برامج صندوق النقد الدولي في الميزان

متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)
متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)
TT

برامج صندوق النقد الدولي في الميزان

متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)
متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)

منذ اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان، التي سبقت أزمة كورونا، بدأ الجدل يحتدم حول سبل العلاج. والملف الأبرز الذي فتح في هذا المجال تركز على الحاجة إلى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي، وتفاوت النقاش، الذي أخذ في لبنان طابعاً سياسياً وحتى طائفياً كما هي العادة، بين قائلين بأن يقتصر دور الصندوق على طلب المشورة، وآخرين يدعون إلى تدخل مباشر لصندوق النقد عبر حزمة إنقاذ مالية ترافقها الشروط والضوابط التي يفرضها المسؤولون في الصندوق على خطة التمويل، أسوة بما حصل مع دول أخرى في المنطقة العربية وحول العالم، مرت بظروف مشابهة.
وهكذا تحول التعامل مع صندوق النقد الدولي إلى قضية توازي بأهميتها قضية الانهيار المالي ذاته، الذي واجهه اللبنانيون للمرة الأولى في تاريخهم، مع إعلان الحكومة عجزها عن تسديد دفعة من السندات التي استحقت في مطلع الشهر الحالي.
في هذه الصفحة من قضايا نعرض مواقف من تجربتين عربيتين للتعامل مع صندوق النقد الدولي من خلال مقالين: للدكتور تيسير الصمادي وزير التخطيط والتعاون الدولي السابق في الأردن، والدكتور أحمد جلال وزير المالية المصري السابق، بالإضافة إلى رأي الخبير الاقتصادي اللبناني الدكتور جو سروع.

شهدت المنطقة العربية نشاطاً غير مسبوق لصندوق النقد الدولي في السنوات التالية للربيع العربي عام 2011. في الدول غير النفطية، مثل الأردن وتونس ومصر والمغرب، أخذ نشاط الصندوق شكل الاتفاق على برامج إصلاح انكماشية في جوهرها، على غرار ما يقوم به في أرجاء المعمورة. في الدول النفطية، مثل السعودية والإمارات، أخذ هذا النشاط شكل مساعدات فنية تمولها هذه الدول. شروط الإصلاح في الدول غير النفطية ملزمة للحكومات، نظراً لارتباطها بالقروض التي يمنحها الصندوق. أما شروط المساعدات الفنية في الدول غير النفطية، فتعد نوعاً من الاستشارات غير الملزمة. هذا خلاف جوهري يبرر حصر ما سوف يأتي في بقية المقال على الدول غير النفطية، وبحكم معرفتي بمصر، أكثر من غيرها من الدول، سوف يكون التركيز أيضاً عليها بشكل خاص.
في إطار التمعن في ظاهرة انتشار برامج الصندوق في منطقتنا، قد يكون من المفيد محاولة الإجابة عن عدد من التساؤلات، أولها يدور حول الأسباب وراء هذا المد، وثانيها يدور حول طبيعة وتوابع هذا الانتشار، وثالثها يدور حول كفاية هذه البرامج لتعافي الاقتصادات المتلقية لها، اليوم وغداً. ما يكسب هذا النقاش أهمية خاصة أن برامج الصندوق ليست محل توافق عام، وأن دواعي الاختلاف مهنية أحياناً، وآيديولوجية أحياناً أخرى.
فيما يتعلق بأسباب انتشار برامج الصندوق في المنطقة، فالمعروف أن ذلك يعود أساساً لتدهور الأحوال الاقتصادية في كثير من البلدان بعد ثورات الربيع العربي. في مصر وتونس والأردن والمغرب، تسببت حالة عدم الاستقرار والغياب النسبي للأمن في تراجع معدلات النمو، وارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض مستوى التشغيل، وزيادة الضغوط على الموازنة العامة وميزان المدفوعات. وأدى إحجام المستثمر المحلي والأجنبي عن ضخ أموال جديدة، وضعف موارد الدول من العملة الصعبة (بسبب تراجع السياحة والتصدير)، إلى تدني احتياطيات البنوك المركزية من العملة الصعبة، واتساع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي ونظيره غير الرسمي، وارتفاع مستويات الدين العام، وصعوبة الاقتراض، وارتفاع تكلفته. ببساطة شديدة، دخلت هذه الدول دائرة مفرغة كان من الصعب الفكاك منها، وكان أحد المخارج الرئيسية المتاحة اللجوء لصندوق النقد الدولي، وهذا ما حدث بالفعل. وهنا، من الواجب تذكر أن هذا هو الغرض الذي أنشئ من أجله الصندوق في المقام الأول بعد الحرب العالمية الثانية.
ماذا عن مكونات برامج الصندوق؟ كما هو متوقع، كان محور هذه البرامج استعادة التوازن المالي والنقدي في البلدان التي أخذت بها. في الحالة المصرية، وهي ليست بعيدة كثيراً عن الدول الأخرى، تم التوافق على استعادة التوازن المالي تدريجياً، عن طريق تخفيض الإنفاق وزيادة الإيرادات. وجاء تخفيض الإنفاق بشكل أساسي عن طريق رفع الدعم عن المحروقات، وزيادة أسعار الخدمات العامة، مثل الكهرباء والغاز الطبيعي والمياه. وانصبت إجراءات زيادة الموارد بشكل كبير على تفعيل ضريبة القيمة المضافة ورفع سعرها، وبيع بعض الأصول العامة، إذا أمكن ذلك.
وتضمن الاتفاق تخصيص بعض الموارد لتخفيف العبء على الفقراء، ومن هنا ظهرت برامج تكافل وكرامة، كجزء من منظومة الحماية الاجتماعية.
وفي سبيل إعادة التوازن للحساب الجاري، تم الاتفاق على تغييرات كبيرة في السياسة النقدية، أهم بنودها تعويم العملة المحلية، ووضع سقف على المعروض النقدي، ورفع سعر الفائدة. وفي غضون سنوات قليلة، شهدت المؤشرات الكلية تحسناً ملحوظاً، لكن تكلفة تطبيق البرنامج كانت عالية، كما سيتضح فيما يلي.
على الجانب الإيجابي، شهدت مؤشرات الاقتصاد الكلي في مصر تحسناً كبيراً، ومنها انخفاض عجز الموازنة قبل البرنامج من نحو 13 - 12 في المائة من الدخل القومي إلى نحو 8 في المائة، واختفاء السوق السوداء للدولار، وتراجع الدين العام كنسبة من الدخل القومي. وفي مرحلة لاحقة، عمل البنك المركزي على تخفيض أسعار الفائدة، وتحسنت موارد الاقتصاد من العملة الأجنبية، خاصة من تحويلات المصريين في الخارج، وزادت التدفقات الرأسمالية الساخنة. على أثر كل ذلك، بدأ الاقتصاد في النمو بمعدلات قريبة مما كانت عليه قبل 2011. على الجانب السلبي، جاء التحسن في الأداء الاقتصادي مكلفاً للطبقتين الفقيرة والمتوسطة.
بشكل أكثر دقة، ارتفعت معدلات التضخم بعد التعويم لمستويات غير مسبوقة، وصلت إلى أكثر من 30 في المائة سنوياً، في وقت لم تزد فيه الدخول بالنسبة نفسها. كما ارتفعت نسبة من يقعون تحت خط الفقر في مصر إلى أكثر من ثلث المصريين، وتباطأ النشاط الاقتصادي جراء السياسات الانكماشية، ولم يخفف من وطأتها سوى التوسع في النشاط العقاري خارج الموازنة العامة. صحيح أن تعديل الأسعار، وخاصة فيما يتعلق بالطاقة والخدمات العامة، ساعد على ترشيد سلوك المنتجين والمستهلكين، لكنه افتقد الآليات التي تضمن أن الزيادات ليست نتيجة تدني كفاءة المؤسسات المعنية.
السؤال الأخير هو: هل كان برنامج الصندوق حتمياً ومبرراً؟ بشكل عام، الإجابة هي بالطبع لا، خاصة عندما تكون الدولة قادرة على احتواء ما تواجهه من صدمات داخلية أو خارجية مؤقتة. وهذا ما فعلته أميركا لتتخطى الأزمة المالية العالمية عام 2008، من خلال اتباع سياسة اقتصادية توسعية، وليست انكماشية. وهذا أيضاً ما يمكن أن تقوم به الدول النفطية، إذا أرادت، بحكم حوزتها لأرصدة متراكمة من عائدات النفط في الصناديق السيادية.
أما معظم الدول النامية، ومنها مصر، فحاجتها لدعم الصندوق، في غياب معونة الأصدقاء، ليست محل نقاش. هذا لا يعني التسليم وقبول كل ما يطرحه الصندوق من شروط، ولا يعني أن الحكومات غير مسؤولة عن الآثار التوزيعية السلبية للبرنامج، ولا يعني تحميل جل العبء على الطبقات الاجتماعية الأقل حظاً، وأهم من هذا وذاك، لا يعني أن برنامج الصندوق كافٍ لضمان تعافي الاقتصاد في الأجل المتوسط. حقيقة الأمر أن الحكومات، في أثناء التفاوض، يمكنها أن تختار بدائل تحقق أهداف التوازن المالي والنقدي، والكفاءة، وعدالة توزيع الأعباء في وقت واحد.
كما أنها تستطيع محاولة تعظيم استجابة القطاعات الحقيقية في الاقتصاد، من زراعة وصناعة وسياحة وخدمات، للإصلاحات الكلية، وذلك بتبني برامج لتحسين مناخ الأعمال، وأسواق العمل، والمنافسة، وبرامج إصلاح مؤسسي لترشيد دور الدولة في الاقتصاد، سواء كمنتج أو مراقب أو صانع للسياسات. التخاذل عن اتخاذ ما يلزم لا يبرر الاكتفاء بإلقاء اللوم على برامج الصندوق، رغم وفرة التحفظات على هذه البرامج.
- وزير المالية السابق في مصر



فلسطينيو الضفة يتنفسون من رئة إسرائيل ويخشون عقاباً جماعياً

TT

فلسطينيو الضفة يتنفسون من رئة إسرائيل ويخشون عقاباً جماعياً

فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)
فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)

لا يتمنى الفلسطينيون في الضفة الغربية، ربما بخلافهم في قطاع غزة، حرباً مفتوحة بين إسرائيل و«حزب الله» اللبناني. فهم يدركون بخبرة العارفين بعقلية إسرائيل ومن باب التجربة السابقة في الحروب والانتفاضات، بما في ذلك الحرب الحالية على القطاع، أنهم سيدفعون ثمناً كبيراً، سياسياً واقتصادياً يمسّ حياتهم وحقوقهم واحتياجاتهم اليومية الرئيسية. وبعد أن يتحولوا معتقلين في سجن الضفة الكبير، لا شيء قد يثني إسرائيل عن قتلهم واعتقالهم وملاحقتهم.

في السيناريو الأبسط لحرب محتملة بين إسرائيل و«حزب الله»، ستنعزل إسرائيل وتغلق حدودها غير المعروفة، وستكون في حاجة إلى عزل الفلسطينيين في الضفة بشكل تام، انطلاقاً من حاجتها إلى كبح جماح جبهة ثالثة محتملة. هذا يعني بلا شك، تقييد الحركة ومنع السفر وتوقف تدفق البضائع إلى أسواق الضفة، وسيشمل ذلك وقف إسرائيل إمداد الفلسطينيين بالكهرباء والماء والوقود، انطلاقاً من أنها ستحتفظ لنفسها بأي مقدرات كهذه، بعد أن يقصف «حزب الله» شركات الكهرباء والمياه والمطارات، مرسلاً إسرائيل إلى أزمة غير مسبوقة، سيدفع الفلسطينيون أيضاً ثمنها بلا شك.

لكن إذا كانت إسرائيل دولة يمكن لها التعامل مع أزمات من هذا النوع، وهذا ما زال غير واضح إلى أي حد، فالسلطة الفلسطينية غير قادرة على ذلك وهي التي تعيش أزمات عميقة اليوم، مالية واقتصادية وأمنية، وفي حقيقة الأمر وجودية.

وليس سراً أنهم في إسرائيل يستعدون لسيناريوهات تتعامل مع شلل كامل، سيتضمن ظلاماً دامساً وطويلاً في مطار بن غوريون، وانهيار مبانٍ وجسور وإصابة طرق رئيسية، وانقطاعاً في الكهرباء والماء الوقود، ونقصاً في المواد الأساسية.

جثمان الطفل غسان غريب 13 عاماً محمولاً على الأكتاف وكان قتل برصاص إسرائيلي قرب رام الله في يوليو الحالي (أ.ف.ب)

وقف مقومات الحياة

ولم تكن تصريحات المدير العام لشركة إدارة الكهرباء الحكومية الإسرائيلية شاؤول غولدشتاين، الأخيرة حول إسقاط شبكة الكهرباء في إسرائيل في حالة حرب مع «حزب الله» مجرد جرس إنذار في إسرائيل، بل أيضاً في الضفة الغربية التي تشتري الكهرباء من إسرائيل.

وقال غولدشتاين: «نحن في وضع سيئ ولسنا مستعدين لحرب حقيقية (...) خلاصة القول هي أنه بعد 72 ساعة لن يمكنك العيش في إسرائيل. إسرائيل لن تكون قادرة على ضمان الكهرباء في حالة الحرب في الشمال بعد 72 ساعة»، مضيفاً: «لسنا مستعدين لحرب حقيقية».

وما ينسحب على الكهرباء ينسحب على المياه والوقود.

فحتى قبل حرب مفترضة مع بداية الصيف الحالي، بدأ الفلسطينيون يعانون العطش، بعدما أخذت شركة «ميكروت» الإسرائيلية قراراً بتقليص كمية المياه الواردة إلى مناطق الضفة، كنوع من عقاب تعوّد عليه الفلسطينيون.

مسنّ فلسطيني وأطفال يشربون من عبوات تبرعت بها جمعيات لبلدات في الضفة الغربية قطعت عنها إسرائيل مياه الشفة (غيتي)

وبحسب أرقام رسمية، فإن متوسط استهلاك الفرد اليومي من المياه في إسرائيل، بما في ذلك المستوطنات، يبلغ 247 لتراً، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف متوسط استهلاك الفرد الفلسطيني اليومي في الضفة الغربية، والذي يبلغ 82.4 لتر، وفي التجمعات الفلسطينية غير الموصولة بشبكة مياه، يصل إلى 26 لتراً، فقط.

تخزين طحين ودواء وسولار

لا يمكن تخيل وضع معظم الفلسطينيين في الضفة الذين يتلقون اليوم (أي قبل الحرب) مياهاً جارية أقل من 10 أيام في الشهر؛ لأن الحصة المتبقية من المياه ينعم بها الإسرائيليون.

وفي إحصائيات السنوات الماضية، وصل إجمالي استهلاك الإسرائيليين من المياه عشرة أضعاف إجماليّ ما استهلكه الفلسطينيون في الضفة الغربية، وهي أرقام ستتغير لصالح الإسرائيليين هذا العام.

ويفهم الفلسطينيون في الضفة أنهم لن يجدوا أي قطرة ماء مع اندلاع الحرب المفترضة، التي ستتركهم أيضاً بلا كهرباء ولا دواء ولا وقود، وهو ما يخلق قلقاً وإرباكاً الذي يتسلل إليهم اليوم، وحمل بعضهم على تخزين الكثير من الطحين والمعلبات والمياه المعدنية.

وقال سعيد أبو شرخ: «لم أود الانتظار أكثر. اشتريت بعض الطحين والمعلبات والمياه».

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «بعد دقيقة واحدة من الحرب سيدبّ هلع كبير. ستصبح الأسعار جنونية، ثم سنفقد البضائع. وقد نعيش التجربة القاسية التي اختبرها الغزيون في القطاع».

وعانى قطاع غزة فقدان الكهرباء والمياه والدواء والمواد الأساسية، ووصل الأمر إلى حد مجاعة حقيقية أفقدت الناس حياتهم.

وبالنسبة إلى أبو شرخ، فإنه يفضّل أن يكون مستعداً، أسوة بالكثير من أصدقائه الذين لجأوا إلى شراء كميات أكبر من الطحين والمعلبات وصناديق المياه، وحتى كميات من البنزين أو السولار، كخطة احتياطية.

وفي اختبار قصير سابق، عندما انطلقت المسيّرات والصواريخ الإيرانية، تجاه إسرائيل، لم يكن ممكناً الوصول إلى البقالات بسهولة، وهرع الناس لشراء ما يجنبهم انقطاع الطعام الرئيسي، أما محطات الوقود ففقدت مخزونها لأيام عدة، في «بروفة» لما يمكن أن يحدث في حرب حقيقية.

ولا يريد عبد العظيم عواد، أن يضع نفسه في اختبار آخر.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «لم أجد بعد ساعة واحدة من انطلاق المسيّرات الإيرانية الكثير من المواد الغذائية. لم أجد وقوداً لأيام عدة. وخفت أن تندلع الحرب فعلاً. لم يكن لدي أي استعدادات».

وعلى الرغم من ذلك، يُمنّي عواد النفس بألا يضطر إلى عيش التجربة مرة أخرى على نحو أصعب، ولا يريد أن يرى حرباً أخرى.

وأضاف: «تعبنا من الحرب. الوضع صعب. الأشغال تضررت، الاقتصاد منهار. لا توجد رواتب والعمال لا يذهبون إلى إسرائيل. والتجار يشكون. حرب أخرى طويلة مع لبنان ستعني دماراً حقيقياً هنا. أعتقد سيكون وضعاً كارثياً».

ضائقة اقتصادية غير مسبوقة

وعانت الضفة الغربية وضعاً اقتصادياً معقداً ستحتاج معه إلى فترة ليست قصيرة من أجل التعافي.

وقال وزير الاقتصاد الفلسطيني محمد العامور، إن الاقتصاد الفلسطيني يواجه صدمة اقتصادية «غير مسبوقة»، تصاعدت حدتها، بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

عمال مياومة فلسطينيون ينتظرون عند معبر إسرائيلي ليتم إدخالهم للعمل (غيتي)

وأكد العامور معقّباً على تقرير للبنك الدولي حذَّر فيه من أن السلطة الفلسطينية تواجه مخاطر «انهيار في المالية العامة»، وأن العدوان، والإبادة الجماعية والحصار المالي والاقتصادي والسياسة المتطرفة التي تنفّذها حكومة الاحتلال تتسبب في انكماش اقتصادي وتعطل الحركة التجارية.

وتوقع أن يصل الانكماش إلى 10 في المائة.

وبحسبه، فإن الاقتصاد يخسر يومياً نحو 20 مليون دولار في جزئية توقف الإنتاج بشكل كلي في قطاع غزة، وتعطله في الضفة الغربية، إلى جانب تعطل العمالة، والتراجع الحاد في النشاط الاقتصادي والقوة الشرائية.

وكان البنك الدولي، قد حذّر في تقرير الشهر الماضي، من أن السلطة الفلسطينية تواجه مخاطر «انهيار في المالية العامة»، مع «نضوب تدفقات الإيرادات» والانخفاض الكبير في النشاط على خلفية العدوان على قطاع غزة.

وأكد البنك الدولي أن «تدفقات الإيرادات نضبت إلى حد كبير؛ بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إسرائيل لإيرادات المُقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية، والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي».

وبحسب التقرير، فإن «الاقتصاد الفلسطيني فقد ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ 7 أكتوبر، يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية».

وأكد التقرير أيضاً ارتفاع معدل الفقر، موضحاً: «في الوقت الحاضر، يعيش جميع سكان غزة تقريباً في حالة فقر».

وبحسب تقارير دولية سابقة، فقد أدت الحرب في غزة إلى إغلاق الاقتصاد فعلياً هناك، بعدما تم تدمير الأساس الإنتاجي للاقتصاد في القطاع والذي انكمش بنسبة 81 في المائة في الربع الأخير من عام 2023.

وتضرر الاقتصاد أيضاً في الضفة الغربية وانكمش كذلك، بسبب الحصار السياسي والمالي للسلطة والفلسطينيين.

مأزق السلطة

تعاني السلطة في الضفة وضعاً مالياً حرجاً اضطرت معه منذ بدء الحرب إلى دفع نصف راتب فقط لموظفيها.

ومنذ عامين تدفع السلطة رواتب منقوصة للموظفين في القطاعين المدني والعسكري؛ بسبب اقتطاع إسرائيل نحو 50 مليون دولار من العوائد الضريبية، تساوي الأموال التي تدفعها السلطة لعوائل مقاتلين قضوا في مواجهات سابقة، وأسرى في السجون الإسرائيلية، إضافة إلى بدل أثمان كهرباء وخدمات طبية.

وعمّقت الحرب على غزة هذه الأزمة بعدما بدأت إسرائيل باقتطاع حصة غزة كذلك.

مظاهرات داعمة لغزة في رام الله نهاية مايو الماضي (غيتي)

وإضافة إلى موظفي السلطة، فقد أكثر من 150 ألف عامل فلسطيني من الضفة مصدر دخلهم الوحيد منذ السابع من أكتوبر الماضي، بعدما جمّدت إسرائيل تصاريح دخولهم إلى أراضيها أسوة بنحو 20 ألف عامل من قطاع غزة أُلغيت تصاريحهم بالكامل.

وساعد منع العمال من دخول إسرائيل في تدهور أسرع في الاقتصاد في الضفة الغربية، مع الوضع في الحسبان أن أجورهم كانت تصل إلى نحو مليار شيقل شهرياً (الدولار 3.70) مقارنة بفاتورة رواتب موظفي السلطة الشهرية التي تبلغ نحو 560 مليون شيقل شهرياً.

وقال مروان العجوري، أحد العمال الذين فقدوا مصدر رزقهم الوحيد، لـ«الشرق الأوسط»: «منذ 9 أشهر لم يدخل لي شيقل واحد. لقد استنفدنا».

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «ننتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب في غزة، هل تعرف ماذا يعني حرب جديدة مع «حزب الله»؟ يعني على الدنيا السلام. دمار دمار. ما ظل إلا الهجرة بعدها». وتابع: «لا إسرائيل بتتحمل ولا إحنا».

ويخشى الفلسطينيون فعلاً أن إسرائيل قد تستخدم أدوات ضغط كبيرة عليهم في الضفة الغربية من أجل حثّهم على الهجرة، مستغلة انشغال العالم في حرب كبيرة مع لبنان.

مصادرة أراضٍ ودفع للهجرة

وخلال الأشهر القليلة الماضية، فتكت إسرائيل بالضفة الغربية بكل الطرق، حصار مالي وقتل واعتقالات ودفعت خططاً لتغيير الوضع القائم باتجاه إحباط أي أمل لإقامة الدولة الفلسطينية.

وفي الرابع من الشهر الحالي صادقت إسرائيل على مصادرة 12.7 كيلومتر مربع من أراضي الضفة الغربية، في مصادرة وصفتها منظمة «السلام الآن» الإسرائيلية بأنها الأكبر منذ ثلاثة عقود وتمثل ضربة جديدة للسلام بين الجانبين.

وبحسب «السلام الآن»، فإن الأراضي التي حوّلتها إسرائيل «أراضي دولة» تقع في منطقة غور الأردن، وهي الأكبر منذ اتفاقيات أوسلو 1993.

وبهذه المصادرة، ترتفع مساحة الأراضي التي أعلنتها إسرائيل «أراضي دولة» منذ بداية العام إلى 23.7 كيلومتر مربع.

بعد ذلك بأيام عدة صادرت إسرائيل أراضي أخرى قرب مستوطنات في الضفة.

وتسيطر إسرائيل على الضفة الغربية منذ عام 1967، وأقامت الكثير من المستوطنات التي يعيش فيها من دون القدس الشرقية أكثر من 490 ألف إسرائيلي مقابل ثلاثة ملايين فلسطيني.

وهؤلاء المستوطنون بدأواً حرباً، خاصة في الضفة، مستغلين الحرب على قطاع، في محاولة لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة، فقتلوا فلسطينيين وهاجموا قرى وصادروا المزيد من الأراضي، تحت حماية الحكومة.

وقال مسؤول إسرائيلي كبير إن الحاكم الفعلي للضفة الغربية اليوم هم رؤساء المجالس المحلية للمستوطنات. متهماً رئيس المجالس الاستيطانية كافة، يوسي داغان، بقيادة الفوضى التي صاحبت حالة الحرب.

ولا ينحصر تأثير داعان في معرفته باعتداءات المستوطنين ودعمه توسعهم بكل الأشكال القانونية وغير القانونية، وإنما يمتد أيضاً إلى مجال إقناع السلطات الإسرائيلية والجيش برعاية هذه الاعتداءات أو غض النظر عنها.

وعملياً، ترعى الحكومة الإسرائيلية هؤلاء المستوطنين، ولا تخفي أنها في حرب على جبهة الضفة.

وقتلت إسرائيل نحو 600 فلسطيني منذ السابع من أكتوبر واعتقلت ما يقارب الـ10 آلاف ودمّرت بنى تحتية في طريقها لإضعاف السلطة الفلسطينية ومنعها من إقامة دولة.

واعترف وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بأنه لا يفعل أي شيء سري، وإنما يعمل بوضوح من أجل منع إقامة «دولة إرهاب فلسطيني» و«تعزيز وتطوير الأمن والاستيطان».

وجاء تصريح سموتريتش تعقيباً على ما أوردته صحيفة «نيويورك تايمز»، حول خطة حكومية رسمية سرية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية دون الحاجة إلى الإعلان رسمياً عن ضمها.

خطة لتغيير حكم الضفة

وكان تسجيل مسرّب لسموتريتش فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية، بحسب تقرير نُشر في صحيفة «نيويورك تايمز».

فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)

ونقل عن سموتريتش: «أنا أقول لكم، إنه أمر دراماتيكي ضخم. مثل هذه الأمور تغير الحمض النووي للنظام».

وتحكم السلطة الفلسطينية اليوم المنطقة «أ» في الضفة الغربية وتشارك الحكم في المنطقة «ب» مع إسرائيل في حين تسيطر إسرائيل على المنطقة «ج» التي تشكل ثلثي مساحة الضفة.

وكان يفترض أن يكون هذا الإجراء مؤقتاً عند توقيع اتفاق أوسلو بداية التسعينات، حتى إقامة الدولة الفلسطينية خلال 5 سنوات، لكن تحول الوضع إلى دائم، قبل أن تتخذ إسرائيل خطوات ممنهجة ضد السلطة أدت إلى إضعافها بشكل كبير.

وفي خطوة مهمة وحاسمة ضمن خطة سموتريتش، صادق جنرال عسكري كبير على تحويل مجموعة من الصلاحيات في الضفة الغربية إلى مدير مدني هو هيليل روط، في مؤشر على أن الحكومة الإسرائيلية زادت من سيطرتها المدنية على المنطقة في خطوة أخرى نحو الضم الفعلي.

ووصف الناشط المناهض للاستيطان يهودا شاؤول هذه الخطوة بأنها «ضم قانوني»، مضيفاً أن «الحكم المدني الإسرائيلي امتد إلى الضفة الغربية» تحت إشراف سموتريتش.

وتشمل الصلاحيات المفوضة لروط السلطة على معاملات العقارات، والممتلكات الحكومية، وترتيبات الأراضي والمياه، وحماية الأماكن المقدسة (باستثناء الحرم الإبراهيمي وقبر راحيل وقبر صموئيل)، والقوانين المتعلقة بالغابات، والسياحة، والحمامات العامة، وتخطيط المدن والقرى والبناء، وبعض عمليات تسجيل الأراضي، وإدارة المجالس الإقليمية، وغير ذلك الكثير.

واليوم على الأقل لا يوجد داخل الحكومة الإسرائيلية، أي خلاف بشأن ضم المناطق «ج»، حتى أن مسؤولين يرون أنه واحدة من الحلول للضغط على «حماس» نفسها في غزة.

واقترح النائب ألموج كوهين من «عوتسماه يهوديت» الذي يتزعمه وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير خلال مقابلة مع «i24NEW» ضم المناطق حتى يعود المحتجزون في غزة. وأضاف: «الأراضي مقابل المختطفين، الأمر بسيط للغاية».

وقال الخبير في الشأن الإسرائيلي كريم عساكرة إن اندلاع حرب بين «حزب الله» وإسرائيل، سيجلب تداعيات خطيرة على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، لا سيما من الناحيتين الإنسانية والسياسية.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «سيفتكون بالضفة بلا شك. حيث يتوقع أن يستغل اليمين في الحكومة الإسرائيلية الحرب، وانشغال العالم بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار، لتنفيذ مخططات الضم والتهويد التي ستجعل من الضفة الغربية ملحقاً لإسرائيل لا يمكن أن يكون مكاناً لإقامة دولة فلسطينية مستقلة».

وتابع: «التحريض الإسرائيلي على الفلسطينيين في الضفة الغربية، ووجود دعم إيراني لتحريك العمل العسكري في الضفة، ربما أيضاً يكون ذريعة لعقاب جماعي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين، فتزيد من القمع والحصار والتنكيل بهم لدرجة يصل فيها الفلسطينيون إلى مرحلة لا يستطيعون العيش في ظل تلك الظروف، التي تسعى إسرائيل إلى أن تنتهي بترحيل قسم من الفلسطينيين إلى خارج وطنهم.»

أما على الجانب الإنساني، فيرى عساكرة «أن ارتباط الفلسطينيين في الضفة بإسرائيل في نواحي الحياة كافة، سيؤدي إلى تأثرهم بشكل كبير، خاصة في مجال الطاقة والمياه، وفقدان الاستقرار الغذائي نتيجة لتضرر الموانئ الإسرائيلية، وربما سيكون وضع الفلسطينيين أكثر صعوبة من الإسرائيليين؛ لعدم وجود سلطة قادرة على تقديم أي مساعدة طارئة للمواطنين، على عكس إسرائيل التي تدرس كل جوانب التأثير الإنساني للحرب لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين».

وهذا الوضع لا تغفله السلطة الفلسطينية التي تدرك حجم الضرر المتوقع، وتبدو آخر كيان يريد لهذه الحرب أن تشتعل.

وقال مسؤول فلسطيني لـ«الشرق الأوسط»: «حتى قبل حرب محتملة مع لبنان. إنهم يسعون لتفكيك السلطة وانهيارها، ولديهم مخطط واضح لدفع الفلسطينيين على الهجرة. ليس فقط في قطاع غزة وإنما الضفة. هذا اليمين المجنون لن يفوّت حرباً كهذه قبل أن يحقق حلمه بالسيطرة والاستيطان والتخلص من الكينونة الفلسطينية».

ويعترف المسؤول بأنه ليس لدى السلطة القدرة على مواجهة تداعيات حرب كهذه، وهي تواجه قبل ذلك خطر الانهيار.

باختصار شديد، خلف «حزب الله»، توجد إيران وفصائل في العراق وسوريا واليمن، وفي النهاية الدولة اللبنانية التي خلفها توجد دول، وخلف إسرائيل توجد الولايات المتحدة ودول وقوى أخرى عظمى. اما الفلسطينيون في الضفة الغربية فخلفهم سلطة محاصرة وضعيفة لا حول لها ولا قوة، وتقريباً لا بواكي لهم أو لها.