أنتوني فاوتشي... طبيب متواضع فرض احترامه على دونالد ترمب والأميركيين

أحد أبرز الشخصيات في مكافحة فيروس {كورونا}

أنتوني فاوتشي... طبيب متواضع فرض احترامه على دونالد ترمب والأميركيين
TT

أنتوني فاوتشي... طبيب متواضع فرض احترامه على دونالد ترمب والأميركيين

أنتوني فاوتشي... طبيب متواضع فرض احترامه على دونالد ترمب والأميركيين

قبل نحو شهر، لم يكن الطبيب الأميركي الدكتور أنتوني فاوتشي شخصية معروفة على نطاق واسع في الولايات المتحدة، رغم كونه مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في البلاد. بل، حتى بعدما عينه الرئيس دونالد ترمب عضوا في «فريق العمل» الخاص لمحاربة انتشار وباء الكورونا أو ما يعرف بـ«كوفيد – 19»، لم يلفت تعيينه النظر. ذلك أن ترمب الذي أجّل لأسابيع ثمينة تفعيل آلية عمل الفريق والإعلان عن خطة فيدرالية لمواجهة الوباء، اتهم بأنه كان يركّز على الجانب السياسي بدلاً من الجانب الصحي للتداعيات المرتقبة على انتشار الفيروس، بحسب العديد من المنتقدين.
يوم 29 يناير (كانون الثاني) الماضي، أي بعد نحو شهر من إعلان الصين عن إغلاق مدينة ووهان، بؤرة انتشار الوباء، أعلن البيت الأبيض تشكيل «فريق عمل» للإشراف على وتنسيق جهود الإدارة لرصد ومنع انتشار واحتواء وتخفيف انتشار فيروس «كوفيد – 19». ولقد تشكّل الفريق من 22 عضواً برئاسة نائب الرئيس مايك بنس، بينما كلفت الطبيبة الدكتورة ديبورا بيركس بمهام منسقة العمل والاستجابة.

فاوتشي يفرض نفسه
في الأسابيع الأولى من تشكيل «فريق العمل»، تولى ترمب غالبية التغريدات التي تتحدث عن الفيروس، محاولا التقليل من خطورته وانعكاساته على حملته الانتخابية، وعلى الوضع الاقتصادي الذي يراهن عليه في دعم تجديد انتخابه. غير أن الارتفاع المفاجئ في عدد الإصابات وبدء تسجيل أولى الوفيات في عدد من الولايات، فضلا عن الضغوط التي تعرض لها من الكونغرس إثر شيوع أنباء عن احتمال تعرض العديد من أعضائه للإصابة - من الحزبين الجمهوري والديمقراطي - اضطر ترمب للاقتناع بتقديم شخصية مؤهلة وموثوقة لتولي التحدث إلى الجمهور بمعايير طبية وعلمية، بعيدا عن السياسة.
بقامته القصيرة وشخصيته المتواضعة، تقدم أنتوني فاوتشي ليصبح مصدرا نادرا للصدق الصريح من بين أفراد فريق عمل البيت الأبيض. ورغم دفاعه عن تفاؤل ترمب، قدّم الطبيب المخضرم (79 سنة) توصياته بإجراءات حازمة في مواجهة الوباء من دون أن يثير غضب الرئيس، الذي أشاد به.
لا بل أضاف ترمب في مؤتمره الصحافي الذي أعلن فيه حالة الطوارئ في البلاد، أن فاوتشي كان يقوم «بعمل هائل» و«يعمل لساعات طويلة»، وهذا، رغم إبلاغ فاوتشي قبل يوم واحد أعضاء الكونغرس في جلسة استماع بأن الإجراءات التي دُعي الأطباء لتنفيذها لطلب اختبارات الفيروس قد فشلت، مقابل إصرار ترمب على القول بأنها كانت ناجحة.
وعندما سئل الرئيس ترمب خلال اجتماع في البيت الأبيض الأسبوع الماضي عما إذا كان هناك جدول زمني لاكتشاف لقاح للوباء، لم يخش فاوتشي من تصحيح معلومات الرئيس أمام الصحافيين. إذ قال ترمب «أنا لا أعرف الوقت اللازم، لكنني سمعت أن الأمر سيكون سريعا جدا، خلال أشهر. وسمعت أنه قد يكون سنة على أبعد تقدير، لذا أعتقد أن الأمر ليس سيئا، سواء كان خلال أشهر أو سنة». لكن فاوتشي بادر فوراً لتصحيح كلام ترمب قائلا: «دعني أتأكد من حصولك على المعلومات الصحيحة. إن اللقاح الذي نصنعه وسنبدأ في اختباره خلال سنة ليس لقاحا يمكن تعميمه». وبينما تابع الطبيب شرح الجدول الزمني قائلا «إن الأمر سيكون في غضون سنة أو سنة ونصف، بغض النظر عن السرعة التي نسير فيها»، وقف ترمب مستمعا لشرحه.
وتكررت تصحيحات فاوتشي العلنية للرئيس يوم الاثنين الماضي، حين أعلن ترمب للصحافيين في البيت الأبيض أن هذا الفيروس التاجي «يمكن أن يستمر في التأثير على حياة الأميركيين حتى يوليو (تموز) أو أغسطس (آب) المقبل وقد يكون أطول من ذلك». فأوضح الدكتور فاوتشي، «أن المبادئ التوجيهية لن تستمر بالضرورة حتى أشهر الصيف، بل إن الجدول الزمني كان مسارا محتملا لتفشي الفيروس». وتابع «المبادئ التوجيهية هي دليل تجريبي لمدة 15 يوما لإعادة النظر... لا يعني أن هذه الإرشادات ستكون سارية المفعول حتى يوليو. ما كان يقوله الرئيس هو أن مسار التفشي قد يستمر حتى ذلك الحين». ومن على المنصة أعلن ترمب اتفاقه معه.
كيف تقبّل ترمب تصريحات الطبيب الخبير وملاحظاته العلمية، وهو لطالما وصف نفسه بأنه أحد «العباقرة»، سواءً تعلق الأمر بموضوع علمي أو سياسي أو مناخي؟

بطاقة هوية
قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى تاريخ الدكتور أنتوني فاوتشي، الذي حاز على احترام الأميركيين مبكرا. فهو لا يزال في موقعه كمدير للمعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، منذ العام 1984، ولقد قدم النصح لكل الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض منذ عهد رونالد ريغان وحتى اليوم. اسمه الكامل أنتوني ستيفن فاوتشي، من مواليد عام 1940 في منطقة بروكلين بمدينة نيويورك، وهو كاثوليكي من أصول إيطالية. والدته يوجينيا فاوتشي ووالده الصيدلي ستيفن فاوتشي، كان يمتلك صيدلية خاصة، عمل فيها أنتوني لبعض الوقت. وهو متزوج من الدكتورة كريستين غرادي منذ عام 1985، بعد لقائهما أثناء علاج أحد المرضى. وزوجته هي رئيسة قسم أخلاقيات البيولوجيا في مركز المعاهد الوطنية للصحة السريرية. ولهما ثلاث بنات بالغات هن: جينيفر وميغان وأليسون.
تلقى فاوتشي تعليمه الابتدائي والثانوي في نيويورك، إذ تخرج من مدرسة ريجيس الثانوية في المدينة، قبل أن يلتحق بكلية هولي كروس (الصليب المقدس) التي تعد من أعرق الجامعات الكاثوليكية في الولايات المتحدة وتخرج فيها بشهادة بكالوريوس علوم. ومنها انتقل إلى كلية الطب في جامعة كورنيل الشهيرة حيث حصل على درجة الدكتوراه في الطب عام 1966، ومن ثم أكمل تدريبه وتخصصه في مستشفى الجامعة.
في عام 1968 انضم إلى المعهد الوطني للصحة كمساعد في مختبر التحقيق السريري. في عام 1974 أصبح رئيسا لقسم علم وظائف الأعضاء السريري. وفي عام 1980 تم تعيينه رئيسا لمختبر التنظيم المناعي. في عام 1984، أصبح مديرا للمعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في البلاد. وهو المنصب الذي لا يزال يشغله حتى اليوم.
فاوتشي عضو في الأكاديمية الوطنية للعلوم، والأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم، والأكاديمية الوطنية للطب، وجمعية الفلسفة الأميركية، والأكاديمية الملكية الدنماركية للعلوم والآداب، بالإضافة إلى العديد من الجمعيات المهنية الأخرى بما في ذلك جمعية التحقيق السريري، وجمعية الأمراض المعدية الأميركية، والجمعية الأميركية لأختصاصيي المناعة. ثم إنه يعمل في هيئات تحرير العديد من المجلات العلمية. عمل كمحرر لمبادئ هاريسون للطب الباطني، بجانب كونه مؤلفا أو محررا لأكثر من 1000 مطبوعة علمية، بما في ذلك العديد من الكتب المدرسية.

خبرته قديمة في حالات الطوارئ
لم يكن أنتوني فاوتشي غريبا عن قيادة الاستجابة الفيدرالية لحالات الطوارئ الصحية على المستوى الوطني. إذ سبق له أن لعب دورا مهما في أوائل العقد الأول من القرن الـ21 في وضع خطة البيت الأبيض الطارئة للإغاثة من مرض الإيدز (مرض نقص المناعة المكتسب) وفي دفع تطوير العقاقير واللقاحات ذات الدفاع البيولوجي بعد الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001. ومع ترقيته مديرا للمعهد الوطني للحساسية NIAID، أصبح فاوتشي وجها عاما للاستجابة الفيدرالية لوباء الإيدز، بعدما شجع الحوار بين المعهد الوطني والمتظاهرين والناشطين الذين كانوا ينتقدون قصور الإجراءات الفيدرالية عن مواجهة المرض، قائلا إن توصياتهم كانت منطقية تماما. بعدها عمل أيضا على الاستجابة الفيدرالية لوباء «إيبولا» وفيروس «زيكا» و«الجمرة الخبيثة». وفي عام 2001. وسط المخاوف من «الجمرة الخبيثة» التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، كان أسلوب التواصل المباشر لفاوتشي واضحا. ووفقا لصحيفة «نيويورك تايمز»، فإنه بينما كان النقاش في واشنطن يدور حول مدى خطورة فيروس «الجمرة الخبيثة» التي عثر عليها في مكتب السيناتور الديمقراطي توم داشل، قال فاوتشي: «إذا كانت تمشي كالبطة وتتصرف مثل البطة، فهي بطة». وتابع «يمكنك أن تسميه ما شئت فيما يتعلق بدرجة وحجم الفيروس وهل استخدم كسلاح أم لا، لكن الحقيقة هي أنه يجب أن نتصرف معه على أنه عمل إرهابي بيولوجي عالي الكفاءة».

صاحب إنجازات علمية مثبتة
لقد قدم فاوتشي عددا من الإنجازات العلمية المهمة التي ساهمت في فهم تنظيم الاستجابة المناعية للبشر. وطوّر علاجات للأمراض المميتة سابقاً مثل التهاب العقيدات المتعددة، والتورم الحبيبي مع التهاب الأوعية، والورم الحبيبي اللمفاوي. وفي دراسة استقصائية لمركز التهاب المفاصل في جامعة ستانفورد الشهيرة في كاليفورنيا عام 1985 لجمعية الروماتيزم الأميركية، صُنّفت ابتكارات فاوتشي في علاج التهاب المفاصل العقيدي والورم الحبيبي مع التهاب الأوعية الدموية كأحد أهم التطورات في إدارة المرضى بأمراض الروماتيزم على مدى السنوات العشرين الماضية. ثم إنه ساهم في فهم كيفية تدمير فيروس نقص المناعة دفاعات الجسم ما يؤدي إلى تطور مرض الإيدز، وأوجز آليات تحريض التعبير عن فيروس نقص المناعة البشرية. كذلك عمل على تطوير استراتيجيات للعلاج وإعادة تكوين جهاز المناعة للمرضى المصابين، وأيضاً على لقاح لمنع الإصابة بفيروس الإيدز. وفي عام 2003. ذكر معهد المعلومات العلمية أنه في الفترة من 1983 إلى 2002. كان أنتوني فاوتشي العالم الثالث عشر الأكثر مرجعية من بين 2.5 إلى 3 ملايين مؤلف في جميع التخصّصات في جميع أنحاء العالم الذين نشروا مقالات في المجلات العلمية. في أكتوبر (تشرين الأول) 2014. خلال جلسة استماع في الكونغرس الأميركي بشأن أزمة فيروس «إيبولا»، أوصى فاوتشي بأهمية القيام بفحوص متكررة للمرضى لعدة أسابيع، وأكد بشكل صريح أن المعهد الوطني لا يزال بعيدا بعض الشيء عن إنتاج كميات كافية من العلاجات أو اللقاحات لتجارب واسعة النطاق. واليوم، ومع تصاعد غضب الرئيس ترمب من فشل محاولاته لاحتواء تداعيات فيروس كورونا، وتصاعد الارتباك بين المواطنين بشأن توافر ومعايير اختبار الفيروس، للتأكد مما إذا كان الشخص مصابا، فرض فاوتشي نفسه على كل من البيت الأبيض والرأي العام الأميركي، ليتحول مرجعا موثوقا تجاه التعامل مع الوباء.

يوازن بين ترمب والدقة
بدا فاوتشي مدركا للدور الذي يلعبه تجاه ترمب، وفي الوقت ذاته الحفاظ على أهمية قول الحقيقة خلال أزمة صحية وطنية حادة. وفي مقابلة مع مجلة «بوليتيكو»، قال: «لا يجوز أن تدمر صدقيتك أبدا. صحيح لا تريد خوض حرب مع الرئيس، لكن عليك أن تسير في توازن دقيق للتأكد من أنك تواصل قول الحقيقة». وحقاً، نادرا ما يتسامح ترمب مع المسؤولين الذين يتحدثون عن الفشل، كما فعل فاوتشي الأسبوع الماضي عندما سئل عن اختبار فيروس كورونا أمام الكونغرس. لكن حتى الآن، لا يبدو أن إدارة ترمب معنية بالرد عليه لمواجهة التوقعات الأكثر تفاؤلا من الرئيس وفريق العمل، الذي يتشكل إلى حد كبير من مسؤولين سياسيين وليس من الأطباء والخبراء. بل على العكس، نقلت وسائل إعلام أميركية تعليقات إيجابية عن تصريحات فاوتشي ودوره. وقال مسؤولون في البيت الأبيض إنها «كانت صريحة ومفيدة وجيدة جدا حتى الآن».
وفي الحقيقة، لم يكن فاوتشي ينتقد تماما طريقة تعامل ترمب مع فيروس كوفيد - 19. لا بل أعلن الأسبوع الماضي أن قرار الرئيس إصدار قيود على السفر من وإلى أوروبا أنقذ العديد من الأرواح. وهنا لا بد من القول بأنه في العادة، عندما يتعرض مسؤولو الصحة لأسئلة صعبة، فإنهم يلجأون إلى الإشادة بترمب، وهو ما ظهر مرارا سواء في المؤتمرات الصحافية التي عقدها الرئيس محاطا بأعضاء فريق العمل، أو في جلسات الاستماع أمام الكونغرس. لكن خلال الأيام الأخيرة، حثّ العديد من أعضاء الكونغرس الجمهوريين الرئيس على جعل فاوتشي الوجه العام لاستجابة الإدارة للوباء. ورغم تجاوب ترمب وإشادته به وبدوره في فريق العمل، طالب العديد من الجمهوريين ترمب بالذهاب أبعد من ذلك والسماح لهذا الطبيب المعروف بنزاهته وعمله الدؤوب بالتحدث والتعامل مباشرة مع وسائل الإعلام. وهو ما حدث بالفعل حين بدأ في الظهور أمامها ويحضر اجتماعات البيت الأبيض اليومية ويدلي بشهاداته أمام الكونغرس.
وما يُذكر أنه خلال جلسة استماع للجنة الفرعية بمجلس النواب في وقت سابق من هذا الشهر لمناقشة تمويل المعاهد الوطنية للصحة، اقترحت النائبة الديمقراطية عن ولاية كونتيكت روزا ديلورو تقديم الليمون والعسل و«ربما جرعة من الشراب» لتخفيف صوته. كما قال النائب الجمهوري عن ولاية ميريلاند أندي هاريس مازحا «أنا مندهش من قوة صوتك. يبدو أنك كنت في كل مكان. يجب أن يكون لديك توأم أو شيء من هذا القبيل». ولكن حتى في الأوقات الأكثر هدوءا يبدو أن فاوتشي يعمل على مدار الساعة. وسبق له القول بأنه يعمل من ستة إلى سبعة أيام في الأسبوع، من الصباح الباكر حتى وقت متأخر من الليل، حتى عندما لا تكون هناك أزمة. ومنذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قبل تفشي كوفيد - 19 في الولايات المتحدة، كان يعمل على خطة للقاح جديد للإنفلونزا، يمكن أن يغني عن أخذ اللقاحات السابقة التي تؤخذ سنوياً.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.