محيي الدين ياسين... لاعب كرة الريشة «القَلِق»

رئيس وزراء ماليزيا الجديد تحت الضوء

محيي الدين ياسين... لاعب كرة الريشة «القَلِق»
TT

محيي الدين ياسين... لاعب كرة الريشة «القَلِق»

محيي الدين ياسين... لاعب كرة الريشة «القَلِق»

مُستعيراً بعض سمات رياضة كرة الريشة (البادمنتون) التي استهوته فلعبها شاباً، انسل محيي الدين ياسين رئيس وزراء ماليزيا الجديد بخفة وفي توقيت مثالي من التزامات «تحالف الأمل» الذي جمعه بحليفيه السابقين وغريميه الحاليين مهاتير محمد (95 سنة)، وأنور إبراهيم (72 سنة)، ليأخذ موقعه على كرسي طالما كان قريباً على البعد وبعيداً على القرب.
كان ياسين (73 سنة تقريباً) يعرف ما تقتضيه أصول كرة الريشة، وعبر مقاربة رياضية - سياسية رسم لنفسه خطة الحركة التي أوصلته مطلع هذا الشهر لرئاسة حكومة بلاده ليكون الثامن في تاريخها منذ الاستقلال عام 1957... في لعبته المفضلة تمتزج الكرة مع 14 ريشة تقريباً ورغم خفة وزن الواحدة منها؛ فإن غياب إحداها يخل حتماً بالتوازن، وهكذا كان الحال نفسه في ماليزيا متعددة الأعراق والإثنيات (ملاوية - صينية - هندية - أصول عربية وأوروبية) لا مستقبل لنجاح سياسي إلا بالتحالف؛ فمن يُحسن التمركز ويؤمن جبهة الحلفاء ويدير التناقضات فهو فقط الذي يستطيع أن يكون رأس الحربة.

يرى مراقبون أن محيي الدين ياسين، على ما يبدو، ضاق بدوره الوازن بين «المنافسين الكبيرين» مهاتير محمد وأنور إبراهيم، إذ إنهما أسسا تحالفهما على تعهد أُعلن عام 2018 - كان يقبله ياسين - بتبادل مقعد رئيس الوزراء بينهما بعد عامين، ليكون الدور أولاً لمهاتير، ويعقبه إبراهيم. غير أنه ومع قرب حلول موعد الاستحقاق ناور مهاتير رئيس الوزراء التاريخي للبلاد (1981 - 2003) بتقديم استقالته باحثاً عن ثقة برلمانية جديدة يتملص بها من تعهده القديم وينال شرعية لا ينازعه أحد عليه، لكن الرياح جرت بما تشتهي سفن ياسين، فقرر ملك البلاد تكليفه متخلصاً من ثنائية مهاتير - إبراهيم.

- البدايات
منذ مولد محيي الدين ياسين في مايو (أيار) 1945 كان كما بلاده عُرضة لمقادير مختلفة وإرادات متباينة، وفي ولاية جوهور الساحلية (أقصى جنوب ماليزيا)، وبينما كان ياسين ينطلق صارخاً للمرة الأولى، كانت ماليزيا موقعاً لنزاع عالمي على موازين القوى ومواقع السيطرة بعد أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها. فبريطانيا التي كانت المحتل السابق لماليزيا تسعى لاستعادة نفوذها بعدما تمكنت عدوتها اليابان من اقتناص مواقع استراتيجية مهمة بينها ماليزيا، ودارت رحى الحرب بين عدوين سيكون مكسب أيهما خسارة لياسين وأهل وطنه.
وبسبب تلاقي المسارات البحرية في ماليزيا، والقرب من مضيق ملقا البالغ الأهمية لحركة التجارة، عرفت ماليزيا تنوعاً إثنياً وعرقياً في السكان، فضلاً عن تعدد المحتلين. فمن الهولنديين إلى البرتغاليين ومروراً باليابانيين ووصولاً إلى البريطانيين قذفت أمواج المحيط المستعمرين إلى ماليزيا من كل حدب وصوب إلى أن تحقق الاستقلال. كل ذلك كله أثّر بشكل غير مباشر في سمات شخصية محيي الدين ياسين الذي تعلم الصبر على المغايرين، والكمون إلى جوار المتحالفين، وتحين الفرص، وطي الأيام دون نسيان الهدف، وربما درّب نفسه أكثر على الصيد الذي كان النشاط الأكبر لسكان ولاية جوهور حيث نشأ.

- كمون وتمرد
كما أقرانه، تلقى ياسين تعليماً محلياً ودرس الاقتصاد في جامعة الملايو، ثم التحق بشركات حكومية عدة. غير أن ديمومة الحركة السياسية في بلاده، نقلت تركيزه واهتمامه إلى ساحة البرلمان ليصبح نائباً عن مسقط رأسه وكان عمره 33 سنة. وتدرج بعد ذلك في مناصب محلية في ولاية جوهور، وذلك بسبب عضويته في التحالف الحزبي لـ«المنظمة الوطنية المتحدة للملايو» (أومنو) الذي حكم البلاد لنحو 6 عقود... وبعد سنوات سيشارك محيي الدين ياسين نفسه ومهاتير (القائد السابق لـ«أومنو») في إقصاء منظمتهم السابقة ممثلة في رئيس الوزراء نجيب رزاق والعودة للسلطة عام 2018 بأغلبية نالها «تحالف الأمل (باكتان)».

- سياسي طامح
ما تشربه ياسين صغيراً كان لا يزال يدور داخل رأسه، فالسياسي الطامح ملتزم بالكمون في موقعه وتحقيق مكاسب بطيئة ولكن دائمة. واستطاع العمل خلال 4 عقود مع 3 رؤساء للوزراء (مهاتير محمد، وعبد الله بدوي، ونجيب رزاق» رغم تباين سياساتهم، ونجح في أن ينال موقعاً بارزاً كرجل ثاني في الحكومة تحت اسم نائب رئيس الوزراء، فضلاً عن إدارته لحقائب مهمة منها التعليم والذي يسجل تاريخه فيها إلغاءه لتدريس الرياضيات والعلوم بالإنجليزية، وكذلك كان وزيراً الداخلية.
مسيرة محيي الدين ياسين لم تكن خالية من تمرد، لكن تقدم العمر والخبرة ومحاولة تدريب النفس نقلوا هواياته من كرة الريشة إلى الغولف، حسبما تحدث الرجل أمام «أكاديمية الولايات المتحدة للرياضة» خلال مراسم منحه الدكتوراه الفخرية عام 2013. واعتبر ياسين حينها أن رياضته الجديدة «ذات طابع علاجي تخلص المرء من ضغوطه العصبية».
غير أن الضغوط العصبية التي واجهها ياسين، كانت على ما يبدو أكبر من أن تخرج في ضربة بمضرب الغولف أو تمتصها الملاعب الخضراء الشاسعة، فلم يستطع منع نفسه وهو نائب لرئيس الوزراء من إعلان انتقاد مباشر لرئيسه نجيب رزاق، عام 2015 على ضوء «مخالفات وجرائم فساد في (الصندوق السيادي الماليزي)»، والتي ثبت فيما بعد صحتها.
كلّف ذلك الانتقاد، ياسين منصبه. ولم يكتف رزاق بإقالة ياسين من الحكومة تنكيلاً، بل أطاح به في عام 2016 من «حزب (أومنو)» الحاكم.
رغم هذه النكسة- لم يستسلم الرجل للإقالة وسرعان ما أسس «حزب السكان الأصليين المتحد (بيرساتو)»، مظهراً إصراراً على المضي بمسار معارضة نجيب رزاق، وأملاً في أن يكون حصاناً أسود يقصي غريمه رزاق ويخلفه في موقعه، أو على الأقل يسترد منصب نائب رئيس الوزراء.

- التقارب مع مهاتير
مع نمو أدلة «فساد رزاق» بتهمة اختلاس 700 مليون دولار من صندوق البلاد السيادي، تقارب ياسين مع مهاتير محمد، وانخرطا سوياً في حزب «بيرساتو»، الذي انضوى بدوره مع حزب «عدالة الشعب» وقائده أنور إبراهيم في تحالف تاريخي تمكّن من كسر شوكة «أومنو» الذي سيطر لستة عقود على السلطة، واستطاع هذا التحالف - «تحالف الأمل» - حسم الأغلبية التي أعادت مهاتير محمد لرئاسة الحكومة وهو في التسعينات من عمره، وبعد 15 سنة تقريباً من مغادرته المنصب واعتزاله السياسة.
ومرة أخرى وجد ياسين نفسه بين إرادات ومقادير لا يملكها، إذ مع تلقيه نبأ اعتقال نجيب رزاق، اكتشف ياسين أنه مريض بسرطان البنكرياس. وبالتالي، بدلاً من أن يكون في «المطبخ السياسي» لـ«تحالف الأمل» الذي منحه حقيبة وزارة الداخلية، ظل نحو 6 أشهر يتلقى العلاج الكيماوي في سنغافورة، بينما كان يعتقد أن مستقبله ينغلق ونهايته تقترب.
ألقت ظلال تجربة المرض الثقيلة بظلالها على مستقبل ياسين وأرجعته دون شك خطوات للوراء إذ لم يعد رقماً صعباً أو هكذا ظن حلفاؤه، وعاد لموقع الشراكة المتوارية في ظل الغريمين السابقين. في هذه الأثناء، بلغت ثقة كل من أنور إبراهيم ومهاتير محمد بقدرتهما على إدارة التحالفات البرلمانية، إلى إقرار «لعبة كراسي موسيقية» كانت تقتضي أن يغادر مهاتير موقعه بحلول منتصف عام 2020 على أن يخلفه إبراهيم لمدة سنتين. وكان محيي الدين ياسين رغم هزاله البادي يراقب بعين خبيرة منتظراً الفرصة، والتي بدا أنها جاءت بعدما تقدم مهاتير محمد باستقالته باحثاً عن إعادة تموضع لتحالفاته والنأي عن أنور إبراهيم، لكن سلطان البلاد وتحركات ياسين رسما مساراً جديداً ومفاجئاً.

- تلاقي الرغبات
أخيراً بدا أن بعضاً من الحظ توافق مع حسن التخطيط وصبا في مصلحة محيي الدين ياسين. إذ تلاقى أمله في رئاسة الوزراء، مع رغبة السلطان عبد الله السلطان أحمد شاه، الذي وصل لموقعه قبل شهرين فقط، ووجد نفسه مواجهاً لاستقالة مهاتير محمد، وما خلفته من ارتباك سياسي.
خلفية الموقف السلطاني الداعم لياسين، لا يمكن فهمها بمعزل عن الملابسات الدرامية والتراجيدية التي صاحبت تنازل السلطان السابق لماليزيا محمد الخامس عن العرش ليتزوج من ملكة جمال روسية، ولتختتم القصة بانفصال وإنكار لنسب طفل، في عاصفة طالت وقار مؤسسة السلطنة في البلاد.
وبحثاً عن الاستقرار المطلوب، وتأكيداً للحسم، وإظهاراً للجلد بعد تجربة السلطان السابق، دخل السلطان الجديد شاه أحمد، على خط أزمة شغور منصب رئيس الوزراء. وبينما كان الجميع يدخل في توقعات ثنائية بين مهاتير وإبراهيم، كلف السلطان، محيي الدين ياسين برئاسة الوزراء، ولقد استقبل الأخير النبأ ساجداً شاكراً على سجادة في منزله، بحسب ما أظهرت مقاطع مصورة بثها مقربون منه.
ورغم بعض الهجوم الذي طال الإجراء إلى الحد الذي وصفته صحيفة «الغارديان» البريطانية بـ«الانقلاب» واتهام مهاتير لياسين بـ«الخيانة»؛ فإن السلطان اعتبر الخطوة دستورية وأنها نتاج لقاءات مع أعضاء البرلمان وقادة الأحزاب السياسية، ومضي المسار إلى مرحلة أداء اليمين في مراسم رسمية.

- الرجل الثاني
استقام الأمر سلطانياً وسياسياً إذن لمحيي الدين ياسين، خصوصاً بعدما أقر سلفه «التسعيني» مهاتير، نهاية الأسبوع الماضي بأنه «لم يعد يسيطر على غالبية في البرلمان ولن يفوز في اقتراع بسحب الثقة من محيي الدين بعد أن تخلى عنه بعض مؤيديه للانضمام لمعسكر رئيس الوزراء الجديد».
شحذ ياسين خبراته القديمة لاعباً وسياسياً ومسؤولاً، وبدأ تسمية وزراء حكومته وكان من بينهم أعضاء في حزبه السابق «أومنو»، غير أن ملمحاً مهماً سيطر على اختياراته، إذ تحدث صراحة بشأنه قائلا: «بوجود هؤلاء الوزراء الكبار لن تكون هناك حاجة في الوقت الراهن لتعيين نائب رئيس للوزراء»... وهو المنصب نفسه الذي شغله مع رؤساء وزراء سابقين قبل أن يحل محلهم.
كرجل يتعافى من سرطان البنكرياس، فإن جسده النحيف بعد امتلاء يمكن أن يكون مقبولاً حيناً أو مثيراً للشفقة أحياناً. لكن ما أخفاه الزي الوطني الوقور الذي غطى قوام ياسين في جلسة حلف اليمين أمام الملك لا يبدو قادراً على منحة الثقة في تعضيد ولايته أو ضمان ولاء من هم حوله...
هل هو الخوف من درس التاريخ الذي عاصره ووضعه في موقع الرجل الثاني إلى أن تمكن من الوثب على مقعد رئيس الوزراء؟... أم هو «كعب أخيل» الذي يخشى أن تصل إليه من خلاله ضربة نهايته؟


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».