى الكلمات الجامدة».
وقالت جينغ وانغ، مشرفة مشروع ركوب الدراجات في الأماكن العامة، وهي جماعة حقوقية لمناصرة عمال توصيل الطلبات، إنهم عبارة عن مجموعة عاملة ضعيفة للغاية ومن دون قوة جماعية تحميهم، وليس لديهم خيار سوى مواصلة العمل حتى مع بقاء كثير من الآخرين في منازلهم.
وأضافت وانغ: «إنّهم بمفردهم تماماً. ويوفرون الحماية لأنفسهم بأنفسهم. لقد اشتروا القفازات الواقية، وأقنعة الوجه على حسابهم الخاص، نظراً لأن بعض أرباب الأعمال، بما في ذلك التطبيقات الإلكترونية، لم يوفروا لهم أي شيء يذكر».
وللمساعدة في تخفيف الأعباء قليلاً، قال بيل دي بلاسيو عمدة مدينة نيويورك خلال الأسبوع الجاري، إنّ الشرطة سوف توقف فرض الغرامات على عمال توصيل الطلبات الذين يستخدمون الدراجات الكهربائية، وهي الممنوع استخدامها في المدينة، نظراً للخدمات الحيوية والحاسمة التي يوفرها عمال التوصيل حالياً.
وكان دانيس رودريغيز، عضو مجلس المدينة ورئيس لجنة النقل في المجلس، قد مارس الضغوط على العمدة دي بلاسيو لأجل إصدار هذا القرار.
وكتب رودريغيز يقول: «مع إغلاق المدينة للمدارس، واستعدادها للحد من المطاعم والحانات والمقاهي المفتوحة وقصر أعمالها على الخدمات السريعة وطلبات التوصيل المنزلية، لم يعد سراً أن أغلب الذين يجهزون ويوصلون الطلبات سيكونون من المهاجرين».
وأضاف رودريغيز: «لا بدّ أن نوفر لهم ولأسرهم قدراً من الطمأنينة واليقين بأن إدارة شرطة نيويورك لن تستغل هذه اللحظات القاسية فرصة للقضاء على التكنولوجيا التي يستخدمونها لتوصيل مختلف الطلبات إلى منازلنا».
كان تشين يعمل على توصيل الطلبات لمطعم «ريد هاوس» الصيني في مانهاتن منذ 8 شهور عندما بدأ الوباء في الانتشار. ولقد توسلت إليه زوجته أن يتوقف عن العمل، إذ كانت تخشى عليه وعلى صحة أطفالهما من الخطر. وكانت المصاعد هي أكبر مخاوفه كما قال، تلك المساحة الضيقة التي يدخلها كثير من الناس من دون أي منفذ للتهوية.
ولقد استقال تشين من عمله بحلول نهاية الأسبوع الماضي، وأخبر صاحب المطعم أنّه لا يستطيع العمل لديه مرة أخرى. وقال صاحب المطعم عند الحديث معه: «أخبرته أنّني أتفهم موقفه جيداً، جميعنا متوترون هذه الأيام. إنّها فترة خانقة من القلق الشديد».
وعلى الرغم من أن بعض العمال، مثل تشين، قد قرروا عدم المخاطرة بصحتهم على حساب فقدان الدخل، فإنّ هناك آخرين مثل أشيكور رحمن الذي قال إنّه لا يحتمل البقاء طوال الوقت في المنزل.
وقال أثناء ركوبه دراجته على جسر ويليامزبيرغ من مانهاتن إلى بروكلين للمرة الثالثة في يوم قريب: «كثير من الناس خائفون، وأنا كذلك، ولكنّني في حاجة إلى المال الذي أحصل عليه». وكان يحمل بحوزته 5 علب من البيرة، وأضاف: «إنّني أوصل كثيراً من طلبات البيرة، إنّها وظيفة مجنونة. كما أن العبوات ثقيلة للغاية».
وعلى غرار رحمان، كان على لي، عامل التوصيل الذي وصل إلى الولايات المتحدة منذ عام 2011 قادماً من شنغهاي الصينية، أن يرتب ويوازن خياراته.
وقال إنّه «لا توجد طريقة مؤكدة لمعرفة الشخص المصاب بالمرض. ونحن لا نعرف أين يوجد المصابون فعلاً. ربما يكونون في أي مكان حولنا. وفي الوقت نفسه، ليس لدي تأمين صحي أعتمد عليه. فإن أصبت بالعدوى، يجب أن ألزم المنزل ولا أتحرك. ولكن، كيف سأسدد الإيجار؟ ليس لدي أي دخل مالي آخر. فإن توقفت عن العمل، فلن يكون هناك مال أكسبه أبداً».
- خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)