برامج صندوق النقد الدولي في الميزان

متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)
متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)
TT

برامج صندوق النقد الدولي في الميزان

متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)
متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)

منذ اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان، التي سبقت أزمة كورونا، بدأ الجدل يحتدم حول سبل العلاج. والملف الأبرز الذي فتح في هذا المجال تركز على الحاجة إلى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي، وتفاوت النقاش، الذي أخذ في لبنان طابعاً سياسياً وحتى طائفياً كما هي العادة، بين قائلين بأن يقتصر دور الصندوق على طلب المشورة، وآخرين يدعون إلى تدخل مباشر لصندوق النقد عبر حزمة إنقاذ مالية ترافقها الشروط والضوابط التي يفرضها المسؤولون في الصندوق على خطة التمويل، أسوة بما حصل مع دول أخرى في المنطقة العربية وحول العالم، مرت بظروف مشابهة.
وهكذا تحول التعامل مع صندوق النقد الدولي إلى قضية توازي بأهميتها قضية الانهيار المالي ذاته، الذي واجهه اللبنانيون للمرة الأولى في تاريخهم، مع إعلان الحكومة عجزها عن تسديد دفعة من السندات التي استحقت في مطلع الشهر الحالي.
في هذه الصفحة من قضايا نعرض مواقف من تجربتين عربيتين للتعامل مع صندوق النقد الدولي من خلال مقالين: للدكتور تيسير الصمادي وزير التخطيط والتعاون الدولي السابق في الأردن، والدكتور أحمد جلال وزير المالية المصري السابق، بالإضافة إلى رأي الخبير الاقتصادي اللبناني الدكتور جو سروع.

شهدت المنطقة العربية نشاطاً غير مسبوق لصندوق النقد الدولي في السنوات التالية للربيع العربي عام 2011. في الدول غير النفطية، مثل الأردن وتونس ومصر والمغرب، أخذ نشاط الصندوق شكل الاتفاق على برامج إصلاح انكماشية في جوهرها، على غرار ما يقوم به في أرجاء المعمورة. في الدول النفطية، مثل السعودية والإمارات، أخذ هذا النشاط شكل مساعدات فنية تمولها هذه الدول. شروط الإصلاح في الدول غير النفطية ملزمة للحكومات، نظراً لارتباطها بالقروض التي يمنحها الصندوق. أما شروط المساعدات الفنية في الدول غير النفطية، فتعد نوعاً من الاستشارات غير الملزمة. هذا خلاف جوهري يبرر حصر ما سوف يأتي في بقية المقال على الدول غير النفطية، وبحكم معرفتي بمصر، أكثر من غيرها من الدول، سوف يكون التركيز أيضاً عليها بشكل خاص.
في إطار التمعن في ظاهرة انتشار برامج الصندوق في منطقتنا، قد يكون من المفيد محاولة الإجابة عن عدد من التساؤلات، أولها يدور حول الأسباب وراء هذا المد، وثانيها يدور حول طبيعة وتوابع هذا الانتشار، وثالثها يدور حول كفاية هذه البرامج لتعافي الاقتصادات المتلقية لها، اليوم وغداً. ما يكسب هذا النقاش أهمية خاصة أن برامج الصندوق ليست محل توافق عام، وأن دواعي الاختلاف مهنية أحياناً، وآيديولوجية أحياناً أخرى.
فيما يتعلق بأسباب انتشار برامج الصندوق في المنطقة، فالمعروف أن ذلك يعود أساساً لتدهور الأحوال الاقتصادية في كثير من البلدان بعد ثورات الربيع العربي. في مصر وتونس والأردن والمغرب، تسببت حالة عدم الاستقرار والغياب النسبي للأمن في تراجع معدلات النمو، وارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض مستوى التشغيل، وزيادة الضغوط على الموازنة العامة وميزان المدفوعات. وأدى إحجام المستثمر المحلي والأجنبي عن ضخ أموال جديدة، وضعف موارد الدول من العملة الصعبة (بسبب تراجع السياحة والتصدير)، إلى تدني احتياطيات البنوك المركزية من العملة الصعبة، واتساع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي ونظيره غير الرسمي، وارتفاع مستويات الدين العام، وصعوبة الاقتراض، وارتفاع تكلفته. ببساطة شديدة، دخلت هذه الدول دائرة مفرغة كان من الصعب الفكاك منها، وكان أحد المخارج الرئيسية المتاحة اللجوء لصندوق النقد الدولي، وهذا ما حدث بالفعل. وهنا، من الواجب تذكر أن هذا هو الغرض الذي أنشئ من أجله الصندوق في المقام الأول بعد الحرب العالمية الثانية.
ماذا عن مكونات برامج الصندوق؟ كما هو متوقع، كان محور هذه البرامج استعادة التوازن المالي والنقدي في البلدان التي أخذت بها. في الحالة المصرية، وهي ليست بعيدة كثيراً عن الدول الأخرى، تم التوافق على استعادة التوازن المالي تدريجياً، عن طريق تخفيض الإنفاق وزيادة الإيرادات. وجاء تخفيض الإنفاق بشكل أساسي عن طريق رفع الدعم عن المحروقات، وزيادة أسعار الخدمات العامة، مثل الكهرباء والغاز الطبيعي والمياه. وانصبت إجراءات زيادة الموارد بشكل كبير على تفعيل ضريبة القيمة المضافة ورفع سعرها، وبيع بعض الأصول العامة، إذا أمكن ذلك.
وتضمن الاتفاق تخصيص بعض الموارد لتخفيف العبء على الفقراء، ومن هنا ظهرت برامج تكافل وكرامة، كجزء من منظومة الحماية الاجتماعية.
وفي سبيل إعادة التوازن للحساب الجاري، تم الاتفاق على تغييرات كبيرة في السياسة النقدية، أهم بنودها تعويم العملة المحلية، ووضع سقف على المعروض النقدي، ورفع سعر الفائدة. وفي غضون سنوات قليلة، شهدت المؤشرات الكلية تحسناً ملحوظاً، لكن تكلفة تطبيق البرنامج كانت عالية، كما سيتضح فيما يلي.
على الجانب الإيجابي، شهدت مؤشرات الاقتصاد الكلي في مصر تحسناً كبيراً، ومنها انخفاض عجز الموازنة قبل البرنامج من نحو 13 - 12 في المائة من الدخل القومي إلى نحو 8 في المائة، واختفاء السوق السوداء للدولار، وتراجع الدين العام كنسبة من الدخل القومي. وفي مرحلة لاحقة، عمل البنك المركزي على تخفيض أسعار الفائدة، وتحسنت موارد الاقتصاد من العملة الأجنبية، خاصة من تحويلات المصريين في الخارج، وزادت التدفقات الرأسمالية الساخنة. على أثر كل ذلك، بدأ الاقتصاد في النمو بمعدلات قريبة مما كانت عليه قبل 2011. على الجانب السلبي، جاء التحسن في الأداء الاقتصادي مكلفاً للطبقتين الفقيرة والمتوسطة.
بشكل أكثر دقة، ارتفعت معدلات التضخم بعد التعويم لمستويات غير مسبوقة، وصلت إلى أكثر من 30 في المائة سنوياً، في وقت لم تزد فيه الدخول بالنسبة نفسها. كما ارتفعت نسبة من يقعون تحت خط الفقر في مصر إلى أكثر من ثلث المصريين، وتباطأ النشاط الاقتصادي جراء السياسات الانكماشية، ولم يخفف من وطأتها سوى التوسع في النشاط العقاري خارج الموازنة العامة. صحيح أن تعديل الأسعار، وخاصة فيما يتعلق بالطاقة والخدمات العامة، ساعد على ترشيد سلوك المنتجين والمستهلكين، لكنه افتقد الآليات التي تضمن أن الزيادات ليست نتيجة تدني كفاءة المؤسسات المعنية.
السؤال الأخير هو: هل كان برنامج الصندوق حتمياً ومبرراً؟ بشكل عام، الإجابة هي بالطبع لا، خاصة عندما تكون الدولة قادرة على احتواء ما تواجهه من صدمات داخلية أو خارجية مؤقتة. وهذا ما فعلته أميركا لتتخطى الأزمة المالية العالمية عام 2008، من خلال اتباع سياسة اقتصادية توسعية، وليست انكماشية. وهذا أيضاً ما يمكن أن تقوم به الدول النفطية، إذا أرادت، بحكم حوزتها لأرصدة متراكمة من عائدات النفط في الصناديق السيادية.
أما معظم الدول النامية، ومنها مصر، فحاجتها لدعم الصندوق، في غياب معونة الأصدقاء، ليست محل نقاش. هذا لا يعني التسليم وقبول كل ما يطرحه الصندوق من شروط، ولا يعني أن الحكومات غير مسؤولة عن الآثار التوزيعية السلبية للبرنامج، ولا يعني تحميل جل العبء على الطبقات الاجتماعية الأقل حظاً، وأهم من هذا وذاك، لا يعني أن برنامج الصندوق كافٍ لضمان تعافي الاقتصاد في الأجل المتوسط. حقيقة الأمر أن الحكومات، في أثناء التفاوض، يمكنها أن تختار بدائل تحقق أهداف التوازن المالي والنقدي، والكفاءة، وعدالة توزيع الأعباء في وقت واحد.
كما أنها تستطيع محاولة تعظيم استجابة القطاعات الحقيقية في الاقتصاد، من زراعة وصناعة وسياحة وخدمات، للإصلاحات الكلية، وذلك بتبني برامج لتحسين مناخ الأعمال، وأسواق العمل، والمنافسة، وبرامج إصلاح مؤسسي لترشيد دور الدولة في الاقتصاد، سواء كمنتج أو مراقب أو صانع للسياسات. التخاذل عن اتخاذ ما يلزم لا يبرر الاكتفاء بإلقاء اللوم على برامج الصندوق، رغم وفرة التحفظات على هذه البرامج.
- وزير المالية السابق في مصر



«المقاومة العراقية» إلى «حرب أوسع» في لبنان

فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)
فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)
TT

«المقاومة العراقية» إلى «حرب أوسع» في لبنان

فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)
فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)

حين حذّر وزير خارجية العراق، فؤاد حسين، من اندلاع حرب في لبنان، كان من المرجح أن يلقى كلامه المقلق استجابة عاصفة من الفصائل العراقية الموالية لإيران، أقلها التحضير لمساندة الحليف «حزب الله» اللبناني. ولم يحدث هذا كما جرت العادة بين حلفاء «محور المقاومة».

في 13 يونيو (حزيران)، كان الوزير حسين، يتحدث في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الإيراني بالإنابة، علي باقري كني، ومن دون سياق مسبق، وفي سابقة بين البلدين، رمى «طلقة تحذير» حول الجنوب اللبناني، بينما بغداد ملتزمة بالهدنة بظلال حكومة تحظى بإعجاب الأميركيين يوماً بعد آخر.

قال حسين: «لو اندلعت حرب هناك، ستتأثر المنطقة برمتها، وليس لبنان فقط».

وبالنسبة لكثيرين، كان كلام كبير الدبلوماسية العراقية «رسالة» تستند إلى معطيات وفرّها الزائر الإيراني، باقري كني، الذي كان قبل أسبوعين من وصوله إلى بغداد، يجري لقاءات «طبيعية» في بيروت ودمشق عن «الشراكة الوثيقة والدائمة».

شخصيتان في «الإطار التنسيقي»، أخبرتا «الشرق الأوسط»، أن باقري كني حين وصل إلى بغداد تحدث في الكواليس مع مسؤولين عراقيين، عن «حرب محتملة تُخطط لها إسرائيل في جنوب لبنان، فما موقف العراقيين؟».

وتقاطعت معلومات المصدرين حول أن باقري طلب صراحةً أن يكون «لبنان محور المؤتمر الصحافي المشترك». وقال أحدهما لـ«الشرق الأوسط»: «بالطبع، الحرب في لبنان تقلق الجميع، وستُسمع أصداؤها في بغداد أولاً»، ولهذا تبرّع الوزير العراقي بالتحذير، لأن حكومته والتحالف الشيعي الحاكم كان عليهم التعاطي مع جس نبض الإيرانيين بشأن لبنان.

وفي محاولة لاستنباط موقف «العسكريين»، تحدثت «الشرق الأوسط» إلى قائد فصيل عراقي فقال: «لقد وجّهت إلينا أسئلة عن موقفنا لو اشتعلت جبهة لبنان أكثر. فقلنا: مستعدون (...) سنذهب إلى هناك».

لكن الدوائر الدبلوماسية والسياسية ليست حاسمة إلى تلك الدرجة، فقد أكد مسؤول دبلوماسي أن «الأمر (طلب باقري) لم يكن بهذه الطريقة»، كما أن خبيراً عراقياً فسّر كلام فؤاد حسين بأنه «للموازنة السياسية بين الحكومة والمقاومة»، مقللاً من احتمالات حرب «أوسع».

وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين تولّى التحذير من حرب في لبنان بحضور نظيره الإيراني باقري كني (رويترز)

مَن يريد توسعة الحرب... إيران أم إسرائيل؟

تشهد مناطق الجنوب اللبناني والشمال الإسرائيلي منذ أشهر أعنف هجمات متبادلة منذ حرب 2006، لكنها أقل من أن توصف بالحرب المفتوحة. ثمة قواعد اشتباك غير تقليدية تجعلها حرباً على جرعات، بتكاليف عالية، لاسيما من جهة «حزب الله» وحاضنته في الجنوب.

تقول مصادر لبنانية، لـ«الشرق الأوسط»، إن حصيلة الأشهر الماضية تعادل أضرار حرب شاملة، لكنها في ميزان القوى، ليست كذلك.

وتزداد كثافة النيران الإسرائيلية على عمق 4 كيلومترات من الحدود، بمعدل قصف يومي، وتقل تدريجياً بعد عمق 10 كيلومترات وصولاً إلى نهر الليطاني.

المصادر التي قدمت هذه التوصيفات الميدانية قالت إن مناطق القصف شبه خالية ومدمرة على نحو غير مسبوق، والحديث عن «حرب أشد» مستحيل بغياب حاضنة اجتماعية، ومع تغير مواقع إدارة العمليات لـ«حزب الله»، على نحو طارئ.

لبنانيات يلتقطن صورة إلى جانب منزل مدمَّر بغارة إسرائيلية في بلدة عيتا الشعب بالجنوب (أ.ف.ب)

إذن، ما الحرب الأشد التي حذّر منها الوزير فؤاد حسين؟ ومَن يريد إشعالها؟ طهران أم حكومة بنيامين نتنياهو؟ على الأقل، فإن آموس هوكستين، مستشار الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي وصل إلى إسرائيل الاثنين، ومنها إلى بيروت، لديه رسالة لثني نتنياهو عن أي تصعيد محتمل، قد يثير ذعر إيران ويدفعها إلى التدخل المباشر في لبنان، والتدخل سيكون بأذرعها في العراق.

ويعتقد عقيل عباس، وهو أستاذ العلوم السياسية من واشنطن، أن نتنياهو «يريد هذه الحرب أكثر من (حزب الله)، ومن إيران بالضرورة»، لأن الأخيرة تريد المحافظة على نسق الضربات المتواترة من «حزب الله» لتخفيف الضغط على «حماس» في غزة. أكثر من هذا سيكون ضاراً لها.

كما أن «حزب الله» نفسه يريد الحفاظ على «ديناميكية الردع» بمنسوبها الحالي، فإن أي عملية عسكرية مفتوحة من الإسرائيليين ستدمر البنى التحتية اللبنانية أكثر مما هي الحال الآن، و«هذا يسبب مشكلة لحسن نصر الله مع الشركاء اللبنانيين»، كما يقول عباس.

رواية أخرى... إيران تُلوّح بورقة «حزب الله»

قبل أن يصل باقري كني إلى بغداد، كانت إيران تنقل رسائل جس نبض إلى العراقيين توحي بأنها تواجه 3 مشاكل مستعصية؛ فراغًا خلّفه رئيسي وعبداللهيان، والضغط الهائل من الأميركيين والغرب في البرنامج النووي، وموضع طهران في صفقة وقف النار بغزة، وفي كل منها ستضطر إلى التخلي عن أحد محاورها في المنطقة، لكن الحصة «في المقابل» لا تساوي ثمنها، كما يصف سياسي عراقي على اطلاع بهذه الرسائل.

يقول السياسي العراقي: «إن التلويح بحرب قائمة بالفعل ضغط سياسي، حتى يعرف الإيرانيون حصتهم من صفقة وقف النار في غزة، لا سيما المرحلة الثانية منها».

في هذه الأجواء، إيران هي من تريد وضع ورقة «جنوب لبنان» على الطاولة لتحسين ظروفها في المفاوضات. ليس من الواضح ملاءمة هذه الفرضية مع حالة «حزب الله» الذي يتحدث كثيرون عن إنهاكه ومحدودية حركته. ويرد السياسي العراقي بالقول: «لم يختبر أحد حتى الآن حقيقة أن (حزب الله) منهك، بينما يستطيع في أي وقت إحداث خرق مؤذٍ للإسرائيليين».

وإلى حد كبير يوافق على هذا الطرح عقيل عباس، الذي يرصد قلقاً إسرائيلياً تشاركه تل أبيب مع واشنطن بشأن «القدرات العسكرية والتكنولوجية لـ(حزب الله)»، حتى بعد أشهر من الاستنزاف.

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

«الأيدي على الزناد يا لبنان»

حين خرج الوزير العراقي بتحذيره اللبناني، كانت بغداد تحظى بمسافة أمان عن نيران حرب غزة في المنطقة. الحكومة استطاعت إدامة الهدنة مع القوات الأميركية لأشهر، ورئيسها محمد شياع السوداني يمسك بصعوبة بلحظة التوازن بين متطلبات إيران وطموحات الفصائل، ومنذ وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لم يسمع قادة الأحزاب الشيعية والفصائل أشياء كثيرة مهمة من الإيرانيين.

يقول قائد فصيل شيعي في بغداد، طلب عدم نشر اسمه وعنوان الفصيل، إن الزيارات غير المعلنة للعسكريين الإيرانيين إلى العراق أصبحت قليلة جداً منذ وفاة رئيسي. مع ذلك، «هناك اتصالات روتينية فُهم منها أن طهران مشغولة بمشكلتها (...) سنتكلم لاحقاً».

قبل أن يزور باقري كني بغداد وأربيل، وصلت «أسئلة مباشرة من الإيرانيين لكتائب «حزب الله» وحركة «النجباء»: «هل تشاركون في حرب جنوب لبنان لو هاجمتها إسرائيل». يقول قائد الفصيل، لـ«الشرق الأوسط»: «قلنا لهم، نعم بالطبع. الأيدي على الزناد، نشارك وندعم».

قائد قوة القدس التابعة لـ«الحرس الثوري» الإيراني، إسماعيل قاآني كان في قلب تلك الاتصالات التي كسرت صمت طهران عن الحلفاء العراقيين منذ وفاة رئيسي. وحين وصل باقري كني كانت الحكومة العراقية تشعر بالضغط، كما يقول قيادي في الإطار التنسيقي، واضطرت إلى التحذير لمنح الانطباع بأن العراق لن يواصل الجلوس في «منطقة الراحة» خلف توترات غزة، في لبنان تحديداً.

مع ذلك، يرى الخبير عقيل عباس، أن كلام الوزير العراقي «فعل موازنة سياسي وإعلامي لإظهار أن العراق مع إيران ومع المقاومة بشكل عام، وليس محور المقاومة بشكل خاص».

يفسر عباس هذه المعادلة بأن ما تقوم به الحكومة من وراء كل هذه التحركات، بما فيها التحذير من حرب في جنوب لبنان، هو الموازنة، لا أكثر. «لأن حكومة السوداني غاضبة من الفصائل، وتحاجج ضدها داخل الإطار التنسيقي، وتطالب بمواقف جدية ضدها، من ضمنها إدخال إيران نفسها بصفتها فاعلاً ضاغطاً يردع الفصائل».

لكن الفصائل ليست سعيدة، خصوصاً حركة «النجباء» وكتائب «حزب الله»، اللتين تظهران حنقاً من الهدنة، وتحاولان استغلال أي فرصة للتمرد عليها.

وكانت مصادر عراقية، أبلغت «الشرق الأوسط» أن الهجمات التي تعرضت لها مطاعم أميركية في بغداد والمحافظات كان تخفي «نية للتمرد على الهدنة، وإيصال رسالة للإيرانيين بأنها حانقة على قرار التهدئة الذي ترعاه طهران في العراق».

وأكدت المصادر أن السوداني «تحدث مع قادة حلفاء وأصدقاء عن ضرورة لجم هذه الحركات التي لا معنى لها، سوى الاعتراض على وضع سياسي لا يلائم بعض القادة الشيعة».

بهذا المعنى، يقول سياسي عراقي مقرب من رئيس الحكومة: «إن الأخير يلاحق جميع المنافذ التي يمكن أن تفلت منها الفصائل إلى حرب (تجر معها الجميع)».

هوكستين أبلغ بري بأن التهديد الإسرائيلي «جدي جداً» (رئاسة البرلمان اللبناني)

«حزب الله» لا يريد العراقيين

«بالفعل، نستعد لأي طارئ في لبنان (...) نعرف ما تواجهه درة تاج المقاومة في المنطقة (حزب الله)»، يقول قائد ميداني لفصيل شيعي متنفذ، ينشط في محافظة نينوى (شمال العراق)، وزعم أنه «أبلغ (الحرس الثوري) الاستعداد للقتال إلى جانب المقاومة في لبنان».

يبدو أن طهران تريد من «الأطراف المعنية» إظهار هذا الموقف علناً، بينما يتعرض «حزب الله» إلى ضغط هائل من الإسرائيليين الذين يخططون لحرب بهدف تفكك «المقاومة جنوب لبنان»، كانوا يريدون منح الانطباع بأن الهجوم على الجنوب أكثر سيجذب كل المقاومة أكثر إلى حرب شاملة.

غير أن مشاركة العراقيين «المقاومين» في حرب إلى جانب «حزب الله» ليست مضمونة، رغم أن العراقيين يعرضون «العدة البشرية»، فالفصيل اللبناني لم يبلغ أحداً من «رفاق المقاومة» بأنه سيسمح لهم بالانتشار في الميدان، على الأراضي اللبنانية.

يتفق قائدا الفصيلين الشيعيين في بغداد ونينوى على أن «(حزب الله) لن يستقبل العراقيين، لأنه ينظر إليهم غير مؤهلين، ولا يمتلكون كياناً متماسكاً، وهم في أفضل الأحوال حلفاء سيئون، لديهم مشاكل لا تعد ولا تحصى في صناعة القرار».

ما يزيد القناعة بعدم مشاركة الفصائل العراقية في حرب جنوب لبنان، هو التفاهم النادر بين الإيرانيين والحكومة في بغداد على حماية صيغة الاستقرار القائمة.

يقول مسؤول بارز في حكومة عادل عبد المهدي إن «العراق هو درة التاج لدى الإيرانيين، أكثر من (حزب الله)، ولن يغامر به في حرب جنوب لبنان». ويضيف: «ما قام به الوزير فؤاد حسين هو الضغط لمنع الحرب، وليس العكس».

ويقول عقيل عباس، إن «الجنرال قاآني توصل إلى اتفاق مع الأميركيين، نضج مع وزير الخارجية الراحل حسين أمير عبداللهيان، بعدم استهداف القوات الأميركية حتى تنتهي الحملة الانتخابية للرئيس جو بايدن».

يدفع هذا عباس إلى الاعتقاد بأن طهران لا تريد تسهيل فوز ترمب بضرب الأميركيين تحت ولاية منافسه بايدن.

في السياق، يكشف المسؤول العراقي السابق، أن إيران «أكثر من هذا»، تريد إبعاد الحرب عن حدود العراق، لأنهم «الآن أكثر حرصاً على الهدوء في العراق».

وأظهرت إيران خلال مراسم عزاء رئيسي إشارات تهدئة، حينما قدّم المرشد الإيراني، في مجلس تأبين أقامه يوم في 25 مايو (أيار) 2024، شخصيات سياسية ضالعة في الحكومة الحالية، وليس في الفصائل «المتمردة»، وأجلست في الصف الأول من المعزين شخصيات، مثل عمار الحكيم زعيم تيار «الحكمة»، ورئيس مجلس القضاء فائق زيدان، وحيدر العبادي رئيس الوزراء الأسبق، خلافاً لقادة فصائل وضعت ترتيب جلوسهم في المقاعد الخلفية، مثل أكرم الكعبي زعيم حركة «النجباء»، وعبد العزيز المحمداوي، المعروف بـ«أبو فدك»، رئيس أركان هيئة «الحشد الشعبي».

صورة وزعها مكتب خامنئي لتأبين رئيسي في 25 مايو ويظهر في الصف الأول مسؤولون وسياسيون عراقيون

النموذج السوري في لبنان

يقول المسؤول العراقي السابق، بناءً على اتصالات يجريها من واشنطن مع قيادات عراقية ولبنانية حول التوتر الأخير، إن «الحرب الشاملة غير موجودة إلا في خيالات اللبنانيين». ومع ذلك، لو حدثت «ليس من المرجح أن يحتاج (حزب الله) إلى الكتائب العراقية، على سبيل المثال»، لأن «الوضع الميداني صعب على أبناء المقاومة المحلية، الذين يتحركون بالكاد في مناطقهم، فكيف على مسلح قادم من العراق».

لكن لو اندلعت الحرب فإن «إيران لن تترك (حزب الله) لوحده. هذا لن يحدث (...) ستفعل شيئاً بالتأكيد»، يقول المسؤول الذي يرى أن مجيء سفيرة أميركية جديدة إلى العراق بموقف متطرف ضد الإيرانيين على صلة بالأمر، «يبدو أن واشنطن تحسب حسابات اليوم التالي لحرب غزة بتدابير سياسية جديدة من بغداد، لصد رد الفعل الإيراني على المرحلة الثانية من وقف الحرب في القطاع (...) لو أنجزت المرحلة الأولى منه».

لكن السيناريو المغرق في التشاؤم يفيد بأن الحرب «الأوسع» ستندلع في جنوب لبنان، وحينها ستلجأ إيران إلى النموذج السوري في لبنان، تحت ضغط صفقة غزة، ومفاوضات النووي. يقول المسؤول العراقي: «هذا يعني تقسيم خريطة لبنان وفق معطيات وحسابات معينة، بين فصائل من العراق واليمن وأفغانستان، والزحف إليها سيبدأ من سوريا».

في المحصلة، ليس هناك تقاطع معلومات حاسم بشأن حرب أوسع في جنوب لبنان، ومشاركة الفصائل العراقية فيها. على الأرجح فإن الطرف العراقي المعني بـ«محور المقاومة» يمتلك الرسائل دون الحقائق، وأن إيران من خلفه تحاول استخدام جميع الأوراق بحذر لإجراء تعديلات لصالحها في صفقة «اليوم التالي» لغزة، وتخشى انفلات «الساحات» التي تديرها إلى حرب تفقدها القدرة على المناورة.