محمد عفيفي مطر شاعر الطمي والأساطير السلالية واللاوعي الجمعي

آثر الإقامة في الظل بعيداً عن المنابر والأضواء

محمد عفيفي مطر
محمد عفيفي مطر
TT

محمد عفيفي مطر شاعر الطمي والأساطير السلالية واللاوعي الجمعي

محمد عفيفي مطر
محمد عفيفي مطر

لعل أكثر ما يميز الشعر العظيم هو كونه مصنوعاً من مواد وعناصر غير قابلة للتلف. فالنصوص الشعرية العالية لا تكف عن رفدنا بالمزيد من الإيحاءات، مهما تكررت قراءاتها. ولأنها مصنوعة من مادة الجمال نفسها فهي تزداد توهجاً مع كل قراءة، بما يذكّرنا بقول أبي نواس «يزيدك وجهه حسناً\ إذا ما زدته نظرا». وبما أن المعاصرة حجاب، على ما يرى البعض، فقد تتعرض بعض التجارب المهمة، بسبب طابعها المغاير والحدسي، إلى الإهمال وسوء الفهم لفترة غير قليلة من الزمن، ولكن سرعان ما يتم تلقفها والانتباه إليها، ولو بعد حين، فتستعيد ما خسرته من تقدير. أما النصوص التي تبهت مع تكرار قراءتها، فهي تلك التي لا يتعدى جمالها الخلبي زخارف اللغة ودغدغة المشاعر العابرة، ورطانة الحماس الخطابي. وإذا كنت أزعم في هذه المقالة بأن محمد عفيفي مطر ينتمي إلى الصنف الأول من الشعراء، فليس ذلك بداعي المجاملة، وقد بات الشاعر الآن على الضفة الأخرى من الوجود، بل لأن عودتي إلى قراءته بعد سنوات من الانقطاع أتاحت لي أن أكتشف من جديد ثراء تجربته واتساع لغته وثقافته، فضلاً عن فرادة عوالمه ومناخاته التي تربط الشعر بكل ما هو طازج وبدئي في عوالم الريف المفتوحة على الدهشة والسحر والأسطورة.
لا تختلف قصائد محمد عفيفي مطر المبكرة، بخاصة في مجموعته الأولى «من مجمرة البدايات»، عن بدايات معاصريه أو مَن سبقه قليلاً من الرواد، سواء من حيث التصاقه الرومانسي بالتراب الأول، وما تختزنه الأرض الأم في داخلها من براءة وطهْر ووعود مترعة بالخصب، أو من حيث تمرده على السائد وتبرمه بالواقع الآسن والمرير الذي يبقي بلاده وأمته رهينتين للفقر والغربة والعجز عن التقدم. واللافت في تلك البدايات هو حرص الشاعر على التوأمة بين عفوية التأليف وغواية الإيقاعات الموسيقية من جهة، وبين الإلحاح على المعنى وتقصي أغوار نفسه، من جهة أخرى. كما يتضح في تلك المرحلة تأثر الشاعر الواضح بعوالم بدر شاكر السياب الريفية والمشوبة بالحزن الرومانسي، كما بخياراته الوزنية التي يعتمد معظمها على بحر «الوافر»، ذي الشحنة الغنائية العالية. وهو ما يظهر جلياً في نصّ من مثل «صبي ضائعٌ في الريف ينهش صدره الداءُ\ وحيد القلب مهجورٌ وفارغتان كفّاهُ\ غريق الأمس، ليت الأمس يهجره وينساه\ غريب اليوم، دوّخ عمرَه الطوفان والألمُ». لكن الشاعر سرعان ما يغادر خانة الشكوى ليدخل في خانة التساؤل والبحث عن الحقيقة، فيتابع القول في القصيدة نفسها. «أحدّق في سكون الليل منهوماً بأغواري\ سؤالٌ زئبقي الروح: أين أرى فؤاد الحكمة العاري؟\ لأقبس جمرة منه لأشعاري\ تُريني في الدجى لوني، حقيقة قلبي الضاري».
إن أكثر ما يستوقفنا في تجربة محمد عفيفي مطر وأعماله المختلفة، هو كون هذه التجربة تتغذى من مصادر ريفية وترابية، وما يتفرع عنها من عناصر تكوينية وطقوس ومعتقدات. فهذه «المجمرة» التي نعت بها بواكير قصائده، التي تنصهر في داخلها روح الشاعر ولغته، لم تنطفئ جذوتها مع الزمن. وإن اتخذت أشكالاً متعددة من العلاقة بالمكان وتقاليده وخفاياه. وفي عمله اللاحق «الجوع والقمر» تشكل الطفولة، ببعديها المشهدي والنفسي، العمود الفقري للنصوص، وتتداخل العناصر الواقعية المحضة بالعناصر السحرية، وبعوالم الخرافات التي يختلط فيها البشر بالجن والغيلان والعفاريت. كما يرتفع الحجاب الفاصل بين ما هو أرضي وما هو سماوي، ويتكفل القمر والشمس والأمطار والنجوم بحمل الرسائل المتبادلة بين البشر المتعبين والجوعى، وبين عوالم الماوراء. وإذ يرتبط الجوع ارتباطاً وثيقاً بالموت في تلك المرحلة، تعكس صورة الطفل الميت خوف الشاعر العميق من خسارة طفولته أو تزويرها، بما يعني خسارة العنصر الأهم الذي يرفد حياته بأسباب البراءة، وشعره بأسباب التفجر والتخييل. على أن الموت ليس سوى الوجه الآخر للحياة أو القيامة عند الشاعر، الذي رأى في الطمي الذي يتسبب به النيل ما يجسد الرمزية نفسها والتناقض إياه. وليس من المستغرب أن يطلق البعض على عفيفي لقب «شاعر الطمي»، وهو الذي أفرد لهذه المادة المترعة بالخصب مجموعة كاملة بعنوان «يتحدث الطمي»، كما أن تلك المفردة تتكرر بشكل دائم في تعابيره وصوره واستعاراته. وقد يتخذ الطمي صورة الريح - الأنثى التي يهتف بها الشاعر «ويا ريحنا المقمرة\ ضعي ساعديك الرقيقين حول المدينة\ لكي تُسمعيها صدى قبلة الطمي والشمس\ والغيمة العابرة».
قد يكون محمد عفيفي مطر، من جهة أخرى، أحد أكثر الشعراء الذين يمكن لشعرهم أن يكون مادة خصبة للتحليل النفسي، أو لما تمكن تسميته بالتفسير النفسي للأدب، وفق دراسة متميزة للناقد المصري عز الدين إسماعيل. وأنا أميل إلى الاعتقاد بأن نتاج الشاعر يصالح إلى حد بعيد بين مدرسة سيغموند فرويد التي تعتبر الدافع الجنسي العنصر الأساس في تكوين شخصية الإنسان وتحديد أنشطته وسلوكياته، وبين نظرية يونغ حول ربط السلوك البشري بعناصر أخرى مرتبطة باللاوعي الجمعي والأساطير والأديان والمكونات الثقافية البدائية. ففي الجهة الأولى، تبدو العلاقة الوثيقة بالأم محوراً للعديد من القصائد. وهي إذ تتحد مع الأرض واللغة في بعضها، تتخذ في بعضها الآخر بعداً أوديبياً يسهل اكتشافه من خلال النكوص النفسي إلى زمن الطفولة، كما من خلال الصور الحسية الواضحة، كقول الشاعر «خذي رأسي على ساقيكِ يا أمّاه\ ضعي رأسي على أرجوحة العطر التي تهتزّ في الزنّار والجلبابْ\ضعي ثدييكِ في كفي يا أماه\ دعيني مرة أندسّ بين حدائق اللبنِ\ وأرقص عارياً وأطير تحت سمائها البيضاء». أما في الجهة الثانية، فإن شعر مطر يتغذى من عوالم أسطورية، وما قبل دينية، بقدر ما ينهل من ينابيع دينية وإسلامية، تتمظهر في صورتها الشعبية عبر الإيمان الفطري والاعتقاد بكرامات الأولياء، فضلاً عن نزعته الصوفية المتماهية مع رموز تراثية بارزة، كابن عربي والسهروردي والنفري وغيرهم. كما تعكس بعض القصائد نوعاً من النزوع الطوطمي من جهة، ونزوعاً إلى الحلولية، ووجدة الوجود من جهة أخرى. فالناس يتبادلون الأدوار مع الأشجار والحيوانات، ويتحدون معاً في سلالة واحدة. وهو ما تفصح عنه قصيدة «شجرة الأسلاف»، حيث يقول مطر «فهذا توتنا الأبيضْ\ يمدّ جذوره ويمصّ ما بصدور موتانا\ يصير يمامة ويصير سنبلة وإنسانا». ويقول في مكان آخر: «وغداً سأخرج آخر الليلِ\ لأرجع طينة وأذوق طعم تحوّلي وأصير جميزة».
غير أن أي قراءة نقدية عميقة لتجربة محمد عفيفي مطر يصعب أن تستقيم دون الالتفات إلى كونه أحد الشعراء القلائل الذين اعتبروا الشعر مشروعاً معرفياً ورؤيوياً، وليس مجرد تطريزٍ جمالي أو تنفيسٍ بالغناء عن وحشة الكائن. أما ميله الواضح إلى الربط بين الشعر والفلسفة، فهو على الأرجح ناجم عن تخصصه بهذه الأخيرة، وتدريسه لها لعقدين من الزمن. وهو ما نتلمس ظلالاً له في مجموعته «ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي»، حيث لا ينحصر تأثر مطر بالفيلسوف اليوناني الشهير، بالتركيز على العناصر الأربعة التي يتكون منها الخلق، بل بالتأكيد على عنصري التآلف والتنافر، أو الحب والكراهية، اللذين يتصارعان على الدوام في دواخل البشر. والحقيقة أن رؤية مطر إلى العالم لا تشير إلى الأشياء والكائنات، وحتى إلى القيم والمواقف والمعتقدات، بوصفها ثابتة ونهائية، بل هي في حالة انزلاق وتحول مستمر. فضلاً عن الطابع الجدلي الذي يخلق من صراع الأضداد دينامية للتجدد والانبثاق. فإلى عالم الفساد والموت والقسوة المعتمة، الذي تعكسه مفردات من مثل: البومة والغراب والسم والرماد والفصد والتابوت والعقم، ثمة معجم مقابل للأمل والتجدد والخصب وانتصار الحياة. كما أن الشاعر في تلك المرحلة يغادر مناخات البواكير ذات الظلال السيابية، ليتقاطع مع شذرات أدونيس القصيرة ذات الإيقاع المتوتر «الليل حينما زُوّج بالفجيعة\ أولدها مدّاً من الحبائل اللفظية التي تصعد عالياً فعالياً\ ليدخل الأبكم في الأصمّ\ يصبح الوباء نكتة في رحم الذريعة». وقد نرى في أماكن أخرى ظلالاً لنيتشه، تظهر من خلال صورة الأنا المتفوقة والمتسمة بالجبروت والقادرة على تغيير العالم «فأنا أُفطر في الصبح بغابة\ أتغدى بسحابة\ ألبس الأفقَ على رأسي شالاً، وأدير العاصفة\ خاتماً في إصبعي\ والبحرَ خفّاً، والكتابة\ معجماً تصرخ فيه لغة الخلق وتنشقّ وجوه الكائنات».
لا يبدو العالم سويّاً ومعافى في أعمال محمد عفيفي مطر، بل هو يبدو عالماً مريضاً ومعوجّاً ومكتنفاً بالكدر والسواد الموحش. وعلى غرار الأحيمر السعدي، الذي يجزع من أصوات البشر ويستأنس بعواء الذئب، لا يتوانى الشاعر في مجموعته «البكاء في زمن الضحك» عن القول «أبتهل إلى الكلمات - الحرية\ والإيقاع الطعنة\ والفاصلة الحادة كالسكينْ\ أن تقطع ما يربطني بالإنسان\ أن تجعل مني ذئباً يعوي في ظلمات الوحشة والبريّة». وهو في مجموعة أخرى يخترع ملاكاً للعتمة وانطفاء الروح يسميه «ظلمائيل». وإذ ينبغي أن تشي مجموعته «رباعية الفرح» بشيء من التفاؤل، فإن ما يشيع بين ثنايا القصائد هو أقرب إلى الكآبة وألم النفس منه إلى أي شيء آخر. والأمر نفسه يتكرر في ديوان «أنت واحدها وهْي أعضاؤك انتثرتْ»، حيث لا يجد الشاعر من يحاوره سوى الموتى، وحيث تؤم اللغة مناطق ورؤى «أبوكاليبسية» قريبة من جحيم دانتي، بقدر ما تقترب أكثر فأكثر من وعورتها: «أقوم أكلّم الموتى\ وأنظر ما تَصاهَر من دم تتقلّب الأنسابُ فيه\ بصبْوة العشق المبرّح\ أنظر الأكفان والعظم الرميمَ توشّجتْ منه القبيلة\ أشهد الأمشاج أعراقاً وألوية تَذاوبُ\ والصنوجُ تدقّ بالصدأ الكظيمْ». اللافت أن الشاعر الذي لم يتخلل تجربته الطويلة والغزيرة إلا القليل من النصوص النثرية، كان يدرك تماماً أن البقاء في دائرة الوزن الواحد لا بد أن يوقعه في ربقة التكرار، ويحد من اتساع معجمه اللغوي، لذلك فهو يتجه لاحقاً نحو بحور «الرمل» و«المتقارب» و«الرجز»، موفراً لقصيدته عصباً مختلفاً وفضاءات أكثر اتساعاً. إلا أن مطر الذي نجح في أعماله الأولى في المؤالفة بين انسياب القصيدة الغنائي، وبين محمولها المعرفي، فضلاً عن كبحه الحاذق لجماح اللغة، يستسلم في بعض قصائده المتأخرة للإطالة والإطناب والدوران غير المبرر حول الفكرة نفسها والمعنى إياه. لا بل إن بعض القصائد تبدو بلا مقدمات ولا خواتيم وقابلة للتمدد إلى ما لا نهاية. ومع ذلك فإن تجربة محمد عفيفي مطر تمتلك من الفرادة والثراء ما يضعها في موقع متقدم بين التجارب الشعرية الحديثة في العالم العربي. وإذا كان صاحبها قد آثر العزلة والإقامة في الظل طيلة حياته، فإنه يستحق بعد رحيله أن يحظى بالمزيد من الدراسة والقراءة والاهتمام.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!