40 ألف عراقي يعيشون في «الهول»... ونصفهم يريد العودة إلى بلده

تنسيق بين الإدارة الكردية شرق سوريا وبغداد لإعادتهم (2 من 3)

مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
TT

40 ألف عراقي يعيشون في «الهول»... ونصفهم يريد العودة إلى بلده

مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)

يؤوي مخيم الهول، الواقع أقصى شمال شرقي سوريا، عشرات آلاف النازحين ومنهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال العراقيين. منهم من جاء برغبته، وعددهم قليل، بعد فراره من موطنه إثر سيطرة تنظيم داعش المتطرف، أو هجمات معاكسة من ميليشيات الحشد الشيعي الموالية لإيران. ومنهم أيضاً أفراد عائلات مسلحي داعش، ويشكلون الغالبية، الذين خرجوا من مناطق التنظيم بعد القضاء على سيطرته الجغرافية ربيع العام الماضي.
ويضم مخيم الهول اليوم أكثر من 40 ألفاً من العراقيين، وهم نحو 9 آلاف عائلة، من أصل 68 ألفاً، ويؤوي نساءً وأطفالاً تخلى عنهم آباؤهم من عناصر التنظيم، إما بالذهاب إلى جبهات القتال حيث لقوا مصرعهم، وإما لأنهم استمروا بالقتال، واستسلموا في معركة الباغوز بريف دير الزور، لدى القضاء على آخر معقل للتنظيم في مارس (آذار) العام الماضي. ومن بقي على قيد الحياة من الرجال ظل محتجزاً خلف القضبان، وبات مصيرهم مجهولاً. كما تخلت حكومة بغداد عنهم، وهي ترفض استعادتهم، رغم مطالبات السلطات الكردية والولايات المتحدة بذلك.
- عائلة عراقية
تروي شيمة، وهي في منتصف عقدها الخامس، المنحدرة من مدينة الموصل العراقية، كيف فروا في أثناء المعارك في مسقط رأسها صيف 2015، وكيف قتل زوجها وابنها الأكبر، وكانا مقاتلين في صفوف تنظيم داعش، إذ نزحت هي ومن تبقى من عائلتها إلى مدينة القائم الحدودية مع سوريا. وبعد اشتداد المعارك هناك، دخلت الأراضي السورية، وقصدت قرية أبو حمام، بريف دير الزور الشمالي، بداية، ثم هجين والسوسة والشعفة، وآخر مكان كانوا فيه بلدة الباغوز.
ومن تحت خيمتها التي لا تقيها برودة الطقس وسخونة فصل الصيف التي تتعدى درجات الحرارة فيه 45 درجة مئوية، بدأت رواية قصتها، وكانت يداها متشابكتين، لتقول: «خرجت أنا وبناتي الثلاث، وبقي عندي ولدان، أحدهما عمره 10 سنوات، والأصغر عمره 5 سنوات، يسكنون معي في هذه الخيمة».
وحولت خيمتها إلى شبه منزل، بأثاث بسيط، حيث خصصت قسماً للمطبخ، ووضعت بعض الأواني والملاعق وكاسات الشاي، وقسماً آخر لحمام معزول بغطاء رمادي داكن، فيما افترشت مدخله، وبات صالون بيتها، ببساط عربي قديم، وزاوية صغيرة لوضع الحاجات الشخصية، وخزانة رسم عليها شعار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
وطلبت ابنتها البكر الحديث لتعرف عن نفسها، قائلة: «أنا هيفاء، عمري 30 سنة، متزوجة من مقاتل لا يزال بصفوف التنظيم، ولا أعلم عنه شيئاً، وربما يكون قد قتل، وقد رزقت منه بطفلة ولدت بالباغوز، وعمرها اليوم عام وشهران»، لتتحمس أختها الثالثة وتتحدث قائلة: «أنا وداد، أصغر شقيقاتي، كنت متزوجة من مقاتل مغربي قتل بمعركة هجين قبل عامين. عندما تزوجت، كان عمري آنذاك 14 سنة، واليوم بلغت 17، وقد أنجبت منه طفلة عمرها سنة». وسكتت برهة واغرورقت عيناها بالدموع وهي تنظر إلى ابنتها الوحيدة، وأعربت عن مشاعرها المشوشة، لتزيد: «لا أعلم ماذا سأروي لها عندما تكبر: من كان والدها؟ وكيف قتل؟ وهل سأعدد لها الأماكن التي نزحنا لها جراء المعارك المستعرة».
في هذه البقعة الصحراوية من سوريا، التي تبعد نحو 30 كلم عن حدود العراق، تتعدى درجات الحرارة 45 درجة مئوية. فالمخيم الذي صمم في تسعينات القرن الماضي لاستقبال 20 ألف شخص، تجاوز عدد قاطنيه 70 ألفاً بعد معركة الباغوز العام الفائت.
- غضب وأسئلة
وقد تحول هذا المكان منذ عام إلى إناء كبير يفيض بالغضب والأسئلة التي تبحث عن إجابات شافية. فالمخيم يقطن فيه نسوة وأطفال تنظيم داعش الإرهابي، الذين تخلى عنهم أزواجهم وآباؤهم، وخلافتهم المزعومة التي التحقوا بها، علاوة على حكوماتهم. ووسط السوق، تجمع كثير من النسوة العراقيات، وصرخن بصوت مرتفع: «أين هم أزواجنا؟ لماذا لا يفرجون عنهم؟ لماذا لا تسمح حكومة بغداد بإعادتنا؟». أسئلة تكررت كثيراً دون وجود أجوبة شافية.
ويستقبل مخيم الهول العراقيين منذ سنة 2016. وبحسب عدنان العبيدي، رئيس مجلس مخيم الهول للاجئين العراقيين: «عاد إلى العراق أكثر من 50 ألفاً طواعية حتى نهاية 2018. لكن منذ عام ونصف العام، ترفض السلطات الحكومية في بغداد استقبال مواطنيها الراغبين بالعودة».
وذكرت إدارة المخيم أن أكثر من 20 ألفاً من العراقيين يريدون العودة إلى بلدهم، شريطة نقلهم تحت إشراف ومراقبة منظمات الأمم المتحدة، والجهات الدولية الإنسانية، خشية من عمليات انتقامية من الحشد الشعبي الذي بات يسيطر على مناطق كثيرة بالعراق.
وأخبر العبيدي أن القوائم المسجلة لدى المكتب وصلت نسخة منها إلى حكومة بغداد، وقال: «الأسماء رفعت عن طريق المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والصليب الأحمر الدولي. وفي كل مرة، يصلنا إخطار بالموافقة وبدء الترحيل، لكن يتم إيقافه لأسباب نجهلها».
وعلى مد النظر، تمتد صفوف متراصة من الخيام، رسم عليها شعار المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين، وسط هبوب رياح جافة مغبرة، وتلبد الغيوم، وأكوام من النفايات، وخزانات ضخمة حمراء اللون، يتزود منها قاطنو المخيم بالمياه. فاللجنة الدولية للصليب الأحمر قدمت هذه الصهاريج، إلى جانب بناء المطابخ في كل قسم، مع دورات المياه والحمامات.
وحولت عائشة، ذات الثلاثين عاماً، خيمتها إلى محل لبيع الألبسة ومستحضرات التجميل، فغالبية سكان المخيم، لا سيما النساء والفتيات منهنّ، فروا بملابسهم التي عليهم. وتنحدر هذه السيدة من مدينة القائم العراقية، وقد فرت إلى سوريا رفقة زوجها الذي كان بصفوف التنظيم، وقتل في معارك دير الزور قبل عام، وقالت: «أبيع الألبسة الملونة والمزركشة. كنا نحلم أيام (الدواعش) بلبسها، لأنهم كان يجبروننا على ارتداء السواد، حتى أنهم كتبوا ذلك على جدران مدينتنا وشاخصات الإعلانات للتقيد بما سموه بـاللباس» المسموح به.
وعلى كل حبل أو سور خيمة، تشاهد مزيجاً من الألوان الزاهية، غير الأسود الذي كانت ترتديه جميع النساء والفتيات اللواتي يعشن في هذه البقعة: الوردي، والأزرق، والأحمر، والأخضر، والأصفر، وهي ألوان الملابس المغسولة من فساتين وبيجامات وقمصان وجوارب أطفال.
بيد أنّ خديجة (28 عاماً)، المنحدرة من بلدة الحديثة العراقية، وصلت للمخيم قبل سنتين. ورغم وجودها وعائلتها في خيمة مشتركة تفتقر لأدنى مقومات الحياة، فإن مشاعر الارتياح ارتسمت على وجهها وهي تتحدث: «كنت أعيش في الجحيم، إذ صادف أنه كان مقابل بيتي مقر للتنظيم، أشاهد عناصره يومياً، وأسمع آهات المعذبين وصراخ الجلادين». أما اليوم، فهي تنتظر العودة لبلدها، وتضيف: «نجوت من التنظيم، برفقة زوجي وأطفالي، ونفضل السكن تحت هذه الخيمة على العيش تحت حكم (الدواعش)، أو العودة لبلد تحكمه ميليشيات طائفية وحشد شيعي».
وتحدثت مديرة المخيم، ماجدة أمين، لـ«الشرق الأوسط»، من مكتبها بالمخيم، عن وجود تنسيق دبلوماسي عالي المستوى بين «الإدارة الذاتية - شمال شرقي» سوريا، والحكومة العراقية، حيث زارت وفود رسمية المنطقة، واطلعت على شؤون اللاجئين، وتعهدت بدرس وضع اللاجئين العراقيين في المخيمات السورية، وإعادتهم بإشراف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وقالت: «منذ بداية العام الماضي، توقفت رحلات إعادة العراقيين الراغبين بالعودة إلى بلدهم لأسباب تتعلق بالجانب العراقي. سلمنا قوائم الراغبين، ومنذ أشهر ننتظر الموافقة، دون نتيجة».
ووصفت مديرة المخيم الوضع بأنه «شديد الصعوبة وكارثي» في مخيم الهول، لوجود عشرات الآلاف من الأشخاص في حاجة حقيقية إلى المساعدة، حيث تعرض القسم الأكبر منهم لفظائع، وشهدوا حروباً ومشاهد موت يعجز عنها الوصف، ومعاناة بدنية ونفسية، وتشير إلى أن هؤلاء العراقيين يحتاجون إلى «الأمان والمأوى والغذاء والرعاية الصحية والصرف الصحي، إذ يفتقر المخيم لمراكز ومؤسسات تعليمية وترفيهية. وبإمكانات بسيطة، قمنا بافتتاح حديقة، كمتنفس لهذه الأسر والأطفال الذين يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة». وينتظر عزو عناد، البالغ من العمر ستين عاماً، وزوجته وأفراد أسرته، استقرار مناطقه، وسماح الحكومة العراقية. وهذه الأسرة تنحدر من منطقة جبال سنجار (شمال العراق)، التي تحكمها جهات عسكرية عدة، من بينها الحكومة المركزية في بغداد، وقال: «نعيش هنا منذ صيف 2017، ولا نريد العودة قبل بسط الأمن والأمان».
وفي سوق المخيم بسطات شعبية ومحال يتوفر فيها كل ما يطلبه الزبون، من مواد غذائية ومستحضرات، إلى مطاعم الكباب التي تشتهر بها معظم المدن العراقية. وأصحاب المحال عراقيون أو سوريون، ويتعالى ضجيج الأطفال والنساء اللواتي يتحدثن بلهجات متعددة.
وكحال الأخريات من العرقيات، قالت جواهر (45 سنة) إن صبرها قد نفد، وأصبحت حالة الانتظار كابوساً تعيشه مرغمة، وارتسمت علامات الحيرة على وجهها، وتساءلت قائلة: «إلى متى نبقى هنا؟ هل يشاهد العالم مأساتنا؟ هل تعلم الحكومة العراقية كيف نعيش في هذا المكان؟ متى سنعود؟».


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.