كيف تؤثر الصحف على الرأي العام في القضايا الكبرى؟

قصة صحيفة أميركية ناضلت للمساواة مطلع القرن العشرين

صورة من أرشيف جامعة كولومبيا لتروتر وهو محاط برفاقه
صورة من أرشيف جامعة كولومبيا لتروتر وهو محاط برفاقه
TT

كيف تؤثر الصحف على الرأي العام في القضايا الكبرى؟

صورة من أرشيف جامعة كولومبيا لتروتر وهو محاط برفاقه
صورة من أرشيف جامعة كولومبيا لتروتر وهو محاط برفاقه

رغم التهديد الوجودي لمكانة الصحف في منظومة الإعلام الحديث، فإن تأثيرها العام في الوجدان والرأي العام فيما يتعلق بالقضايا الكبرى ما زال هو الأعمق والأكثر مصداقية. وتاريخياً كان للصحف دور جذري في التعامل مع قضايا اجتماعية وسياسية وبعضها أسهم في تغيير توجهات الرأي العام فيما يتعلق بقضايا مثل: منح النساء حق التصويت، والمساواة في الحقوق، ومساندة حركات التحرير الوطنية، وتبني قضايا التفرقة العنصرية. وحديثاً تبرز قضايا حيوية أخرى مثل المحافظة على البيئة ومحاربة الفساد وتحسين الرعاية الصحية، وهي قضايا كان للصحف تأثير قوي في التعريف ورفع الوعي بها.
العوامل التي تجعل الصحف أكثر مصداقية في تناول هذه القضايا هو أنها تلتزم بقواعد المهنة ويعمل بها صحافيون محترفون في تخصصات متعددة، وبها صفحات للرأي، وهي عوامل يفتقر إليها بعض مصادر الإعلام الأخرى مثل منشورات الإنترنت. وما زالت الصحف مؤثرة في قضايا حيوية ربما كانت آخرها قضية العنصرية في الرياضة التي تسهم أكثر من صحيفة بريطانية في حملات لمكافحتها.
تاريخياً، كانت قضية التفرقة العنصرية من أهم القضايا التي واجهت أميركا والعالم في بدايات القرن العشرين. وتناولت الصحف آنذاك هذه القضية من زوايا متعددة منها ما كان يدافع عن المساواة ومنها ما كان يتمسك بالوضع القائم بل ويشجع جماعات عنصرية بيضاء. ولعل قصة الصحافي ويليام مونرو تروتر وصحيفة «بوسطن غارديان» التي أسسها في عام 1901 تصلح مثالاً لما يمكن للصحف أن تحققه في رفع الوعي العام.
نشأ تروتر في عصر العنصرية المتفشية في أميركا ضد السود حتى بعد تحرير العبيد حيث كانوا يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية يعانون من الاضطهاد وهجمات من جماعات عنصرية مثل «كوكلوكس كلان».
وأسس تروتر صحيفته لكي تكون «مرآة للمجتمع يرى فيها الوجه القبيح للعنصرية». نادى تروتر بالمساواة والديمقراطية للسود وشجع الثورة ضد التفرقة في كل المجالات. وفي الوقت نفسه كانت صحيفة «غارديان» البريطانية الأكثر شهرة تصدر من مدينة مانشستر وتشجع الليبرالية البريطانية وتنادي بالإصلاح المتدرج لقضية التفرقة العنصرية في أميركا.
*** قصة تروتر
وُلد ويليام مونرو تروتر في عام 1872 في حي هايدبارك في مدينة بوسطن، وتخرج في جامعة هارفارد عام 1895. ورغم أنه كان من عائلة ميسورة من الطبقة المتوسطة فإنه نشأ في أوج عصر التفرقة العنصرية في أميركا. وسادت في هذا العصر ممارسات مثل شنق السود بلا محاكمات في الولايات الجنوبية ومنعهم من الملكية والفصل بينهم وبين البيض في المجال العام من وسائل المواصلات إلى القاعات العامة.
ورفض تروتر عرضاً للتدريس في الولايات الجنوبية العنصرية لعدم رغبته في التعامل مع القيود المفروضة على السود في ذلك الوقت. وفكر تروتر وقتها في الهجرة إلى أوروبا قائلاً: «على الأقل سوف يعاملونني كرجل هناك».
ولكنه قرر أن يبقى وأن يحوّل اهتمامه إلى مكافحة هذا الوضع الرديء الذي يسيء معاملته لمجرد أنه رجل أسود. فقرر أن يؤسس صحيفته كأداة للدفاع عن السود من السود أنفسهم. ولم يكن تروتر هو الأول في هذا المجال فقد سبقته في عام 1827 صحيفة «فريدوم جورنال» في نيويورك التي أعلنت أن الوقت قد حان لكي ينتهي خداع الرأي العام من البيض الذين يتحدثون باسم السود. وفي الوقت نفسه كان استعباد السود سائداً في الولايات الجنوبية، وكانت الصحف البيضاء تبرره لأسباب اقتصادية وتطالب بتوسيع نطاق الاستعباد إلى الشمال الأميركي وبالتخلص من الهنود الحمر.
وفي أول افتتاحية لصحيفة «بوسطن غارديان» قال تروتر لقرائه إن «الصحيفة يجب أن تُعرف بما تفعل لا بما تقول. والغارديان ليست مثل الصحف السوداء الأخرى تقول شيئاً وتفعل عكسه. نحن نطلب للجنس الأسود الكرامة التي حرمنا منها العالم. ولن نعتذر أو نتراجع. ولن يكون أحدنا حراً ما لم يكن الجميع أحراراً».
كان تروتر يطالب بثورة تحرير من العبودية الرأسمالية على نحو مماثل لما كان كارل ماركس ينادي به لتحرير عمال العالم من رأس المال المستغل. ولتحقيق ذلك بدأ تروتر حملة من خلال صحيفته من أجل تدبير المال اللازم لسفره إلى مؤتمر فرساي للسلام بعد الحرب العالمية الأولى كممثل «لديمقراطية السود في العالم».
ولكن تروتر فشل في الحصول على جواز سفر ولكنه استطاع السفر إلى فرنسا بحراً متنكراً في شخصية طباخ. وقدم مطالب السود في مؤتمر فرساي. ولكنه لم يحظَ بذكر مطالبه في قرارات المؤتمر وكان نجاحه الوحيد أن الصحف الأوروبية كتبت عن حضوره.
ورغم فشله الواضح في التأثير على القرار السياسي الأوروبي فإنه نجح في استخدام صحيفته كأداة لكشف الحقيقة بالنيابة عن هؤلاء الذين استغلهم النظام السياسي والاقتصادي العالمي. ونجح تروتر أيضاً في تحقيق بعض المساواة للجنود السود في الجيش الأميركي في عام 1906، وفي كشف أبعاد الفيلم العنصري «مولد أمة» الذي عُرض في عام 1915، وأيضاً في إصدار قانون فيدرالي في عام 1920 يمنع الحكم على الزنوج بلا محاكمات في الولايات الجنوبية.
لم يكتفِ تروتر بالنشر وإنما حاول تحريك المجتمع المدني لكي يعارض الممارسات العنصرية في ذلك العصر مثل خروج السود للاعتراض على فيلم «مولد أمة» الذي كان يبرر ممارسات منظمة «كوكلوكس كلان» العنصرية ضد السود. وأشار تروتر في مقالاته إلى أن فيلم «مولد أمة» شحن الجماهير البيضاء بالعنف والكراهية ضد السود.
ودعا تروتر السود للخروج في مظاهرات ضد الممارسات العنصرية ولم يكتفِ بالمناقشات القانونية حول حرية التعبير. ورغم ذلك مُني تروتر بفشل آخر عندما عُرض الفيلم وعادت منظمة «كوكلوكس كلان» قوية في ولاية جورجيا لممارسة عنصريتها.
لكنّ فشل تروتر في وقف عرض الفيلم العنصري، كما سبق وفشل في إقناع مؤتمر فرساي بقضيته، لم يثنه من عزمه في محاولة تحريك الجماهير السوداء للمطالبة بحقوقها. ولكنّ طريقه لم يكن سهلاً.
وللأسف لم تكن نهاية قصة تروتر سعيدة، ففي عام 1934 تراكمت الديون والمتاعب على صحيفة «بوسطن غارديان» وأشرفت على الإفلاس مما دفع تروتر إلى الانتحار بالقفز من شرفة علوية في منزله.
ولكن جهوده ما زالت تعيش في الضمير الأميركي للمواطنين من أصل أفريقي. وكما وصفه أحد معاصريه، كان تروتر متفانياً في انتمائه إلى قضية حصول السود في أميركا على حريتهم وحقوقهم. لم يكن يخشى وصفه بأنه متطرف أو بصداقته مع الهنود الحمر الذين جمعته معهم قضية مشتركة. ويبدو أن القضايا التي حارب تروتر من أجلها ما زالت في بعض أوجهها ماثلة بعد رحيله بقرن كامل.
ويعد تروتر مثالاً لما يجب أن تقدمه الصحف في تناولها لقضايا عامة تهم شرائح مظلومة في المجتمع إذا كان لهذه القضايا أن تجد حلاً.

تأثير الصحف الغربية يظهر وقت الانتخابات
< هنالك العديد من القضايا العامة المشتركة التي لا تختلف عليها الصحف، أو الإعلام بوجه عام، مثل قضايا البيئة والتعليم والصحة، ولكن الاختلاف بينها يظهر وقت الانتخابات العامة والتي تنقسم بشأنها الصحف وفقاً للأحزاب التي تساندها. وقد ظهر هذا التأثير على وجه الخصوص في الانتخاِبات البريطانية الأخيرة.
وتعرض جيريمي كوربن رئيس حزب العمال، لحملة ممنهجة من الصحف اليمينية بزعامة «ديلي ميل» أسفرت عن ابتعاد الناخب الإنجليزي التقليدي عنه وتحوله إلى حزب المحافظين حتى في المناطق العمالية التقليدية. وكانت النتيجة هي فوز ساحق لحزب المحافظين تحت شعار «من أجل إكمال بريكست».
هذا الفوز الساحق غير المتوقع كان رغم إجماع الخبراء على المخاطر التي تحيط بالاقتصاد البريطاني في حالة الخروج بلا اتفاق من الاتحاد الأوروبي. ولكن الحملة اليمينية اعتمدت على تخويف البريطانيين من الهجرة الأوروبية المفتوحة من تأثيرها على ازدحام المدارس والمستشفيات وتراجع الخدمات.
قد يكون حجم طباعة الصحف البريطانية قد انخفض، كما هو الحال في الدول الغربية الأخرى، ولكن تأثيرها على الرأي العام لم يتراجع. ومع ذلك تحرص كل صحيفة في عدم الظهور منحازة بالكامل لفريق ضد آخر حتى لا تفقد مصداقيتها ونسباً من القراء التي تدعم أحزاباً أخرى.
وفي الولايات المتحدة تبدو الصورة أكثر وضوحاً على الصعيد السياسي من حيث دعم أي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي. فحتى الصحف التي تصف نفسها بأنها محايدة تُبدي آراءها بقوة مثل صحيفة «يو إس إيه توداي» أكثرها توزيعاً التي أعلنت حيادها في انتخابات 2016 الرئاسية ولكنها نشرت أن «دونالد ترمب لا يصلح أن يكون رئيساً».



أزمة الإعلام التونسي... قانونية وسياسية أم أخلاقية ومهنية؟

مظاهرة لصحافيين تونسيين أمام نقابتهم مطلع الشهر (غيتي)
مظاهرة لصحافيين تونسيين أمام نقابتهم مطلع الشهر (غيتي)
TT

أزمة الإعلام التونسي... قانونية وسياسية أم أخلاقية ومهنية؟

مظاهرة لصحافيين تونسيين أمام نقابتهم مطلع الشهر (غيتي)
مظاهرة لصحافيين تونسيين أمام نقابتهم مطلع الشهر (غيتي)

تكشف كتابات وتصريحات غالبية الإعلاميين والمثقفين والسياسيين في تونس أنهم يعدون أن «توسيع هامش الحريات الإعلامية» كان أهم مكسب تحقق منذ التغيير على رأس السلطة في يناير (كانون الثاني) 2011. وإذ تُوجَّه منذ 12 سنة انتقادات واتهامات بالجملة للإعلاميين وإلى صنّاع القرار الاقتصادي والسياسي، من بينها توظيف بعض وسائل الإعلام خدمة لأجندات محلية وإقليمية ودولية «مشبوهة»، فإن الجامعيين والنشطاء الذين يتهمون السلطات بـ«تضييق هامش الحريات الإعلامية» يقرّون بثراء التجارب الإعلامية في تونس منذ اندلاع الكفاح الوطني ضد الاحتلال الفرنسي في القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20، ثم في عهد الحكومات المتعاقبة منذ إعلان الاستقلال عن فرنسا في ربيع 1956.

نقيب الصحافيين التونسيين محمد ياسين الجلاصي قال أخيراً، على هامش إحالة 20 صحافياً إلى التحقيق، إن «الإعلام التونسي في أزمة غير مسبوقة». وكان عشرات المحامين والسياسيين والمثقفين والإعلاميين والنشطاء الحقوقيين قد أحيلوا إلى التحقيق، أو إلى المحاكم، بتهم تتصل بتصريحات ومواقف عبّروا عنها في وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية والمواقع الاجتماعية، وبـ«المنشور 54» الذي صدر العام الماضي، ووصفه الإعلاميون بـ«الزجري».

هذا، وبلغ الأمر حد إصدار حكم بالسجن لمدة 5 سنوات على الشاب خليفة القاسمي، المراسل الصحافي لإذاعة «موزاييك» الخاصة، بسبب نشره تقريراً إخبارياً، اعتبرت السلطات أنه «أربك خطة أمنية لتتبّع مجموعة إرهابية». وحُكم على الأمني الذي قدّم له المعلومة بالسجن 8 سنوات، كما حُكم بتمديد حبس المدير العام للقناة الإذاعية نفسها، الصحافي نور الدين بوطار، رغم مرور أكثر من 100 يوم على إيقافه مع عشرات السياسيين ورجال الأعمال المتهمين بـ«التآمر على أمن الدولة» أو «التورّط في قضايا ذات صبغة إرهابية». وقبل أيام، أحيل صحافيان من الإذاعة ذاتها إلى التحقيق بسبب تعليقات اعتبرت النقابات الأمنية أنها تضمّنت «استفزازات وشيطنة» لكل الأمنيين والموظفين في قطاع الأمن.

انقسام بين تيارين

غير أن الإعلاميين والمثقفين في تونس يبدون منقسمين بين تيارين؛ الأول يعدّ أزمة الإعلام الحالية «هيكلية سياسية وقانونية» توشك أن تدكّ عرش «صاحبة الجلالة» وتهز كراسي «السلطة الرابعة». وفي المقابل، يعدّ التيار الثاني أن الأمر مجرد «سحابة عابرة»، تسببت بها قلة احترام بعض المشرفين على قطاع الإعلام، ومعهم تيار من الصحافيين، «لأخلاقيات المهنة الصحافية ومواثيق الشرف المهنية والنقابية، وللقوانين المنظمة لقطاع الإعلام»، منذ إصلاحات 2011. وهنا يشيرون خاصة إلى فترة ما بعد إصدار القانونين الشهيرين 115 و116 من قبل «الهيئة العليا المستقلة لإصلاح الإعلام» التي قادها إعلاميون وأكاديميون مستقلون، أو من بين معارضي حكومات عهدي الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

وراهناً، تلتقي التقارير والبلاغات الجديدة الصادرة عن نقابات الصحافيين ومنظمات مديري الصحف وأصحاب القنوات الإذاعية والتلفزيونية والمنظمات الحقوقية، في التأكيد على كون أزمة قطاع الإعلام ناجمة عن الصعوبات المالية غير المسبوقة التي تمر بها غالبية مؤسساته العمومية والخاصة.

محمد العروسي بن صالح، المدير التنفيذي لجمعية مديري الصحف، يعدّ أن أزمة المؤسسات الإعلامية أصبحت «هيكلية». ويتابع أنها استفحلت خلال العام الماضي بعد إعلان أغلب المؤسسات الإعلامية الخاصة والحزبية عن «عجز مالي غير مسبوق»، أو عن إفلاسها وفصل غالبية العاملين فيها، والتوقف عن إنتاج الأفلام والمسلسلات والبرامج الوثائقية والإخبارية الحوارية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تكون مفتوحة في آن معاً على الرأي والرأي الآخر. وكان الطيب زاهر، مدير مجلة «حقائق» المستقلة ورئيس نقابة مديري الصحف، قد دعا بعد لقاء جمعه برئيس مجلس النواب التونسي الجديد إبراهيم بودربالة، إلى أن «تساهم السلطات في معالجة معضلات قطاع الإعلام المالية والمهنية عبر التفاعل مع مطالب الصحافيين وأصحاب المؤسسات الإعلامية التقليدية والإلكترونية، وبينها حسن توزيع الإعلانات وحملات الإشهار (الإعلان) العمومية».

أزمة نخب

في المقابل، يعد قطاع من المثقفين والإعلاميين وأساتذة معهد الصحافة وعلوم الأخبار أن أزمات قطاع الإعلام استفحلت بسبب «غلطات»، شارك في ارتكابها عاملون في المؤسسات الإعلامية ومشرفون عليها، منها الانخراط بعد عام 2011 في «لعبة المصالح» وصراعات «اللوبيات والمافيات المحلية والدولية» و«أباطرة الحروب بالوكالة» التي تشهدها المنطقة. وكان من نتائج تلك «الغلطات» الخلط بين «الحريات الصحافية» و«الفلتان الإعلامي والأمني»، حسب أستاذ الإعلام والاتصال والمدير السابق للإذاعة التونسية المنجي المبروكي. بل إن صلاح الدين الدريدي، أستاذ الإعلام والمدير العام السابق للإعلام قبل2011، ذهب إلى أبعد من ذلك فعدّ أن «نكبة البلاد في نخبتها»، وأن «كثيرين ممّن يتحكمون في المشهد الإعلامي منذ 2011 ليست لديهم خبرة مهنية، ولا يحترمون القانون ولا قواعد العمل الصحافي النزيه، وبينها التوازن والتحرّر من الأجندات الشخصية والحزبية والحسابات الخاصة»، وبينها ترضية «لوبيات المال الأوروبية والدولية التي تغدق عطاءاتها لصنف من الصحافيين والسياسيين منذ 12 سنة».

وتلتقي تقييمات بعض الجامعيين مع مواقف أعرب عنها مسؤولون ونقابيون في قطاع الإعلام بمناسبة زيارة الرئيس التونسي قيس سعيّد لمقر صحيفتي «لا بريس» و«الصحافة» الحكوميتين. إذ اعترف شكري بن نصيب مدير عام الصحيفة، ومراد علالة رئيس التحرير، بأن غلطات في التسيير المالي والإداري والمهني خلال السنوات الـ12 الماضية تسببت في صعوبات مالية لعدة مؤسسات إعلامية في البلاد، من بينها مؤسسة دار «لا بريس» الحكومية التي كانت تحتل المرتبة الأولى قبل 2011 من حيث أرباحها.

احترام ميثاق الشرف

في الوقت عينه، اختار علي بن العربي، السفير والمدير العام السابق لوكالة الأنباء التونسية والكاتب الصحافي، أن تكون هديته الجديدة للسياسيين والمثقفين والإعلاميين التونسيين والعرب خلال أزماتهم الحالية كتاباً طريفاً ومهماً عن «أخلاقيات مهنة الصحافة». وحقاً، قدّم الكتاب مادة توثيقية وقراءة واضحة وغير معقّدة لمختلف المدارس والتجارب والقراءات للمرجعيات الأخلاقية والقانونية والسياسية والاجتماعية التي اعتمدت في تنظيم قطاع الإعلام، إنتاجاً وتسويقاً وإدارةً، في العالم وفي الوطن العربي وتونس.

وأورد المؤلف أن من بين أبرز استنتاجات مساره المهني والسياسي والدبلوماسي الطويل «ضرورة إعطاء الأولوية لأخلاقيات المهنة ولميثاق الشرف المهني لتسهيل أداء قطاع الإعلام والاتصال»، مشدداً على أن «الصحافة تكتب تاريخ الدولة والبلاد»، وهي التي توفر لصناع القرار والباحثين والأجيال المقبلة «الوثيقة» و«المرجع الأهم» في فهم الواقع، ثم في قراءة التاريخ.

من أجل كل هذا، عُني الكاتب بتقديم قراءة استعراضية، وأخرى نقدية، للتجارب القانونية والسياسية والمهنية في تنظيم قطاع الإعلام والاتصال، وضمان احترام الصحافيين والمشرفين على وسائل الإعلام لـ«أخلاقيات المهنة الصحافية»، وتكريس قاعدة «الخبر مقدس والتعليق حر»، مع التوفيق بين الحقوق والواجبات، ومنها الحق في السعي لتوسيع هامش الحريات وواجب احترام حقوق الطرف الآخر، سواء أكان حليفاً أم خصماً. وتحرّر الكاتب من «عقدة» قطاع كثير من الكتاب والصحافيين في البلدان الفرنكفونية والأنجلوسكسونية الذين عوّدوا القراء على الانحياز إلى مدرسة فكرية وإعلامية واحدة. بل كان من بين أبرز نقاط القوة في هذا الكتاب - الدراسة أنه انفتح على تجارب قانونية وصحافية ومهنية متناقضة، شملت البلدان الإسكندنافية والديمقراطيات العريقة الأخرى كبريطانيا، والولايات المتحدة، وبلدان القارة الأوروبية، والهند، واليابان.

كذلك قدّمت الدراسة تجارب مقارنة في المنطقة العربية والإسلامية، بما في ذلك الدول الخليجية وتركيا وإيران، قبل تقديمها عرضاً تفصيلياً وقراءة نقدية لتطورات المشهد الإعلامي في تونس قانونياً وسياسياً ومهنياً خلال السنوات السبعين الأخيرة. ولقد نجح المؤلف، بالفعل، في تقديم قراءة تأريخية موثّقة لتطورات علاقة وسائل الإعلام والصحافيين التونسيين وفي العالم بالسلطات والقوانين والمواثيق المنظمة لقطاع الإعلام والاتصال و«ميثاق شرف المهنة»، وبالمنظمات التي انتمى إليها الصحافيون والإعلاميون، وبينها الجمعيات المهنية والنقابات ومجالس الصحافة.

لكن التحدي اليوم الذي عاد من جديد داخل أوساط الإعلاميين والنخب المثقفة والسياسية في تونس والمنطقة، هو كيفية تنزيل النصوص القانونية والاتفاقيات الدولية والوطنية الخاصة بالحريات ومواثيق الشرف المهنية، في ظل اختلال موازين القوى بين من يعدون الإعلام «سلطة مستقلة تلعب دور الحكم بين الشعب والسلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية»... والذين يعملون على العودة بها إلى مربّع «بيت الطاعة».


هل يُمكن إجبار «غوغل» و«فيسبوك» على دفع مقابل للأخبار؟

هل يُمكن إجبار «غوغل» و«فيسبوك» على دفع مقابل للأخبار؟
TT

هل يُمكن إجبار «غوغل» و«فيسبوك» على دفع مقابل للأخبار؟

هل يُمكن إجبار «غوغل» و«فيسبوك» على دفع مقابل للأخبار؟

فيما بدت محاولة لاستنساخ تجربة أستراليا، بدأت مجموعة من دول العالم العمل على إعداد مشروعات قوانين تهدف إلى إجبار عمالقة التكنولوجيا؛ لا سيما شركة «غوغل»، وشركة «ميتا» -مالكة «فيسبوك»- على دفع مبالغ مالية مقابل نشرهم للأخبار التي تنتجها المؤسسات الإعلامية. وفي حين يرى خبراء عرب إمكانية استنساخ التجربة الأسترالية في عدد من دول العالم، فهم يرون أن الوضع قد يكون مختلفاً على الصعيد العربي.

الأمر يتعلق بتقرير نشره معهد «بوينتر» الأميركي المتخصص في دراسات الإعلام خلال مايو (أيار) الجاري، تكلم عن اتجاه عدد من ناشري الأخبار حول العالم لتحليل البيانات (المعطيات)، وتحديد المبالغ التي تدين بها «غوغل» و«ميتا» مقابل نشرها ما ينتجونه من أخبار.

وأشار التقرير إلى أن «هذه الأرقام ما زالت سرّية، ومن غير المرجح أن تُنشر على الملأ، إلا أنها ستُستخدَم للضغط على عمالقة التكنولوجيا لدفع مقابل نشرهم للأخبار». وأردف التقرير بأن «مساعي الناشرين لا تقتصر على الحصول على عوائد الإعلانات على هذه المنصات؛ بل أيضاً على رسوم مقابل إعادة نشر هذه المنصات المحتوى الذي أنتجوه، وقيمة العلامة التجارية للمؤسسات الإعلامية المعنية».

جدير بالذكر، أنه في مارس (آذار) عام 2021، أصبحت أستراليا أول دولة تستخدم قانون المنافسة لإجبار «غوغل» و«فيسبوك» على دفع ثمن للأخبار. ووضع رود سيمز، رئيس لجنة المنافسة في أستراليا (يومذاك)، تشريعات إعلامية جديدة «تهدف إلى تصحيح اختلال توازن القوى بين المنصات الكبرى وناشري الأخبار». وأعطى هذا التشريع الحق للحكومة في تحديد منصات معينة، ودفعها للتفاوض مع الناشرين والتوصل إلى اتفاق بشأن مستحقاتهم. وبالفعل، دفع التشريع «غوغل» و«ميتا» إلى إبرام اتفاقيات مع الناشرين.

ونقل معهد «بوينتر» عن سيمز قوله إنه «منذ تطبيق التشريع الجديد يُضَخ أكثر من 140 مليون دولار أميركي في الصحافة في أستراليا كل سنة». واستنساخاً لهذه التجربة، تبحث كندا والبرازيل وإندونيسيا وجنوب أفريقيا ونيوزيلندا والولايات المتحدة راهناً وضع قوانين مماثلة. وتوقع معهد «بوينتر» أن تقر كندا قانوناً بهذا الشأن خلال الشهرين المقبلين.

رامي الطراونة، رئيس وحدة المنصات الرقمية في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية، قال خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»: «إن الفكرة ناجحة وقابلة للتطبيق والانتشار. وقياساً على ما حدث في أستراليا ورضوخ شركات التقنية المعروفة بعنادها، وصعوبة مراسها قضائياً، مثل «غوغل» و«ميتا» للتشريعات الجديدة التي تلزمها بالدفع في مقابل الأخبار، فإنه يمكن بلا شك اعتبار هذا الأمر نجاحاً للفكرة».

ويربط الطراونة عوامل نجاح أستراليا بـ«طبيعة السوق الأسترالية، وتطور ومرونة التشريعات الناظمة لصناعة الإعلام وشموليتها، ليس فقط تحريرياً؛ بل تقنياً وتجارياً... إلى جانب علاقة الحكومات مع شركات التقنية، وصلابة المؤسسات الإعلامية الأسترالية وقوة منصاتها ومحتواها، ومدى تأثيرها لدى الشارع». ويتابع بأن «مثل هذه العوامل يمكن أن تتوفر في المنظومات الإعلامية لدى كثير من الدول الأخرى التي ستجد من نجاح التجربة الأسترالية نموذجاً يمكن اقتفاء أثره واستنساخه». أما على الصعيد العربي، فيرى الطراونة أن «الأمر سيحتاج إلى مزيد من الوقت، فعلى الرغم من السعي الدؤوب من قبل كثير من الدول لتطوير منظومة تشريعاتها القانونية المرتبطة بصناعة الإعلام ومتغيراته، فلا تزال صناعة الإعلام العربي الرقمي يافعة مقارنة بغيرها». ثم يضيف: «التنافس المحموم بين المنصات الإعلامية العربية، داخل الدول، على اقتناص أكبر حصة سوقية وأوسع مساحة على صفحات محرك بحث (غوغل) أو (ميتا)، سواءً بالمحتوى الأصلي أو بالإعلانات، يجعل من المبكّر جداً تخيّل أن هذه المؤسسات التي تدفع مقابل الإعلانات إلى (غوغل) و(ميتا)، تستطيع أن تعمل على الحصول على مقابل للأخبار من عمالقة التكنولوجيا».

نقطة أخرى يشير إليها الطراونة فيما يتعلق بالسوق العربية، هي أن «المنطقة العربية لم تكن يوماً ساحة لمعركة قضائية مع أي من الشركات العملاقة حول أي قضية من هذا النوع، وهذا بجانب الطبيعة الجيوسياسية المركّبة للمنطقة، وتباين القوانين والتشريعات من دولة إلى أخرى... ثم إن تطبيق مثل هذه الإجراءات في العالم العربي قد يواجه تحديات إضافية تتعلق بتقلبات السوق، وتراجع الإعلانات التقليدية في القطاع الإعلامي عموماً، والتوازن بين حقوق الملكية الفكرية وحرية الوصول إلى المعلومات، إضافة إلى تأثير المنافسة بين المؤسسات الإعلامية في المنطقة».

التفاوض ليس سهلاً

في الواقع، التفاوض مع عمالقة التكنولوجيا ليس بالمهمة السهلة، حسب خبراء؛ لا سيما في ظل اعتماد كثير من المؤسسات الإعلامية على ما تحصل عليه من عوائد للإعلانات على المنصات المملوكة لهذه الشركات. ثم إن «غوغل» و«فيسبوك» قد يعمدان إلى الضغط من الجانب الآخر عن طريق تقليل الوصول لروابط الأخبار. وبالفعل، وفق تقرير «بوينتر»، عمد «غوغل» و«فيسبوك» إلى «حيلة إسقاط روابط الأخبار في كندا في فبراير (شباط) الماضي، وهو ما دفع رئيس الوزراء الكندي لدعوة هذه الشركات لدفع ثمن الأخبار بدلاً من حجب روابطها».وأيضا، رداً على محاولات البرازيل إصدار تشريع مماثل، عمدت شركة «غوغل» إلى تحذير الناشرين من خطورته، منذرة بأنه «سيدمر الإنترنت». وفي تقرير نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية خلال الشهر الجاري، قالت رئيسة جمعية الصحافة الرقمية في البرازيل، نتاليا فيانا، إن «(غوغل) هدّدت مَن يدعمون التشريع بوقف ما تدفعه من تمويلات لهم». وقالت دراسة أصدرها اتحاد الناشرين السويسريين، في مارس الماضي، إن «غوغل مدينة لقطاع ناشري الأخبار بنحو 166 مليون دولار سنوياً». وفي حين لم تكشف الولايات المتحدة عن تقديرها لقيمة التعويض -وإن قدّره البعض بالمليارات- فإن تقديرات المشرّعين البرلمانيين في كندا تشير إلى مبلغ تعويض تصل قيمته إلى 329.2 مليون دولار كندي سنوياً.

هنا يشير خالد البرماوي، الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، لـ«الشرق الأوسط» إلى أن هناك احتمالاً كبيراً بأن تنجح هذه الجهود، واصفاً ما تفعله أستراليا وكندا بـ«النماذج الجيدة». ويضيف البرماوي أن «الاتحاد الأوروبي مارس ضغوطاً كبيرة، وفرض غرامات، وإن لم يلجأ لاتفاقات وفرض رسوم معينة على استهلاك واستخدام الأخبار... وهذه التحركات حتمية، لا سيما مع تغير نموذج الإعلام، وكون هذه المنصات واحدة من وسائل نشر وتوزيع المحتوى، وبالتالي تحقيق أرباح».

ويستطرد البرماوي ليقول إن هذه المساعي ليست جديدة: «إذ بدأت مساعي الضغط على عمالقة التكنولوجيا منذ عام 2015، ونجحت بعض التجارب... ثم عزّز التطور الأخير لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي هذه المساعي، لا سيما أن كثيراً من المعلومات التي تعتمد عليها تطبيقات الذكاء الاصطناعي من إنتاج المؤسسات الإعلامية». ويتابع: «لقد حان وقت دفع ثمن الأخبار بصورة منصفة ومنظمة، كي لا تؤثر سلباً على الإنترنت». وشدد على أنه «لا يجب الالتفات لتهديدات هذه المنصات ومخاوفها من التأثير على الشبكة العنكبوتية؛ لأن الإنترنت بصورتها الحالية مملوءة بالظلم للمؤسسات الإعلامية، والمحتوى الجاد». وبشأن الوضع في المنطقة العربية، يرى البرماوي أنه «لا توجد مبادرة عربية في هذه الصدد حتى الآن». وذكر أنه «حاول أكثر من مرة تنظيم نوع من الاتحاد عربياً، أو حتى مصرياً، للتفاوض مع هذه الشركات؛ لكن هذه الجهود لم تفلح»، قبل أن يختم كلامه بالقول إنه «لا بد من إيجاد تحالف عربي في هذا الشأن؛ لأن اللغة وطبيعة الاستهلاك في صالح الناشرين العرب، وتسهل عملية التفاوض... وهذا سيكون في صالح المؤسسات الكبيرة والصغيرة أيضاً».


هل تميل الحرب الإعلامية في غرب أفريقيا لصالح روسيا؟

خوذة محترقة خلال مواجهات بين الأمن الكونغولي ومتظاهرين السبت (رويترز)
خوذة محترقة خلال مواجهات بين الأمن الكونغولي ومتظاهرين السبت (رويترز)
TT

هل تميل الحرب الإعلامية في غرب أفريقيا لصالح روسيا؟

خوذة محترقة خلال مواجهات بين الأمن الكونغولي ومتظاهرين السبت (رويترز)
خوذة محترقة خلال مواجهات بين الأمن الكونغولي ومتظاهرين السبت (رويترز)

نُشرت، مطلع العام الحالي، دراسة كانت تقولُ إن وسائل الإعلام الفرنسية ما زالت تحتل المرتبة الأولى في قائمة وسائل الإعلام التي يتابعها سكان دول غرب أفريقيا، منطقة النفوذ التقليدي لفرنسا منذ أكثر من قرنين من الزمن، وتشير هذه الدراسة إلى أن 60 في المائة من سكان هذه المنطقة يتابعون وسائل الإعلام الفرنسية على الأقل مرة واحدة في الأسبوع. إلا أن الدراسة الصادرة عن مركز «أفريكاسكوب» المتخصص في دراسة الشأن الأفريقي، لم تخفِ أن الإعلام الفرنسي فقد كثيراً من قوته وقدرته على التأثير في الشارع الأفريقي؛ بسبب ظهور منافسين جدد تتصدرهم وسائل إعلام روسية صاعدة بقوة، لتشتعل حرب إعلامية طاحنة من أجل الاستحواذ على اهتمام المتابع الأفريقي.

أُجريت الدراسة في 7 دول فقط هي: بوركينا فاسو والكاميرون والكونغو برازافيل وكوت ديفوار والغابون وجمهورية أفريقيا الوسطى والسنغال. ولكن غابت عنها مالي، الدولة التي كانت سلطاتها قد قرّرت، العام الماضي، تعليق بث «إذاعة فرنسا الدولية» وقناة «فرنسا 24» بعد اتهامهما بالترويج للشائعات، والإضرار بالمصالح المالية، حين تكلمتا عن «انتهاكات لحقوق الإنسان» يُتهم بها الجيش المالي.

 

الساحة الأولى

في الواقع، كانت مالي الساحة الأولى للحرب الإعلامية بين فرنسا وروسيا، خصوصاً حين قاد ضباط من الجيش المالي انقلاباً عسكرياً أمسك بزمام الأمور في العاصمة باماكو عام 2020، واندلعت بسبب ذلك أزمة سياسية خانقة بين فرنسا ومستعمرتها السابقة، سرعان ما تحولت إلى شحن إعلامي مكثف. وهنا يقول محمد ويس المهري، وهو صحافي متخصص في الشؤون الأفريقية في لقاء مع «الشرق الأوسط»، إن «الفرنسيين حاولوا منذ البداية أن يكون لهم السَّبق في الحرب الإعلامية، ولكن بعد الانقلاب العسكري في مالي، اكتشف الماليّون والأفارقة عموماً، أن وسائل الإعلام الفرنسية متناقضة وتفتقر إلى المصداقية».

ويضيف المهري، الذي يقيم في باماكو، وكان شاهداً على الأحداث السياسية، التي شهدتها مالي خلال السنوات الأخيرة، أن «الأزمة بين فرنسا ومالي، دفعت الماليّين إلى البحث عن المعلومة لدى وسائل إعلام أخرى، وأصبحت الرواية الفرنسية مشكوكاً فيها دائماً، بل غير جديرة بالثقة، خصوصاً في أوساط الشباب الذين يعتقدون بأن الهيمنة الفرنسية هي التي أسهمت في تفقير دولتهم وتخلفها». ويتابع أن وسائل الإعلام الفرنسية «دفعت ثمن الأخطاء السياسية للحكومات الفرنسية»، مشيراً إلى ما وصفه بـ«موقف فرنسا المتناقض من الانقلابات العسكرية، حين كانت تضغط على مالي وبوركينا فاسو من أجل العودة إلى النظام الدستوري، في حين أنها ورّثت الحكم لابن إدريس ديبي، وحضر الرئيس إيمانويل ماكرون شخصياً إلى فعاليات تسليم الحكم للجنرال الشاب، وهذا تناقض واضح وصريح».

ثم يشرح، أنه بالتزامن مع الحرج الكبير الذي أصاب وسائل الإعلام الفرنسية، «دخلت على الخط وسائل إعلام بديلة، تقدّم وجهة نظر أخرى، وناطقة باللغة نفسها التي يتكلمها معظم سكان غرب أفريقيا (أي الفرنسية)، وحتى إن بعضها كان يتحدث بلغات أفريقية محلية، ومن أبرز هذه المؤسسات الإعلامية قنوات مثل روسيا اليوم (RT) التابعة لروسيا، ومواقع (سبوتنيك) الروسية».

خطأ ماكرون

من جهة أخرى، يذهب الأمين ولد سالم، الصحافي الموريتاني المتخصص في الشأن الأفريقي، ولديه كتاب وعدة مقالات بحثية حول قضايا الأمن في أفريقيا، إلى التأكيد أن «الوضع في غرب أفريقيا تغير كثيراً، ولكن الفرنسيين أدركوا ذلك متأخرين». ويضيف ولد سالم خلال حوار مع «الشرق الأوسط» أن دول غرب أفريقيا تعيش حالياً «عصر الانفتاح الديمقراطي ووسائل التواصل الاجتماعي، بينما الشباب الأفارقة الموجودون حالياً لم يعرفوا فرنسا الاستعمارية. بل يكفي أن دولة مثل السنغال 70 في المائة من سكانها تحت 35 سنة... هذا يعني أنهم وُلدوا في عصر الإنترنت والفضائيات والديمقراطية، وليست هناك أية قواسم مشتركة تجمعهم بالأجيال السابقة التي عاشت في ظل الاستعمار، وعرفت صورة فرنسا القوية».

ويشير ولد سالم إلى أن فرنسا ارتكبت أخطاء عدة في صراعها الإعلامي مع روسيا، حين يقول: «لقد وصل الأمر إلى أن الرئيس ماكرون يطلبُ من الصحافة الفرنسية أن تلعب دورها بوصفها مدافعة عن المصالح الفرنسية، وكان يقصد بذلك القنوات الفرنسية الممولة من طرف الحكومة (إذاعة فرنسا الدولية، وقناة فرنسا 24، والقناة الخامسة وغيرها)، التي اعتبر أن عليها أن تدافع عن مصالح فرنسا».

ويردف الصحافي الموريتاني أن ماكرون كان صريحاً جداً حين طلب من وسائل الإعلام الفرنسية أن «ترد على الدعاية التي تقوم بها بعض الدول مثل روسيا، غير أنه بصراحته أشعل أزمة داخل الصحافة العمومية الفرنسية، على غرار قناة (فرنسا 24) و(إذاعة فرنسا الدولية)، ووقعت تحركات على مستوى النقابات الصحافية التي رفضت طلب الرئيس». وأضاف ولد سالم، وهو مقيم في فرنسا منذ سنوات، أن ماكرون تسبّب في حرج كبير للصحافيين الفرنسيين، ما دفع النقابات الصحافية إلى أن تخرج علناً وتقول إن «الصحافي لا يمكن أن يكون وكيل دعاية للحكومة... بل أعلن الصحافيون بشكل صريح أنهم لن يكونوا جواسيس فرنسا. وكان ذلك موقفاً واضحاً ومفهوماً، لأن تصريحات ماكرون وضعت مراسلي الصحافة الفرنسية في أفريقيا في وضع محرج للغاية، إذ جعلتهم عرضة للخطر، واتّهموا بالتجسس».

وسائل التواصل الاجتماعي

في سياق متصل، بينما كان الفرنسيون يخوضون الصراع عبر وسائل الإعلام التقليدية مثل التلفزيون والإذاعة، كانت وسائل التواصل الاجتماعي تشتعلُ في دولة مثل مالي. وهنا يوضح محمد ويس المهري أنها «أسهمت بشكل كبير في رفع مستوى الزخم المناهض لفرنسا، خصوصاً إزاء مطالب رحيل القوات الفرنسية، كما أسهمت في طرح قضايا لم تكن معهودة لدى الإعلام الرسمي أو المحلي، وحتى الإعلام الفرنسي والغربي بشكل عام، مثل قضية الفشل الذريع لفرنسا في دولة مالي بعد نحو 10 سنوات من التدخل العسكري من أجل إنهاء الأزمة الأمنية في هذا البلد».

وأردف المهري أن استمرار الأزمة الأمنية في مالي «استغله شباب البلاد عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمناقشة فشل التدخل العسكري الفرنسي في المنطقة. إذ خلق الشباب مساحتهم الخاصة، وأصبحوا يتناقلون الأخبار ويثيرون النقاشات... وسرعان ما أدى ذلك إلى طرح تساؤلات كبيرة حول العلاقة مع فرنسا، قادت إلى حراك شعبي أسفر عن مظاهرات في الشارع، ومطالب شعبية كبيرة تدعو فرنسا إلى الانسحاب عسكرياً من مالي، وهو ما حدث في النهاية».

ولكن من كان يقف خلف كل ذلك الزخم عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟

شبكة «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي)، كانت بين الجهات التي طرحت هذا السؤال. وقادت تحقيقاً بالتعاون مع منظمة «لوجيكالي (Logically)» الأميركية، نُشر شهر فبراير (شباط) الماضي، وأفضى إلى اكتشاف ما سمّاه التحقيق «شبكة ضخمة على منصات التواصل الاجتماعي تروّج لأفكار معادية للغرب، ومؤيّدة للكرملين في البلدان الأفريقية الناطقة باللغة الفرنسية».

وجاء في التقرير المنشور من قبل فريق الكشف عن المعلومات المضلِّلة في الـ«بي بي سي»، أن الشبكة تحملُ اسم «روسو سفير (Russosphère)» أو «الفضاء الروسي»، وتروّج لمنشورات «تتهم الحكومة الفرنسية بأنها استعمارية، وتغدق بالثناء على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين». يضيف التقرير أن «مثل هذه المعلومات المضلِّلة تؤدي إلى شعور بانعدام الثقة بين بلدان أفريقيا والغرب». ومن جانب آخر يكشف أن الشبكة الداعمة لروسيا يقف خلفها رجل اسمه لوك ميشيل وهو «سياسي بلجيكي يبلغ من العمر 65 سنة، ويصف نفسه بأنه من مؤيدي فكر ستالين». لقد قال ميشيل في تصريح لـ«بي بي سي» إنه أنشأ الشبكة عام 2021، لكنه نفى الحصول على أي دعم من روسيا، مشدداً على أن الشبكة تتلقى «تمويلاً خاصاً».

غير أنه، من ناحية ثانية، يعترف ميشيل بأنه يتولى إدارة ما يسميه «الحرب السيبرانية» لصالح روسيا، ويذهب أبعد ليؤكد أنه مؤمن بأن «روسيا يجب أن تحلّ محل الفرنسيين في أنحاء أفريقيا جميعها»، يأتي ذلك في حين يتضح أن الشحن عبر وسائل التواصل الاجتماعي أسهم بشكل كبير في خروج مظاهرات مناهضة لفرنسا خلال السنوات الثلاث الأخيرة في مالي وبوركينا فاسو، وهي مظاهرات أُحرقت فيها الأعلام الفرنسية ورُفعت الأعلام الروسية على الملأ.


سياسات «تويتر» المرتقبة... بين تعويض الخسائر وتحسين آليات التواصل

سياسات «تويتر» المرتقبة... بين تعويض الخسائر وتحسين آليات التواصل
TT

سياسات «تويتر» المرتقبة... بين تعويض الخسائر وتحسين آليات التواصل

سياسات «تويتر» المرتقبة... بين تعويض الخسائر وتحسين آليات التواصل

عدّ متابعون إعلان إيلون ماسك، مالك منصة «تويتر»، عن تعيين مدير تنفيذي جديد للمنصة خلفاً له، محاولة ضمن محاولات «تويتر» لتعويض الخسائر وتحسين آليات التواصل. وكان ماسك قد أعلن أخيراً عن اختياره ليندا ياكارينو، التي يصفها الخبراء بـ«المهنية في مجال الإعلانات التجارية»، إلا أن اختيار ياكارينو أثار جدلاً وترقباً حول دلالاته، وما يعنيه بشأن سياسة المنصة خلال المرحلة المقبلة.

ياكارينو (59 سنة) لها تاريخ في العمل بالكيانات الإعلانية «الضخمة» ولقّبتها صحيفة «الغارديان» البريطانية بـ«المدق المخملي»، في إشارة إلى قوتها ومهارتها في التفاوض وتحقيق المكاسب التجارية. في حين اعتبر خبراء أن الصحيفة التعريفية لياكارينو تعكس خطط «تويتر» المستقبلية، ومنها التركيز على «الأهداف الربحية» بغرض تعويض الخسائر التي تكبّدتها المنصة، وذلك عقب تراجع الإعلانات منذ تولي ماسك المهمة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

ماسك من جهته، لمّح إلى الاستراتيجية المرتقبة لـ«تويتر»، وغرّد قائلاً: «متحمس للترحيب بليندا ياكارينو كرئيس تنفيذي جديد لـ(تويتر)، وهي ستركز بشكل أساسي على العمليات التجارية، في حين أركز على تصميم المنتجات والتكنولوجيا الجديدة». وما يُذكر هنا أن مسارات «تويتر» لن تؤثر على المنصة وحدها، بل ثمة ترقب لاستراتيجيات جديدة قد تشمل منصات التواصل جميعها بغرض «تعويض الخسائر المادية التي تكبّدتها منذ الأزمة الاقتصادية العالمية وتراجع الخطط الإعلانية للشركات الكبرى».

في لقاء مع «الشرق الأوسط»، اعتبر الدكتور حسن مصطفى، خبير الإعلام الرقمي والأستاذ في عدد من الجامعات في الإمارات العربية المتحدة، أن «نموذج العمل المُرتقب احتضانه من قبل منصات التواصل الاجتماعي كلها، وخصوصاً (تويتر)، سيكون ذا طابع استثماري بالأساس». وأردف: «أتوقع أن تتراجع غاية التواصل وتبادل المعلومات، وحتى الترفيه، لصالح الأغراض الاستثمارية والربحية»، موضحاً أنه «من غير المستغرب سلوك (تويتر) هذا المسار؛ إذ ليس هناك سلعة مجانية... وإن توافرت السلعة المجانية، فعلى المُستخدم أن يعرف أنه في هذا النموذج سيكون هو السلعة». واستطرد مصطفى معلّقاً: «لم تكن خدمات التواصل الاجتماعي مجانية في يوم من الأيام. ولدى إمعان النظر نكتشف أن منصات التواصل وفّرت فقط الحساب بالمجان، غير أنه على المُستخدم أن يقدم الثمن من خلال إعلانات مزعجة قد تُفسد تجربته في التصفح».

وللعلم، حسب إحصاءات نشرها موقع «بيزنس أبس»، تراجع عدد المستخدمين الذين يمكن للمسوّقين الوصول إليهم عبر الإعلانات على منصة «تويتر» بنحو 183 مليون مستخدم (أي بنسبة 32.9 في المائة) خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي. كذلك، نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» تقريراً في أبريل (نيسان) الماضي، كشف عن أن «تويتر» سجلت انخفاضاً في الأرباح يُقدر بـ40 في المائة خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بعد تراجع الإنفاق الإعلاني على المنصة بنسبة تُقدر بـ71 في المائة خلال الشهر نفسه.

«التوأمة الرقمية»

مصطفى يسمي نموذج العمل الذي اتبعته منصات التواصل الاجتماعي بـ«التوأمة الرقمية». ويوضح قائلاً: «تخلق منصات التواصل شخصاً افتراضياً مدعوماً بالذكاء الاصطناعي يُمثل المُستخدم، يتتبع اهتماماته ورغباته، ثم يُرجح قائمة من المنشورات تتناسب مع المعلومات التي جُمعت، ومن هنا يتحقق الربح للمنصة بإعلانات موجهة لجمهور بعينه يُفترض تفاعله مع المحتوى الإعلاني». ومن ناحية أخرى، لا يرى مصطفى في التواصل وتبادل المعلومات ومشاركة التجارب هدفاً أصيلاً للمنصات، قائلاً: «عزّزت المنصّات منذ البداية، الشعور بالاستهداف المُباشر لدى المُستخدم، بهدف الجذب... في حين أن ثمة هدفاً خفياً يشمل التسويق وجني الربح». ويخصّ مصطفى «تويتر» بالأهداف الربحية بعد تولي ماسك «تويتر»، بقوله: «يبدو جلياً أن ماسك على دراية بإمكانات المنصة في تحقيق الأرباح، واختياره الرئيس التنفيذي الجديد يدل على ذلك، كذلك كان أول قرارات ماسك منذ توليه (تويتر) تسعير علامة التوثيق».

وحقاً، حول دلالات الغرض الاستثماري لمنصات التواصل، يرى مصطفى أنه «في خضم التنافسية الشرسة بين المنصات، شاهدنا اقتباس الخدمات من بعضها البعض، حتى تأثرت هوية بعض المنصات... وما عادت التغريدات الخدمة الوحيدة، بل باتت تنافسها مقاطع الفيديو الطويلة والقصيرة التي لم تكن يوماً منتجاً شائعاً على (تويتر)»، ثم عن مُعادلة الربح وتحسين آليات التواصل والخدمات المسؤولة على منصات التواصل، يشير مصطفى إلى أن «الواقعية تقتضي أن نقول إن المنصات ستستمر في سبيل الربح والاستثمار، والتوازن يتحقق من المُستخدم... فعليه أن يعي تأثيرها ورغبة المنصات الأصيلة في تحويله لسلعة»، مشدداً على أن «المنصات تتكلم عن المسؤولية المجتمعية، وفي الوقت عينه ترجح ترشيحات المحتوى اللاقيمي، أو على الأقل الذي يستهدف الترفيه إلى حد السخف في بعض الأحيان».

عودة إلى ياكارينو، اعتبر علي فرجاني، الباحث في صحافة الذكاء الاصطناعي بمصر، أن اختيار ليندا ياكارينو كان «قراراً صائباً». وقال لـ«الشرق الأوسط» في حوار معه، إن «(تويتر) تبحث عن طُرق توسع وظائف المنصة لتشمل إمكانية ‏الدفع والرسائل المشفرة والمكالمات الهاتفية، وتحويلها إلى شيء أطلق عليه ماسك (إكس) أو ‏تطبيق كل شيء». وأضاف أن «ياكارينو بنت خبرتها العملية مع ‏العلامات التجارية الكبرى، وأثبتت قدرتها على توفير الفرص الاستثمارية... فقد ‏استطاعت ياكارينو في مهامها السابقة، أن تصنع اسماً لنفسها من خلال مساعدة التلفزيون ‏التقليدي للحفاظ على مكانته في الإعلان، خاصة في عصر سيطرة منصات التواصل الاجتماعي».

غير أن فرجاني وضع «تحسين آليات التواصل في الالتزام بالمسؤولية المجتمعية للمنصات ضمن معادلة الاستمرار والنجاح». وشرح: «أعتقد أن مهمة جميع مديري منصات التواصل الاجتماعي لا تختلف عن إدارة وسائل ‏الإعلام التقليدية، التي تعمل وفقاً لسياستها الإعلامية أو التحريرية، فضلاً عن ‏التزامها بمواثيق الشرف الإعلامي والتزام الموضوعية». وأكد على أن «منصات التواصل الاجتماعي مُلزمة بأن تجمع بين تحقيق الربحية للشركة ‏بالتوازي مع مبادئ المسؤولية المجتمعية على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ وإلا تراجعت شعبيتها وتكبّدت خسائر أكثر؛ لأن استمرارها مُرتبط بزيادة المستخدمين وتفاعلهم».

أيضاً، يرى فرجاني أن المنصات الاجتماعية مسؤولة عن توفير ‏مجتمعات آمنة عبر الإنترنت. وأوضح أنه «يتوجب على المنصّات تطوير أدواتها من أجل تنبيه المُستخدمين إلى الحملات المُصممة ‏للتلاعب بهم، واتخاذ تدابير للحد من الأخبار الزائفة»، مشيراً إلى «ضرورة الارتكاز على الدراسات المتخصصة في شأن العالم الافتراضي، برفع درجة الوعي بطبيعة البيئة الافتراضية بصفة عامة، و‏التعرف على طبيعة التعامل مع المنصات الإعلامية المختلفة بصفة خاصة». واختتم بالقول: «أفضل ‏طريقة يتبعها المُستخدم للتعامل مع البيئة الرقمية هي الاطلاع على ما ينبغي ‏معرفته؛ أي أن يتعرف على البيئة الرقمية الجديدة، ويدرسها جيداً، ويدرك المخاطر المُحتملة».


محدودية توظيف الذكاء الاصطناعي في الإعلام التقليدي

عالِم متخصص في تطبيقات الكومبيوتر على المشاعر والعواطف يتعامل مع روبوت (جامعة برديو – الولايات المتحدة)
عالِم متخصص في تطبيقات الكومبيوتر على المشاعر والعواطف يتعامل مع روبوت (جامعة برديو – الولايات المتحدة)
TT

محدودية توظيف الذكاء الاصطناعي في الإعلام التقليدي

عالِم متخصص في تطبيقات الكومبيوتر على المشاعر والعواطف يتعامل مع روبوت (جامعة برديو – الولايات المتحدة)
عالِم متخصص في تطبيقات الكومبيوتر على المشاعر والعواطف يتعامل مع روبوت (جامعة برديو – الولايات المتحدة)

تسبب كل من الاستخدام المحدود لتقنيات الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى الإعلامي السعودي، والضعف الكبير في توظيفه والاستفادة من قدراته لخلق تحول إعلامي مواكب وذكي، في خلق فجوة في أداء بعض المؤسسات الإعلامية أمام التغيّرات التي طرأت على طبيعة المتلقي والمحتوى، وهذا بينما أضحت الصناعة الإعلامية عموماً أسرع وتيرة وتفاعلاً مع الجمهور.

وفي حين يهاجر كثير من المتلقين إلى منصات الإنترنت والهاتف الذكي للتزوّد بالأخبار، ويلجأ هؤلاء إلى مواقع التواصل الاجتماعي لجذب الانتباه إلى القضايا المهمة والجدلية التي جرى تحجيمها أو تغييبها، ينعكس تباطؤ المؤسسات الإعلامية في السعودية بإحداث تحول رقمي يوظف الحلول الذكية الفائقة للذكاء الاصطناعي ، كما ينعكس في مزيد من استنزاف الجماهير وفقدان وسائل الإعلام التقليدية لبريقها، أمام خريطة الإعلام الجديد المترابط تكنولوجياً والمتجاوز للحدود الجغرافية.

لقد كشفت نتائج دراسة مسحية حديثة للباحث نايف المطيري في جامعة الملك سعود بالرياض، إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي في وسائل الإعلام السعودية محدود، وهو يتركز فقط في جوانب ليست ذات علاقة أسـاسـية في صـناعة المحتوى الإعلامي، ويقتصر على استخدامات محدودة مثل تنبيه الصـحافي بالأخبار والمعلومات الجديدة، والتدقيق وتصـحيح الأخطاء الإملائية. وفي المقابل، يؤدي ضعف الكوادر المتخصصة في استخدامات الذكاء الاصطناعي ، وغياب الاعتراف المؤسسي بدور التقنيات الذكية، بالإضافة إلى قصور التمويل، في عجز المؤسسات الإعلامية عن الوفاء بشروط المواكبة الذكية والعصرية لتحولات الصناعة الإعلامية.

3.02 % من الأخبار ينتج بشكل آلي

نتائج الدراسة كشفت أن استخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى الإعلامي لدى المؤسسات السعودية محدود جداً، إذ بلغ المتوسط الحسابي لإنتاج الأخبار بشكل آلي نحو 3.02 في المائة فقط، وركز على جوانب ليست ذات علاقة أساسية في صناعة المحتوى الإعلامي. كذلك بيّنت الدراسة أن نحو 35.6 في المائة من أفراد عيّنة الدراسة أكدوا محدودية استخدام المؤسسات الإعلامية لتقنيات الذكاء الاصطناعي ، وأن كثيراً من تلك المؤسسات ليست مؤهلة ولا تتوفر لديها الكوادر الممكنة لتوظيف تلك التقنيات، في ظل العقلية التقليدية التي تسيّر بعض المؤسسات، وهو الأمر الذي يحرم الإعلاميين والجماهير من الفرص الكبرى لمستقبل الصناعة الإعلامية.

من جهة ثانية - كما سبقت الإشارة - إلى جانب قلة عدد المتخصصين في تقنيات الذكاء الاصطناعي وضعف التدريب والتأهيل للعنصر البشري داخل المؤسسات، جاء ضعف التمويل وغياب الاعتراف المؤسسي بدور التقنيات الذكية، وارتفاع تكلفة التحول الرقمي، والخوف من فقدان المكانة المهنية، من جملة الأسباب التي أبطأت من التحول الرقمي الكامل والاستخدام الجاد لإمكانات الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى الإعلامي.

نزوح جماهيري عن الإعلام التقليدي

الدراسة التي صدرت خلال العام الحالي، تناولت مستقبل توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المؤسسات الإعلامية السعودية، مستخدمة المنهج المسحي بشقيه الكمي والكيفي، لكشف مجالات توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى الإعلامي، والتغييرات التي من الممكن أن يحدثها استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى الإعلامي من وجهة نظر 12 مؤسسة إعلامية في السعودية.

وأشارت نتائج الدراسة أيضاً، إلى أن الجمهور «هاجر» إلى منصات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، واتخذها مصدراً رئيسياً للتزوّد بالأخبار، الأمر الذي أفقد وسائل الإعلام التقليدية بريقها، وتهميشها في وجه النزوح الجماهيري إلى خريطة الإعلام الجديد المترابط تكنولوجياً من دون حدود جغرافية، وأضحى ملايين الأفراد يلجأون إلى مواقع التواصل الاجتماعي لجذب الانتباه إلى القضايا المهمة والجدلية التي تحجيمها أو تغييبها.

وفي ثنايا الدراسة، وظّف الباحث أداة المقابلة لرصد رؤى وتصوّرات الخبراء بشأن مستقبل استخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى الإعلامي. وقال الدكتور عبد الله بن شرف الغامدي، رئيس الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي ، إن هناك صعوبات وتحديات في دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي بالعمل الإعلامي التقليدي، في ظل عدم جاهزية البنية التقنية في بعض المؤسسات، وضعف الخبرات والمهارات التقنية لدى بعض العاملين، وعدم نضوج كثير من تلك التقنيات في المجال الإعلامي، بالإضافة إلى أسباب أخرى انعكست في تقريب المسافة بين التقنيات الذكية والصناعة المحتوى الإعلامي.

هل ستحل الروبوتات محل الصحافيين؟

في سياق موازٍ، على الرغم من الخدمات الفائقة التي يمكن أن يقدمها الروبوت للعملية الإعلامية، على نحو يقلل من الجهد المبذول والوقت المستهلك وزيادة الدقة في التعامل مع البيانات الضخمة وإعادة توجيه الموارد على نحو مفيد ومثمر، لا تبدو مسألة حلول الروبوت بديلاً عن الصحافي محسومة، لا سيما فيما يتعلق بـ«محدودية» الروبوتات في التغلب على البشر بالممارسات الإبداعية.

تيك توك ... باتت لاعباً أساسياً في عالم التواصل (غيتي)

وهنا استشهدت دراسة المطيري بمجموعة من نتائج الدراسات السابقة التي تناولت الموضوع ذاته. إذ لم تحسم نتائج تلك الدراسات، الموقف من مستقبل العلاقة بين الطرفين التقليدي والعصري، لكنها أكدت أهمية استمرار دور العنصر البشري وضرورة تكيفه مع الواقع الجديد، وتقليص الفجوة بين التقنيين ومصممي تجارب الذكاء الاصطناعي من جهة، والصحافيين الذي يباشرون العمل بها من جهة أخرى.

وبالتوازي تسببت عوامل لافتة في ضعف الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي في العملية الإعلامية حتى الآن، أبرزها: قلة جاهزية نسبة كبيرة من غرف الأخبار لتوظيف هذه الأدوات نتيجة التأخر بتحديث الهياكل التنظيمية بها، والتأخر في تبني أنظمة الجودة، وانعدام «الخوارزميات» اللازمة لتحرير النصوص بالنسخة العربية، وتراجع الاستثمار والتمويل في هذه التقنية. من جانب آخر، تمثّل تقنيات الذكاء الاصطناعي تطوراً كبيراً في بيئة العمل الإعلامي في العصر الرقمي.

ولديها القدرة على التغلب على المشاكل الأساسية التي تواجه الصحافة الجديدة، ومكافحة الأخبار المزيفة، وتحرير الأخبار وفقاً لسياسة التحرير، بالإضافة إلى تخصيص المحتوى. كما يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي المساعدة في تحسين عمل الإعلاميين، بدلاً من الاستعاضة عنهم في إطار مستقبل واعد على أساس التعاون بين الإنسان والروبوتات، وهو ما يحتم على الإعلامي - والصحافي، بالأخص - أن يعيد التكيف مع هذا الواقع الجديد.

وختاماً، دعت الدراسة المؤسسات الإعلامية إلى تطوير أساليب إنتاج المحتوى الإعلامي فيها، وذلك لتلبية احتياجات المنصات والأجهزة التي يستخدمها المستهلكون للحصول على أخبارهم، ومواجهة الفرص والتحديات الجديدة أثناء محاولتها التكيف مع التقنيات الناشئة. وتشمل هذه التقنيات بالطبع الذكاء الاصطناعي والروبوتات، والواقع الافتراضي والمعزّز، والطباعة ثلاثية الأبعاد، و«البلوك تشين»، التي تسهم في تشكيل محتوى يجذب انتباه الجمهور، مع ضرورة أن يبقى العنصر البشري موجوداً وفاعلاً داخل إطار العملية الإعلامية.


«مجموعة إم بي سي» تُطلق محطة إذاعة ترفيهية ناطقة بالإنجليزية في السعودية

مجموعة إم بي سي الإعلامية (الشرق الأوسط)
مجموعة إم بي سي الإعلامية (الشرق الأوسط)
TT

«مجموعة إم بي سي» تُطلق محطة إذاعة ترفيهية ناطقة بالإنجليزية في السعودية

مجموعة إم بي سي الإعلامية (الشرق الأوسط)
مجموعة إم بي سي الإعلامية (الشرق الأوسط)

أعلنت مجموعة «إم بي سي» عن إطلاق راديو «إم بي سي لود إف إم»، أول محطة إف إم ترفيهية ناطقة بالإنجليزية في السعودية.وقالت المجموعة الإعلامية إن «إم بي سي لود إف إم» تتوجه بمحتواها النوعي إلى المستمعين الناطقين بالإنجليزية، إلى جانب متابعي الموسيقى والأغنيات العالمية، مشيرة إلى أنها ستقدم نموذجاً إذاعياً معاصراً يحمل قالب الـ"هيت» وهو ما يُعرف عالمياً بـ(سي إتش آر) أو «محطة الإذاعة العصرية».

وأوضحت «إم بي سي» أنه في هذا السياق، تبث المحطة الإذاعية الجديدة أحدث الأغنيات العالمية الضاربة وفق أشهر 40 تصنيفا عالميا متجدّدا للأغنيات الأكثر رواجاً بين المستمعين حول العالم، إلى جانب الأغنيات الأكثر شهرةً وانتشاراً خلال السنوات الخمس الماضية، في موازاة مجموعة متنوعة من البرامج المحلية والعالمية والمشتركة، من جانبٍ آخر. وزادت: حرصت «إم بي سي لود إف إم» على ضم مواهب وطاقات سعودية واعدة ضمن قائمة مذيعيها ومذيعاتها ممن يتحدثون الإنجليزية بطلاقة، ليشكّلوا جزءاً أساسياً من المروحة البرامجية الغنية للمحطة.

وقال رئيس مجلس إدارة «مجموعة م بي سي» وليد بن إبراهيم آل إبراهيم: «تمثل (إم بي سي لود إف إم) علامة إذاعية فارقة لناحية التزامها بالعمل على تحقيق رؤية السعودية 2030 في هذا القطاع الترفيهي الحيوي، وبالتالي توفير منصة إذاعية راقية لا تقتصر فقط على الترفيه، بل تقدم لمستمعينا داخل السعودية من المواطنين والمقيمين مزيجاً من المعلومات القيمة والمحتوى المُلهم، بغض النظر عن لغتهم الأم، فالإنجليزية هي لغة التفاهم العالمية الجامعة للثقافات والحضارات من كل مكان حول العالم». وختم آل إبراهيم: «هدفنا هو الوصول إلى أكبر شريحة جماهيرية متنوعة ثقافياً وحضارياً، وبالتالي الإسهام في تحقيق أهداف المملكة للمرحلة القادمة ودفع عجلة التطور والنمو اللذيْن تشهدهما البلاد في مختلف المجالات».

بدوره، قال زياد حمزة، مدير عام القطاع الإذاعي والموسيقي في «مجموعة إم بي سي»: «تهدف هذه الانطلاقة الإذاعية الجديدة إلى تغيير أنماط استماع الجمهور للراديو، والارتقاء بكيفية استمتاعهم بالمحتوى الإذاعي والموسيقي، وجعل المستمعين على تواصل مع نظرائهم حول العالم عبر توفير محتوى إذاعي متميز يحمل قالباً عالمياً بامتياز في الشكل والمضمون». الجدير ذكره أن من قام بتنفيذ الرؤية البرامجية هو طارق مجدلاني، الذي انضم إلى «إم بي سي لود إف إم» ليشغل فيها منصب مدير المحطة.


استخدام «ميدجورني» يثير جدلاً في الإعلام الفرنسي

 الإعلام الفرنسي ... أمام التحدي
الإعلام الفرنسي ... أمام التحدي
TT

استخدام «ميدجورني» يثير جدلاً في الإعلام الفرنسي

 الإعلام الفرنسي ... أمام التحدي
الإعلام الفرنسي ... أمام التحدي

تقارير نُشرت أخيراً تشير إلى أن استخدامات الذكاء الصناعي في قطاع الإعلام الفرنسي لا تزال في مراحلها التجريبية، وإلى أن العراقيل أمام تعميمها تبدو كثيرة، أهمها أخلاقية وقانونية.

أبرز هذه التقارير دراسة حديثة لمعهد «رويترز» شارك فيها 300 من مسؤولي أكبر المؤسسات الإعلامية بعنوان «تقرير عن أفق الذكاء الصناعي لـ2023»، وهي تبيّن أن 5 في المائة فقط من المسؤولين التنفيذيين يستعملون تطبيقات الذكاء الصناعي في مؤسساتهم مقابل 39 في المائة ممن أعلنوا أنهم يستعملونها في سياق «تجريبي».

بالمناسبة، فإن الاعتماد على برامج الذكاء الصناعي بدأ في فرنسا منذ سنوات، مع صحيفة «لوموند» التي استعملت منذ 2015 برنامج «داتا2 كونتانت» الذي يُولّد الأخبار القصيرة، والذي نتج منه نشر نحو 53 ألف خبر قصير في تغطية فعاليات الانتخابات الجهوية. والبرنامج نفسه اعتمدته بعد ذلك مجموعات إعلامية كبيرة مثل «راديو فرانس» و«وست فرانس». إلا أنه رغم ذلك ظل الحذر الشديد محيطاً بكل ما يتعلق باستعمالات الذكاء الصناعي في وسائل الإعلام، ولا سيما، ما يخصّ نشر الصور التي يولّدها برنامج «ميدجورني» واستنساخ أصوات مقدّمي البرامج.

«ميدجورني» بمواجهة الصحافي المصّور

جدل كبير قسّم الوسط الإعلامي الفرنسي في الفترة الأخيرة بسبب قرار بعض الصحف اللّجوء إلى استعمال «ميدجورني»، الذي هو برنامج ذكاء صناعي يولّد صوراً مطابقة للواقع، ولقد طُوّر هذا البرنامج في مختبر بمدينة سان فرانسيسكو الأميركية. وفي قلب الجدل مشكلة أخلافية مفادها «هل نبقى مكتوفي الأيدي أمام تدمير الوظائف؟».

القضية بدأت مع صحيفة «لو فيغارو» التي لجأت يوم 26 مارس (آذار) المنصرم لإرفاق موضوع حول قضية نصب واحتيال بصورة لمجموعة من الأشخاص، والإشارة إلى أن الصورة ناتجة من استعمال تطبيق الذكاء الصناعي «ميدجورني».

لويس ويتر، وهو مصوّر مستقل لاحظ استعمال الصورة وأبدى استغرابه، فكتب تحت الخبر الذي صدر على حساب الصحيفة في «تويتر» بنبرة ساخرة «علماً بأننا نعاني نقص العمل كمصوّرين صحافيين... يا له من خبر مفرح...». بعدها، سحبت «لو فيغارو» الصورة مثال الإشكال من موقعها بعدما لاقى التعليق تفاعلاً كبيراً من مستخدمي المنصّة، لدرجة أن مدير قسم التصوير أدريان غيوتو تدخّل ليدافع على الصحيفة ويُوضح موقفها، حيث كتب «لقد حذفنا الصورة لأننا أدركنا أن ذلك لا يوافق سياسة الصحيفة». ثم يضيف «هذه الواقعة دليل على أن الذكاء الصناعي يحيط بنا في كل مكان، وعلينا أن نبدأ الآن في مناقشة هذه المواضيع مع كل زملاء المهنة...».

غلاف مجلة "روغار"

الذكاء الصناعي في خدمة المؤسسات الصغيرة

ولكن، بعد مضي أربعة أيام فقط فوجئ الجميع بصورة أخرى ناتجة من تطبيق «ميدجورني»، وهذه المرة منشورة على موقع مجلة «روغار» التابعة لليسار الفرنسي.

في الحالة الثانية كان هجوم المصوّرين على المجلة في وسائل التواصل الاجتماعي أكثر حدّة، لا سيما وأنها لم توضح مصدر الصورة. وما زاد الطين بلّة أن رئيس تحرير المجلة بابلو بيو فيفيان صرّح لموقع «شاك نيوز» بأنها ليست المرة الأولى التي تستعين فيها المجلة ببرنامج «ميدجورني» لنشر صور ترافق بها مواضيعها. وأردف «نحن مؤسسة إعلامية صغيرة تنقصنا الإمكانات المادية؛ ولذا فإننا لا نستعمل إلا الصور الخالية من حقوق الملكية... أي أننا لا ندفع شيئاً مقابل استخدامها. وحين نعتمد على الصور الناتجة من (ميدجورني) فهذا لا يعني أننا نستعيض عن عمل المصوّرين بالذكاء الصناعي لأننا أصلاً لا نستعمل إلاّ الصور المجانية».

حقائق

جدل كبير قسم الوسط الإعلامي الفرنسي بسبب لجوء بعض الصحف إلى استعمال «ميدجورني»

إصرار رغم الجدل

هذا، وفي قرّرت مجلة «روغار» وقف استعمال «ميدجورني» إثر الهجوم الشديد الذي تعرّضت له، أصّر الموقع الإخباري الرياضي «سو فوت» على تحمّل مسؤولية قراراته باستعماله برنامج الذكاء الصناعي، مواجهاً حملة انتقادات شديدة على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة في «تويتر». وهنا أيضاً، بيار موتارانا، مدير الموقع، اعترف في حديث صحافي بـ«أنها ليست المرة الأولى... بل نشر الموقع عشرات الصور الناتجة من تطبيق «ميدجورني)»، مُصراً على «أن هذا يبقى هامشياً إذا ما قورن بآلاف المضامين والصور الأخرى التي تنشر على الموقع». وكذريعة «روغار»، برّر موتارانا ما حصل بالوضعية الاقتصادية للموقع الإخباري الرياضي، قائلاً «أحياناً نجد انفسنا أمام خيار صعب... فنحن لا نملك الميزانية الكافية لدفع أجور المصوّرين الذين يغطّون الأحداث... كل تكاليفنا محسوبة بالمليم وأنا لا أعرف أي موقع إخباري مجاني يدفع تكلفة الصور عن كل موضوع»،. ثم أردف مستدركاً «طبعاً أنا أتفهم مشاعر الخوف التي يثيرها الذكاء الصناعي عند البعض، لكن علينا مواجهة ذلك عاجلاً أم آجلاً؛ ولذا فنحن نفضّل التعامل معه على أنه وسيلة مسخّرة لخدمتنا...».

الخطر على بعض المهن

وسط هذا الجو، يرى البعض أن الخطر لن يستهدف كل المهن، فمثلاً، لا خوف على مهنة الصحافي المحرّر الذي يعالج بالتحليل مواضيع مختلفة، وهو ما أكدته دراسة لمكتب «غارتنر» كشفت عن أن الذكاء الصناعي سيقضي على نحو 1.8 مليون وظيفة، أهمها في أقسام التصوير والغرافيك والترجمة وتركيب الفيديو والتسويق.

 

ومع أن نموذج «الصحافي الروبوت» أصبح واقعاً ملموساً مع التجارب التي سبق إطلاقها في الكويت وكوريا الجنوبية والصين، فإن استخدام الذكاء الصناعي في أقسام التحرير يبقى محدوداً. وحول هذا الأمر، وفي حديث لصحيفة «ليبيراسيون» أكدت ستيفاني لوكارن، مديرة رابطة المؤلّفين المحترفين، أن «بعض فروع القطاع الإعلامي ستكون معنية مباشرة بدخول مثل هذه البرامج، وذلك ليس فقط من خلال القضاء على فرض العمل عند المصورين ومُصمّمي الغرافيك، بل لكن أيضاً من خلال خفض الطلبات والمستحقات هذه بسبب منافسة الذكاء الصناعي».

الإشكاليات القانونية

الإشكالية الأخرى التي يطرحها «ميدجورني» تتمثل في كيفية استخدامه. ذلك أنه من المعروف أن «شبكات توليد الصور» تتعلم كيفية إنشاء الصور بناءً على ما سبق وشاهدته من قبل، ما يعني أن هذه البرامج «ستتغذّى» بعمل المُصورين و الرسّامين من دون مكافأتهم ولا حتى تنبيههم إلى ذلك، فكيف سيحسم هذا الجانب قانونياً؟

في المداخلة التالية التي نُشرت في صحيفة «ليبيراسيون» خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي نقرأ ما يلي «يستعمل الذكاء الصناعي صور المبدعين لتدريب برامجهم من دون أي ترخيص، وكأن الجميع مدعو لمأدبة كبيرة تغيب فيها حقوق الملكية. الكل مدعُو إلى الغرف من القاعدة المعلوماتية الكبيرة التي تسمى (لايون 5 بي)، وهي عبارة عن علبة عملاقة تحتوي على 6 مليارات صورة من مختلف المصادر كـ(غيتي ايمدج) و(غوغل ايمدج) و(بينترست) و(أرت ستيشاين) و(تويتر) وغيرها...». وحقاً، هذه المسألة كانت قد أثارت قلق المجلس الأعلى للإعلام (سي.إس.أ)، وهو الهيئة المسؤولة عن تأطير وتنظيم نشاط وسائل الإعلام في فرنسا، والتي كانت قد نشرت منذ 2017 بياناً على موقعها تعرب فيه عن قلقها وعن «دور الخوارزميات في الحصول على مختلف المضامين».

من تقنية "ميدجورني"

إن استنساخ أصوات الإعلاميين، ومقدمي البرامج يطرح هو الآخر مشكلة قانونية بسبب حقوق الملكية، ولكن أيضاً الاستعمالات المنتظرة منه، حيث تواجه الشركة الفرنسية المتخصّصة في استنساخ الأصوات «لوفويس لاب» مشكلة في تنفيذ مشاريعها مع «فرانس راديو» و«المعهد الوطني للأرشيف»؛ بسبب الغموض القانوني الذي يحيط بمفهوم «الاستعمال لأغراض تدريب الذكاء الصناعي». وبعض التعليقات استحضرت أيضاً المسؤولية القانونية للصحافة المكتوبة في تفاقم الارتباك الناتج من صعوبة التفريق بين الصّور الحقيقية والصور المزيّفة. وهنا يكتب المُصور الصحافي نيلز أكرمان في صحيفة «كورييه انترناسيونال»، معلقاً «في مواجهة صعود الذكاء الصناعي القادر على إنتاج صور مطابقة للواقع، يجب أن تبقى وسائل الإعلام أكثر من أي وقت مضى (أدوات للواقع)... سأشعر بالراحة لوجود (سوق للواقع) في عالم لا تبقى فيه حدود لتوافر المزيّف والمُركب».

وبالفعل، كل هذه الإشكاليات دفعت وسائل الإعلام إلى تنظيم ندوة كبيرة شاركت فيها أكثر من عشرين مؤسسة من بين الأهم في فرنسا كـ«لوموند» و«لوفيغارو» و«ليزيكو» و«ليبيراسيون» و«لوباريزيان»، وهي الندوة الأولى التي تنظم تحت شعار «تنظيم وحماية حقوق المؤسسات الإعلامية في مواجهة الذكاء الصناعي». وضمت الندوة التي انعقدت يوم 5 أبزيل (نيسان) الماضي ورشة عمل للبحث في سبل تأطير استخدامات الذكاء الصناعي واعتماد «ميثاق للمستخدمين».


الذكاء الصناعي... هل هو بديل للصحافيين أم مساعد لهم؟

شعار تشات جي بي تي
شعار تشات جي بي تي
TT

الذكاء الصناعي... هل هو بديل للصحافيين أم مساعد لهم؟

شعار تشات جي بي تي
شعار تشات جي بي تي

تتكاثر التساؤلات أخيراً عن مدى الاعتماد على الذكاء الصناعي في التغطيات الإعلامية، ودوره وحدوده في تعزيز وإثراء التغطية الإعلامية، وسط قلق على مستقبل الصحافيين من إدراج الذكاء الصناعي ضمن المنظومة الصحافية. في هذه الأثناء يرى مراقبون أن «الذكاء الصناعي بات حقيقة فيما يخص تحديداً العمل الصحافي».

خلال الأعوام الماضية شهدت صناعة الإعلام أكثر من تجربة لدمج الذكاء الصناعي ضمن أدوات مهنة الصحافة. إذ تعاونت وكالة «أسوشييتد برس»، مثلاً، مع منصات متخصصة تعتمد على الذكاء الصناعي لتغطية مباريات كرة القاعدة (البيسبول) من خلال عرض النتائج. كذلك، في عام 2016، ذكرت منصة «باز فييد» أنها انطلقت نحو الاعتماد على الذكاء الصناعي في غرف الأخبار، غير أن المنصة أقدمت لاحقاً في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2022 على «تسريح نحو 12 في المائة من القوة العاملة داخل المؤسسة»، حسب موقع «إنسايدر» الأميركي، ما أثار قلقاً بشأن مستقبل الصحافيين الذين أصبحوا بين خيارَي: إما التكيف وإما التسريح من العمل.

المراقبون المهتمون طرحوا تساؤلات حول تأهيل العنصر البشري في الصحافة لاستخدام أدوات الذكاء الصناعي على نحو نفعي، بحيث يغدو معاوناً يثري الصناعة في إطار «ضمانات تحمي معايير العمل الصحافي، بدلاً من أن تصبح الآلة بديلاً للعنصر البشري، لا سيما بعد رصد أخطاء وقع فيها الذكاء الصناعي تُهدد دقة المعلومات».

رائف الغوري، اختصاصي تقنية المعلومات والمدرب الإعلامي في دولة الإمارات العربية المتحدة، يعتبر أن دور الذكاء الصناعي في التغطية الإعلامية يتوقف على مدى إلمام الصحافي بـ«هندسة الأوامر والتوجيهات». ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن الحصول على إجابة دقيقة يتوقف على إتقان طرح السؤال والاستعلام، وهنا تأتي أهمية العنصر البشري... فسوء توجيه السؤال قد يدفع أداة الذكاء الصناعي إلى إجابات مطوّلة وغير مُركزة على الهدف».

الغوري يؤمن بأهمية الذكاء الصناعي بوصفه أداة لتسهيل التغطية الإعلامية، مضيفاً: «يُمكن للصحافي المحترف أن يستخدم هذه التقنية في تلخيص عرض تقديمي، أو الحصول على موجز لمقطع فيديو طويل، أو تحليل مجموعات بيانات، ثم عمل رسوم بيانية مناسبة لها؛ وهكذا، فالتطبيقات لا حصر لها، وجميعها تصب في صالح تسهيل وإثراء المنتج الصحافي».

هندسة الأوامر والتوجيهات

ويتابع الغوري بأن: «التدرب على هندسة الأوامر والتوجيهات، والبراعة في صياغة أسئلتنا باتت مهارة يومية يحتاجها الصحافي... والإلمام بهندسة التوجيهات يُمكّن العنصر البشري من لغة الحوار والتواصل، للدردشة مع أدوات برامج مثل (تشات جي بي تي) و(بارد) التابع لشركة (غوغل)، وكل هذا يتعاون مع العنصر البشري للوصول إلى أفضل نتيجة».

في المقابل، حول مدى تهديد الذكاء الصناعي لمستقبل الصحافيين، يقول الغوري: «إدراج الذكاء الصناعي ضمن منظومة العمل الصحافي، لا يقابله على الإطلاق فرضية الاستغناء عن العنصر البشري، لا سيما في عالمنا العربي»، وأرجع الإشكالية إلى «نقص المعلومات الدقيقة المكتوبة باللغة العربية على شبكة الإنترنت». وأردف موضحاً: «مثلاً، برنامج مثل (تشات جي بي تي)، آخر تحديث بالعربية تم عليه كان في 2021. ومن ثم لا يُمكن صناعة قصة، وإلا ستبدو بلغة غير مقبولة ومعلومات منقوصة؛ فقط (تشات جي بي تي) يمدّ الصحافي بالمعلومات لتسهيل مهمته».

ومطلع العام الجاري، واجهت منصة «سي نت» CNET اتهامات شديدة على خلفية نشر عشرات المقالات التي كُتبت بواسطة الذكاء الصناعي من دون الإشارة إلى ذلك. وهذا ما اعتبره المراقبون «أمراً غير مقبول صحافياً، لما شملته هذه المقالات من معلومات قليلة الدقة، نتجت عنها توجيهات للجمهور المهتم بسوق المال على نحو خاطئ».

حينذاك، وصفت المنصة هذا التصرف بأنه «مجرد تجربة» حسب «واشنطن بوست». وللعلم، كان الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين قد أعلن عن استخدام الذكاء الصناعي لاختبار ملايين الوثائق المالية والقانونية المسرّبة، لتحديد التفاصيل التي تستحق نظرة فاحصة من مراسليها. ولكن، مات ماكفي -وهو باحث يرأس مشروعاً للذكاء الصناعي في كتابة الأخبار بـ«نيويورك ميديا لاب» التابع لجامعة نيويورك- قال إنه «لا يُمكن لهذه الأدوات أن تحل محل العنصر البشري، فهي لا يمكنها طرح الأسئلة المبتكرة». وأضاف -وفق «واشنطن بوست» خلال يناير (كانون الثاني) الماضي- أن «القصص المصنوعة بواسطة الذكاء الصناعي لن تفتح آفاقاً جديدة، أو تقدم سبقاً صحافياً أو عملاً إبداعياً».

الذكاء الصناعي بات واقعاً

من جهته، يرى خالد عبد الراضي، الخبير في إدارة وتحليل بيانات «السوشيال ميديا» في مصر، أن «الذكاء الصناعي بات واقعاً لا يُمكن غض الطرف عنه، وحان وقت التكيف معه، ووضع المعايير المنظمة لعمله». وأضاف في حوار مع «الشرق الأوسط» شارحاً: «لقد تجاوزنا مرحلة التوقّعات وصرنا أمام حقيقة واقعة... وهنا لا أبالغ بالقول إن العمل الإعلامي سيكون من أكثر المجالات تأثراً بتقنيات الذكاء الصناعي». غير أن عبد الراضي يدحض فكرة الاستعاضة عن الصحافيين بتقنيات الذكاء الصناعي، ويبرّر ذلك بأن «الابتكار والسبق مهارات تخرج عن حدود قدرات الذكاء الصناعي، وهي الضامن لبقاء العنصر البشري». كذلك يشير الخبير المصري إلى أن «استمرار الصحافي يشترط تطوره لتطويع أدوات الذكاء الصناعي ومباشرة عمله، كما أن هذه التقنيات ستسهل بلا شك على الصحافي إنتاج قصة إخبارية، من خلال المساعدة في عمليات البحث والأرقام التي تستغرق وقتاً، ما يتيح للعنصر البشري التفرغ وصب اهتمامه على الجودة والتدقيق».

عبد الراضي عدّد مجالات الاستفادة من الذكاء الصناعي في العمل الصحافي. وقال: «قد تساهم هذه التقنيات في جمع المعلومات والتحقق من مصادرها، كذلك الترجمة بمزيد من الجودة. ولقد شاهدنا تجربة وكالة الأنباء الكندية التي قدمت تجربة مُتقنة لنشر الخبر بأكثر من لغة دون عناء، معتمدة على الذكاء الصناعي». وأضاف: «إنني أتوقع أن تعتمد التقارير الصلبة التي تشترط مهارة الدقة في النقل -على شاكلة تقارير البورصة وسوق المال- بشكل كبير على الذكاء الصناعي، وهو ما سينعكس على عمل الصحافي الذي سيصبح بإمكانه تقديم منتج في وقت أسرع».


«الشرق الأوسط» تُعلن تطويراً رقمياً متكاملاً

«الشرق الأوسط» تُعلن تطويراً رقمياً متكاملاً
TT

«الشرق الأوسط» تُعلن تطويراً رقمياً متكاملاً

«الشرق الأوسط» تُعلن تطويراً رقمياً متكاملاً

أعلنت «الشرق الأوسط» تطويراً رقمياً متكاملاً لمنصاتها وحساباتها المختلفة ونسختها المطبوعة؛ سعياً لخدمة قرائها واستقطاب الأجيال الجديدة عبر منصاتها المُحدثة وتطبيقات التكنولوجيا المتكاملة من خلال حلة جديدة ومطورة.

وتعزز عملية تطوير صحيفة العرب الدولية الأولى، وإحدى المنصات الإعلامية الرئيسية التابعة للمجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)، 45 عاماً من الريادة الإعلامية ظلت فيها «الشرق الأوسط» مقصد الباحثين عن المحتوى الرصين والحصري، والمصدر الإعلامي الأول لصناع القرار والمؤثرين ومراكز السياسة والبحث من المهتمين بالمنطقة وأحداثها.

يشمل التحديث الرقمي تطوير موقع «الشرق الأوسط» الإلكتروني وطرح تطبيق تفاعلي للهواتف المحمولة، إلى جانب قناة «بودكاست» والنشرات البريدية اليومية، إضافة إلى تحديث منصات التواصل الاجتماعي وجميع قنوات التواصل الأخرى مع القراء والمتابعين. وستسهم هذه التحسينات في إتاحة محتوانا على برامج «اقتصاد الشرق مع بلومبرغ» وغيرها من منصات SRMG.

إلى ذلك، عززت «الشرق الأوسط» استراتيجيتها التحريرية، ووسّعت التغطية التي تشتهر بها في مجالات السياسة، والثقافة، والاقتصاد، والصحة، والعلوم، والتكنولوجيا.

تاريخ عريق

عندما انطلقت صحيفة «الشرق الأوسط» في عام 1978، فرضت نفسها كصحيفة عربية دولية رائدة، تُلبي متطلبات القراء العرب في مختلف أسواق العالم. واشتهرت منذ بداياتها في شارع الصحافة «فليت ستريت» في لندن، بلون صفحتها الأولى الأخضر الذي شكّل هوية بصرية مميزة، وجزءاً من تاريخ علاقتها بجمهورها. كما فرضت الصحيفة وجودها بتغطياتها المعمقة التي واكبت الأحداث والقضايا المهمة في العالم على مدى العقود الماضية. ورسّخت سمعتها المرموقة بفضل تغطيتها أحداثاً بارزة، مثل الصراع العربي - الإسرائيلي، وقمة كامب ديفيد وما تمخضت عنه من معاهدات، والثورة الإيرانية، والحرب الأهلية اللبنانية، والحرب العراقية - الإيرانية، وحرب الخليج الأولى، وغزو العراق عام 2003، وفوضى «الربيع العربي». وبفضل سمعتها كصحيفة موثوقة، أجرت «الشرق الأوسط» لقاءات مع العديد من القادة البارزين في لحظات حاسمة من تاريخ العالم، بما في ذلك مقابلاتها مع الزعيم السابق للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، والرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، بعد حرب العراق، وغيرهما.

وعبر تاريخها، تولى مسؤولية الصحيفة رؤساء تحرير من كبار الصحافيين، أسهموا جنباً إلى جنب مع كتاب «الشرق الأوسط» المميزين بتعزيز مكانة الصحيفة.

تجربة فريدة

ستقدم SRMG، المجموعة الإعلامية الأكبر على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تجربة جديدة لمتابعيها عبر منصاتها المتعددة. ولأول مرة، سيكون محتوى صحيفة «الشرق الأوسط» متاحاً على منصات «الشرق للأخبار»، ضمن استراتيجية SRMG التطويرية. وستسهم هذه الجهود في توسعة نطاق إتاحة المحتوى عالي الجودة، وسهولة وصول المتابعين حول العالم إلى الأخبار في أي وقت ومن أي مكان.

وفي تعليقها على الإطلالة الجديدة للصحيفة، قالت جمانا راشد الراشد، الرئيس التنفيذي لـ SRMG «هذه أفضل صحيفة في العالم العربي. فلم تصل صحيفة أخرى إلى محتوى صحافي يضاهي ما نقدمه نوعية وعمقاً. لذا؛ كان من الطبيعي أن تحافظ الصحيفة على ولاء قرائها القوي. عملية التحديث هذه مثال جديد على ريادة (الشرق الأوسط) في مجال الابتكار، حيث نعزز المحتوى ونطوره باستخدام البيانات والمنصات الجديدة. كما نعمل على صقل وتطوير وجذب المهارات الصحافية الناشئة لتتمكن الصحيفة من الحفاظ على ما عُرف عنها من جودة وتميز مهني، في الوقت ذاته الذي تعزز الصحيفة فيه قدرة الجيل الجديد من القراء على الوصول بسهولة إلى ما تقدمه من محتوى أصيل متميز».

من جهته، أكد غسّان شربل، رئيس تحرير «الشرق الأوسط»، أهمية مواكبة التغيّر في المشهد الإعلامي وإطلاق الصحيفة بحلّة جديدة؛ استمراراً لريادتها، مع حفاظها على ما تقدمه من محتوى تحريري حصري عالي الجودة. وقال «يضمن تحوّلنا الرقمي جذب جيل جديد يرغب في الوصول إلى محتوانا بطرق منوعة، وعبر منصات مختلفة». وتابع «من خلال خبرتنا الطويلة، سنستثمر في إنتاج محتوى مميز ومبتكر وعالي الجودة يواكب الأنماط المتغيرة لاستهلاك المعلومات ويعزز مفهوم (الرقمنة أولاً)؛ ما يساهم في توسيع انتشار الصحيفة».

ولطالما كانت «الشرق الأوسط» سبّاقة في ابتكار وتبني وسائل التقنيات الحديثة، وهو ما ظهر جلياً في تقنيات الطباعة التي اعتمدتها، وفي وسائل نقل الصفحات إلى مراكز الطباعة المنتشرة حول العالم باستخدام النقل عبر الأقمار الصناعية منذ الثمانينات، وصولاً إلى كونها من أولى الصحف العربية التي تواجدت على الإنترنت. وتبرهن «الشرق الأوسط» بإطلاق حلتها الجديدة على مواكبتها الدائمة للتغيير في قطاع الإعلام، وإعطائها الأولوية لتقديم محتوى يناسب تطلعات قرائها ويصل إلى شرائح جديدة من المتابعين.


تركي السديري... في «بيوغرافي»

تركي السديري... في «بيوغرافي»
TT

تركي السديري... في «بيوغرافي»

تركي السديري... في «بيوغرافي»

لا يمكن اختزال تاريخ الصحافة السعودية في رجل واحد، إلا أن الصحافي السعودي الراحل تركي السديري يأتي استثناءً هنا، فهو تاريخ صحافي وأيقونة سعودية لا تتكرر، إذ عاش نحو نصف قرن في بلاط صاحبة الجلالة، كان حينها مالئ الدنيا وشاغل الناس، كما يصف الشاعر المتنبي نفسه، وهو وصف يليق بالسديري الذي وهب حياته للصحافة وصولاتها وجولاتها.

لم يكن رحيله عام 2017 النقطة التي توضع في آخر السطر، حيث ما زال تركي السديري مؤثراً في وسطه الصحافي، حاضراً وغائباً، وهو ما بدا واضحاً في الحشد الإعلامي الكبير الذي حضر فيلم «قصة ملك الصحافة»، وهو فيلم بيوغرافي يتناول سيرة الراحل، عُرض في مهرجان أفلام السعودية المقام حالياً في مركز إثراء بمدينة الظهران (شرق السعودية).

وللحظة، عاد الحضور إلى الحي القديم الواقع في محافظة الغاط التابعة لمنطقة الرياض، حيث وُلد تركي السديري عام 1944، ثم الانتقال التدريجي من مرحلة حياتية لأخرى، ومقاطع أرشيفية من لقاءات تلفزيونية قديمة ونادرة للراحل، وكذلك لقاء نادر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (كان حينها أميراً لمنطقة الرياض) أشاد فيها بالراحل وجهوده الكبيرة.

وعن اسم الفيلم، فقد أظهر أن الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز هو من أطلق على تركي السديري لقب «ملك الصحافة». وذلك في الفترة الذهبية للصحافي الذي شغل لسنوات طويلة رئاسة هيئة الصحافيين السعوديين واتحاد الصحافة الخليجية، وهو ما ألقي الضوء عليه في الفيلم، الذي جاء بإخراج حسن سعيد، وكتابة وإنتاج علي سعيد.

بوستر فيلم «قصة ملك الصحافة» (الشرق الأوسط)

قصة الفيلم

يتحدث نجله مازن السديري، لـ«الشرق الأوسط» عن الفيلم، قائلاً: «حين عُرضت فكرته عليّ من المنتج علي سعيد والمخرج حسن سعيد، تحمست جداً». مشيراً إلى أن علي سعيد كان صحافياً في جريدة الرياض التي رأس تحريرها الراحل لـ4 عقود، ويضيف: «كنت أتابعه، كان معنياً بالأدب ثم نهج حياة الفن، وأعتقد أن الصحافة عمل منطقي، بينما أرى الفن هو كل شيء جميل لا نستطيع أن نجعله واقعاً».

ويتابع: «تجاوبت مع فكرتهما وحاولنا تقديم حياة هذا الرجل في قالب سهل للفهم واضح، لأنه تقلد منصب رئيس تحرير جريدة الرياض على مدى 4 عقود، من 1974 إلى عام 2015. وقبلها عمل 7 سنوات صحافياً، وخلال هذه المدة الطويلة مرت عواصف على الصحافة السعودية والعالمية، جيوسياسية وتقنية واقتصادية، وأيضاً اجتماعية، فهي فترة مهمة للأجيال التي ستأتي لتعرف كيف تم التعامل معها وما متغيراتها».

لقاء تلفزيوني قديم ونادر للراحل عرضه الفيلم (الشرق الأوسط)

حياد الفيلم

بسؤال نجل الراحل هل جاء الفيلم بشفافية عالية أم أن هناك كثيراً من المسكوت عنه بالنظر لكثرة العوامل والمتغيرات التي عاشها تركي السديري؟ يجيب: «لا بد أن نقدم ما هو حيادي وموضوعي، وإلا لن تكون للفيلم أي قيمة، ومن شاركوا في الفيلم هم شهود على عدة مراحل، بعضهم في فترة تسبق دخوله عالم الصحافة، وأحدهم في بداية حياته الصحافية، وآخر خلال مرضه، وهكذا حاولنا أن نقدم حياته دون تحفظ وبتوازن وواقعية».

ويصف مازن السديري فيلم «قصة ملك الصحافة» بأنه «فيلم لا يجعل الجمهور يعطي رأياً في تركي السديري، بل يتعرّف عليه»، مؤكداً على الحيادية التامة التي تم التعاطي بها خلال سياق الفيلم الوثائقي الذي تصل مدته إلى نحو 53 دقيقة، تتنقل بسرعة بين محطات زاخرة عاشها تركي السديري، كان أبرزها إقالته من رئاسة التحرير في فترة ما ثم عودته إليها.

وجاء مشهد مدير مكتبه وهو يروي تدهور الحالة الصحية لتركي السديري في أيامه الأخيرة بشكل مؤلم، حيث يحكي كيف كان يدخل السديري إلى مبنى الجريدة ولا يعرف أين مكتبه، في حالة من الوهن التي عصفت به وأثرت على ذاكرته، وهي لحظة جاءت بعد سلسلة طويلة من النجاحات الساحقة التي سجلها في ميادين الصحافة.

رواة الفيلم

وفي لقاء «الشرق الأوسط» مع المخرج حسن سعد والكاتب والمنتج علي سعيد، أوضحا أن الفيلم تم تصويره في عدة أماكن حقيقية، ما بين مكتب الراحل في جريدة الرياض ومكتبه في منزله وغيرها، مع وجود عدد كبير من الإعلاميين ممن ظهروا في الفيلم كرواة، مثل؛ عبد الرحمن الراشد، ويوسف الكويليت، وممدوح المهيني، وسعد الحميدين، وهاني الغفيلي، وغيرهم من الصحافيين الذين رافقوا الراحل، إلى جانب إبراهيم القدير الذي كان صديقاً مقرباً لتركي السديري.

ويؤكد الأخوان سعيد أن الفيلم ليس نخبوياً، بل صنعاه بطريقة تلامس وتشد الجميع، يحكي علي سعيد عن شرارة الفكرة قائلاً: «حين كنت صحافياً في جريدة الرياض كنت مهتماً بالسينما والأدب، وتركت الجريدة في نفس العام الذي توفي فيه تركي السديري، وحينها راودتني فكرة صنع فيلم وثائقي عنه، وطرحتها على نجله مازن السديري الذي تحمس كثيراً وفتح لنا بيته للتصوير، وكشف لنا الكثير من أرشيفه».

مازن السديري يتوسط الأخوين علي سعيد وحسن سعيد (الشرق الأوسط)

جريدة الرياض

يشير علي سعيد إلى أن الفيلم الذي ينطلق من طفولة تركي السديري كطفل يتيم، ودخوله إلى عالم الأدب ثم انتقاله إلى عالم الصحافة، وتحولاته التي نقلت جريدة الرياض من صحيفة عادية في حي المرقب إلى مبنى في حي الملز، ثم إلى مبناها الضخم الحالي، وخلال هذا التنقل أصبحت جريدة الرياض من أهم الصحف في العالم العربي، كما يقول.

ويبدو لافتاً أن الفيلم لا يقدم معلومات فقط، بل يدرس شخصية تركي السديري من عدة جوانب قيادية وإنسانية وثقافية وغيرها، وكيف تعامل مع عدة نكسات، حيث يوضح علي سعيد أن الفيلم يكشف الستار لأول مرة عن قصة إقالة السديري من منصب رئاسة التحرير، وهي حادثة شهيرة وقعت في الثمانينات وظلت غامضة إلى أن كشفها الفيلم بالوثائق، ليأتي «قصة ملك الصحافة» باعتباره مرجعاً سينمائياً هاماً لكل المهتمين بالراحل والصحافة السعودية.