عملية «انتقام الصقر» الأميركية تربك المشهد السياسي في العراق

أعادت إلى الواجهة ملف الوجود الأجنبي المعلق أصلاً بسبب الأزمة الحكومية

قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي خلال مؤتمر صحافي حول الضربات الجوية في العراق (رويترز)
قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي خلال مؤتمر صحافي حول الضربات الجوية في العراق (رويترز)
TT

عملية «انتقام الصقر» الأميركية تربك المشهد السياسي في العراق

قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي خلال مؤتمر صحافي حول الضربات الجوية في العراق (رويترز)
قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي خلال مؤتمر صحافي حول الضربات الجوية في العراق (رويترز)

بعد فترة الهدوء التي أعقبت عملية «البرق الأزرق» في يناير (كانون الثاني) 2020 التي أدت إلى اغتيال قائد «فيلق القدس» الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي» العراقي، أبو مهدي المهندس قرب مطار بغداد، عادت المواجهة من جديد وبطريقة أكثر اتساعاً بين أميركا من جهة وفصائل «الحشد» من جهة أخرى.
الجديد الذي لم يكن متوقعاً هذه المرة هو دخول بريطانيا على خط المواجهة، وذلك على خلفية مقتل جندي بريطاني خلال القصف الصاروخي الذي لم يعلن أحد تبنيه على معسكر التاجي الذي يضم أميركيين وبريطانيين.
العملية الجديدة التي أطلق عليها التحالف الدولي تسمية «انتقام الصقر» لم تكن أميركية فقط؛ بل بمشاركة بريطانية، وهو ما يعني توسيع نطاق المشاركة، وإحداث مزيد من الإرباك في المشهد السياسي العراقي المنقسم على نفسه؛ سواء على صعيد التعامل مع الوجود الأجنبي في العراق، أو على صعيد الأزمة الخانقة التي تمر بها العملية السياسية، في ظل عدم اتفاق القوى السياسية الشيعية على اختيار رئيس وزراء جديد.
الأمر الجديد الآخر في عملية «انتقام الصقر» هو ليس فقط اتساع نطاق الأهداف التي شملها القصف أو طبيعتها، وما خلفه من آثار تدميرية لا سيما في البنى التحتية؛ بل في نوعية الأسلحة التي جرى استخدامها، وهي طائرات حربية مقاتلة من نوع «إف 35» وليست طائرات مسيرة «درون» كتلك التي استخدمت في قصف مقرات «الحشد» عام 2019، أو التي قتلت سليماني والمهندس، أو صواريخ عن بعد. وبينما يعيد هذا القصف ملف إخراج القوات الأميركية إلى الواجهة من جديد، فإن هذا الملف يبقى معلقاً في الهواء، بسبب عدم وجود حكومة كاملة الصلاحيات يمكن أن تتعامل معه لكي يتم وضعه على الطاولة.
وفي سياق ردود الفعل، فإنه في الوقت الذي دعا فيه الرئيس العراقي برهم صالح إلى أن «معالجة الأوضاع الأمنية تأتي من خلال دعم الحكومة العراقية للقيام بواجباتها، وتعزيز قدراتها وإرادتها لفرض القانون وحماية السيادة، ومنع تحول أراضيها إلى ساحة حرب بالوكالة»، فإن زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم قد دعا الحكومة العراقية إلى أن «تأخذ دورها الصحيح والمناسب للحفاظ على هيبة الدولة وحماية سيادتها من أي انتهاك». وبينما يرى صالح أن «من شأن هذه المخاطر، إذا ما استمرت، الانزلاق بالعراق إلى حالة اللادولة والفوضى، لا سيما إذا ما تواصل التصعيد الأمني، مع توفر المؤشرات حول محاولة عناصر (داعش) الإرهابي استعادة قدرتهم على تهديد أمن الوطن والمواطن»، فإن الحكيم حذر من جانبه من أن مثل هذه الممارسات يمكن أن «تحول العراق إلى ساحة صراع وتجاذب سياسي وعسكري». زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، دخل على خط التعامل مع هذه الأزمة من زاوية بدت مختلفة؛ حيث دعا في تغريدة له إلى أهمية «ضبط النفس، ونشر السلام في ربوع العراق» حالياً. وأضاف الصدر: «إننا لسنا دعاة سلام مع المحتل؛ إلا أننا نراعي الظروف المحيطة بالشعب العراقي الأبي، الذي ندعو الله أن يخلصه من المحتل والفاسد على حد سواء».
إلى ذلك، أكد رئيس «مركز أكد للدراسات والرؤى الاستراتيجية»، الدكتور حسين علاوي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «المواجهة بين الولايات المتحدة والفصائل المسلحة في العراق، لن يتم التصعيد فيها إلى مواجهة مفتوحة، وإنما هجمات تكتيكية لإعاقة مراكز الثقل، واستمرار حالة الردع المتفوق من قبل الولايات المتحدة والتحالف الدولي»، مبيناً أن «الحلقة الأضعف هي الحكومة العراقية التي لا يقودها رئيس مالك للشرعية الدستورية، فضلاً عن أن الصراع السياسي الداخلي قد انعكس على القرار العسكري بعدم قدرة الحكومة العراقية على تحييد نهج الضربة الثانية للطرف الدولي، سواء الولايات المتحدة أو دول التحالف الدولي، وخصوصاً بعد الهجمات على معسكر التاجي العراقي، الذي يحتضن بعثة عسكرية دولية للتدريب». وأضاف علاوي أن «الحل الأساسي يمكن في تسمية رئيس وزراء ناضج وقادر على إدارة السلم الأهلي والاقتصاد، وفرض القانون والعلاقات الخارجية المتوازنة مع الجميع». وأوضح علاوي أن «الرسالة الأميركية أنه ستتم معالجة أي تهديد بشكل منفرد لحين حسم الأمر بتنظيم عمل القوات الأجنبية، وإجلاء القوات، في ظل وضع داخلي مؤسف». ولفت علاوي إلى أن «من ينظم الوضع الداخلي هي الحكومة، وقدرة الناظم السياسي على استعادة الثقة من قبل الشعب والمحتجين الشباب بالسلطة السياسية».



الحوثيون يكثفون انتهاكاتهم بحق الأكاديميين في الجامعات

فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)
فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)
TT

الحوثيون يكثفون انتهاكاتهم بحق الأكاديميين في الجامعات

فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)
فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)

كثّفت الجماعة الحوثية استهدافها مدرسي الجامعات والأكاديميين المقيمين في مناطق سيطرتها بحملات جديدة، وألزمتهم بحضور دورات تعبوية وزيارات أضرحة القتلى من قادتها، والمشاركة في وقفات تنظمها ضد الغرب وإسرائيل، بالتزامن مع الكشف عن انتهاكات خطيرة طالتهم خلال فترة الانقلاب والحرب، ومساعٍ حثيثة لكثير منهم إلى الهجرة.

وذكرت مصادر أكاديمية في العاصمة اليمنية المختطفة صنعاء لـ«الشرق الأوسط» أن مدرسي الجامعات العامة والخاصة والموظفين في تلك الجامعات يخضعون خلال الأسابيع الماضية لممارسات متنوعة؛ يُجبرون خلالها على المشاركة في أنشطة خاصة بالجماعة على حساب مهامهم الأكاديمية والتدريس، وتحت مبرر مواجهة ما تسميه «العدوان الغربي والإسرائيلي»، ومناصرة فلسطينيي غزة.

وتُلوّح الجماعة بمعاقبة مَن يتهرّب أو يتخلّف من الأكاديميين في الجامعات العمومية، عن المشاركة في تلك الفعاليات بالفصل من وظائفهم، وإيقاف مستحقاتهم المالية، في حين يتم تهديد الجامعات الخاصة بإجراءات عقابية مختلفة، منها الغرامات والإغلاق، في حال عدم مشاركة مدرسيها وموظفيها في تلك الفعاليات.

أكاديميون في جامعة صنعاء يشاركون في تدريبات عسكرية أخضعهم لها الحوثيون (إعلام حوثي)

وتأتي هذه الإجراءات متزامنة مع إجراءات شبيهة يتعرّض لها الطلاب الذين يجبرون على حضور دورات تدريبية قتالية، والمشاركة في عروض عسكرية ضمن مساعي الجماعة لاستغلال الحرب الإسرائيلية على غزة لتجنيد مقاتلين تابعين لها.

انتهاكات مروّعة

وكان تقرير حقوقي قد كشف عن «انتهاكات خطيرة» طالت عشرات الأكاديميين والمعلمين اليمنيين خلال الأعوام العشرة الماضية.

وأوضح التقرير الذي أصدرته «بوابة التقاضي الاستراتيجي»، التابعة للمجلس العربي، بالتعاون مع الهيئة الوطنية للأسرى والمختطفين، قبل أسبوع تقريباً، وغطّي الفترة من مايو (أيار) 2015، وحتى أغسطس (آب) الماضي، أن 1304 وقائع انتهاك طالت الأكاديميين والمعلمين في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية التي اتهمها باختطافهم وتعقبهم، ضمن ما سمّاها بـ«سياسة تستهدف القضاء على الفئات المؤثرة في المجتمع اليمني وتعطيل العملية التعليمية».

أنشطة الجماعة الحوثية في الجامعات طغت على الأنشطة الأكاديمية والعلمية (إكس)

ووثّق التقرير حالتي وفاة تحت التعذيب في سجون الجماعة، وأكثر من 20 حالة إخفاء قسري، منوهاً بأن من بين المستهدفين وزراء ومستشارين حكوميين ونقابيين ورؤساء جامعات، ومرجعيات علمية وثقافية ذات تأثير كبير في المجتمع اليمني.

وتضمن التقرير تحليلاً قانونياً لمجموعة من الوثائق، بما في ذلك تفاصيل جلسات التحقيق ووقائع التعذيب.

ووفق تصنيف التقرير للانتهاكات، فإن الجماعة الحوثية نفّذت 1046 حالة اختطاف بحق مؤثرين، وعرضت 124 منهم للتعذيب، وأخضعت اثنين من الأكاديميين و26 من المعلمين لمحاكمات سياسية.

وتشمل الانتهاكات التي رصدها التقرير، الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب الجسدي والنفسي والمحاكمات الصورية وأحكام الإعدام.

عشرات الأكاديميين لجأوا إلى طلب الهجرة بسبب سياسات الإقصاء الحوثية وقطع الرواتب (إكس)

وسبق أن كشف تقرير تحليلي لأوضاع الأكاديميين اليمنيين عن زيادة في طلبات العلماء والباحثين الجامعيين للهجرة خارج البلاد، بعد تدهور الظروف المعيشية، واستمرار توقف رواتبهم، والانتهاكات التي تطال الحرية الأكاديمية.

وطبقاً للتقرير الصادر عن معهد التعليم الدولي، ارتفعت أعداد الطلبات المقدمة من باحثين وأكاديميين يمنيين لصندوق إنقاذ العلماء، في حين تجري محاولات لاستكشاف الطرق التي يمكن لقطاع التعليم الدولي من خلالها مساعدة وتغيير حياة من تبقى منهم في البلاد إلى الأفضل.

إقبال على الهجرة

يؤكد المعهد الدولي أن اليمن كان مصدر غالبية الطلبات التي تلقّاها صندوق إنقاذ العلماء في السنوات الخمس الماضية، وتم دعم أكثر من ثلثي العلماء اليمنيين داخل المنطقة العربية وفي الدول المجاورة، بمنحة قدرها 25 ألف دولار لتسهيل وظائف مؤقتة.

قادة حوثيون يتجولون في جامعة صنعاء (إعلام حوثي)

لكن تحديات التنقل المتعلقة بالتأشيرات وتكلفة المعيشة والاختلافات اللغوية الأكاديمية والثقافية تحد من منح الفرص للأكاديميين اليمنيين في أميركا الشمالية وأوروبا، مقابل توفر هذه الفرص في مصر والأردن وشمال العراق، وهو ما يفضله كثير منهم؛ لأن ذلك يسمح لهم بالبقاء قريباً من عائلاتهم وأقاربهم.

وخلص التقرير إلى أن العمل الأكاديمي والبحثي داخل البلاد «يواجه عراقيل سياسية وتقييداً للحريات ونقصاً في الوصول إلى الإنترنت، ما يجعلهم يعيشون فيما يُشبه العزلة».

وأبدى أكاديمي في جامعة صنعاء رغبته في البحث عن منافذ أخرى قائمة ومستمرة، خصوصاً مع انقطاع الرواتب وضآلة ما يتلقاه الأستاذ الجامعي من مبالغ، منها أجور ساعات تدريس محاضرات لا تفي بالاحتياجات الأساسية، فضلاً عن ارتفاع الإيجارات.

إجبار الأكاديميين اليمنيين على المشاركة في الأنشطة الحوثية تسبب في تراجع العملية التعليمية (إكس)

وقال الأكاديمي الذي طلب من «الشرق الأوسط» التحفظ على بياناته خوفاً على سلامته، إن الهجرة ليست غاية بقدر ما هي بحث عن وظيفة أكاديمية بديلة للوضع المأساوي المعاش.

ويقدر الأكاديمي أن تأثير هذه الأوضاع أدّى إلى تدهور العملية التعليمية في الجامعات اليمنية بنسبة تتجاوز نصف الأداء في بعض الأقسام العلمية، وثلثه في أقسام أخرى، ما أتاح المجال لإحلال كوادر غير مؤهلة تأهيلاً عالياً، وتتبع الجماعة الحوثية التي لم تتوقف مساعيها الحثيثة للهيمنة على الجامعات ومصادرة قرارها، وصياغة محتوى مناهجها وفقاً لرؤية أحادية، خصوصاً في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

وفي حين فقدت جامعة صنعاء -على سبيل المثال- دورها التنويري في المجتمع، ومكانتها بصفتها مؤسسة تعليمية، تُشجع على النقد والتفكير العقلاني، تحسّر الأكاديمي اليمني لغياب مساعي المنظمات الدولية في تبني حلول لأعضاء هيئة التدريس، سواء في استيعابهم في مجالات أو مشروعات علمية، متمنياً ألا يكون تخصيص المساعدات لمواجهة المتطلبات الحياتية للأكاديميين غير مشروط أو مجاني، وبما لا يمس كرامتهم.