مخاوف في الهند من الثمنين السياسي والاقتصادي لأعمال العنف الأخيرة

هل يواصل اليمين الهندوسي الحاكم تجاهل عواقب خطابه الطائفي؟

مخاوف في الهند من الثمنين السياسي والاقتصادي لأعمال العنف الأخيرة
TT

مخاوف في الهند من الثمنين السياسي والاقتصادي لأعمال العنف الأخيرة

مخاوف في الهند من الثمنين السياسي والاقتصادي لأعمال العنف الأخيرة

عبر ثلاثة أيام من الفوضى، وسقوط أكثر من 48 قتيلاً، مع الخسائر المادية بملايين الروبيات، شهدت العاصمة الهندية دلهي واحدة من أسوأ أعمال العنف والشغب المجتمعية في الآونة الأخيرة. إذ اندلعت أعمال شغب عنيفة بين الهندوس والمسلمين على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام المحلية والعالمية، حال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الرسمية إلى البلاد. وأثناء جلوس الرئيس الأميركي على مأدبة الغداء مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، في مقر الرئاسة الهندية، كان المواطنون الهندوس والمسلمون يتضاربون ويطلقون الرصاص على بعضهم البعض في الشوارع، على مسافة لا تزيد أكثر من 15 كيلو متراً من مبنى وزارة الداخلية، في حين عانى الأبرياء أشد المعاناة في محاولات الدفاع عن منازلهم ومصالحهم وأعمالهم التجارية من الحرائق واللصوص.
مضى أسبوع كامل منذ بدء اندلاع أعمال العنف والشغب في شمال شرقي العاصمة الهندية دلهي - وما تبقى بعد المواجهات عبارة عن حفنة من المواطنين المرعوبين، والحارات والأزقة المحترقة، والمنازل والمتاجر المهجورة، وهدوء مشوب بعدم الاستقرار، مع مستقبل يكتنفه الكثير من الشك والقلق الذي يتجلّى في صمت مطبق عما شوهد في تلك المناطق من عنف وشغب وحرق وسفك للدماء على نطاق مجتمعي غير مسبوق.
لقد أشاع المسلحون من الدهماء أعمال العنف والشغب في مساحات شاسعة من شمال شرقي العاصمة. وبعضهم كان يتخفى وراء أقنعة الوجوه، وحمل معظمهم مختلف أنواع الأسلحة ما بين الأبيض منها والناري، فضلاً عن القضبان الحديدية أو ما شابه مما يمكن القتل به أو إحداث الإصابات. وتصاعدت أعمدة الدخان، واندفع الغوغاء بين مختلف الشوارع، بلا ضابط أو رقيب، يحرقون المتاجر، ويقذفون بالحجارة، ويهددون الأبرياء من السكان المحليين. وأفادت بعض المستشفيات بإصابة أكثر من 200 مواطن، من بينهم 48 فرداً من قوات شرطة مكافحة الشغب، فضلاً عن إصابة نصف ذلك العدد من المدنيين بجروح ناجمة عن الطلقات النارية العشوائية.
المآسي عديدة لعائلات فقدت أفراداً منها من الجانبين، وفي المقابل، تمكن كثيرون من النجاة بأعجوبة من أعمال العنف المريعة. مع العلم أن غالبية أعمال الشغب وقعت في محيط لا يتجاوز 5 كيلومترات مربعة في شمال شرقي العاصمة، على مسافة تبعد حوالي 15 كيلومتراً من مقر وزارة الداخلية، ونحو 10 كيلومترات أخرى من مقر شرطة العاصمة دلهي.
وفي حين لم يجر الإبلاغ عن أي حوادث غريبة في العديد من الأحياء والمناطق التي اجتاحتها أعمال العنف والشغب حتى الآن، فإن الصمت الشديد المطبق لا يزال يطارد الجميع. وفي حي شيف فيهار، وهو من أكثر المناطق تضرراً بأعمال العنف، كانت الحارات والأزقة شبه مهجورة من المارة وأغلب المنازل خاوية من السكان تقريباً. وفي حي مصطفى آباد، كان الناس أكثر حذراً وخوفاً من الخروج ومغادرة منازلهم حتى الآن.
وحتى وقت إعداد هذا التقرير، وعلى الرغم من الإعلان رسمياً عن سقوط 48 قتيلاً في أعمال العنف الأخيرة، ما زالت السلطات تستخرج جثثاً مجهولة الهوية من مختلف الخنادق ومجاري الصرف الصحي، بعدما تخلص الجناة منها هناك في أعقاب جرائم القتل المروعة.
هذا، وتخدم شبكة الصرف الصحي في شمال شرقي دلهي العديد من الأغراض. وهي بالنسبة للبعض وسيلة أكثر إراحة للتخلص من القمامة المنزلية، وللبعض الآخر من العلامات الجغرافية التي تعين زوار المرة الأولى للمنطقة في التعرف على والتنقل بين متاهة الممرات المتشابكة. ولكن تصدّرت شبكة الصرف الصحي المحلية مختلف العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام لسبب مختلف تماماً، إذ جرى انتشال 11 جثة مجهولة الهوية حتى الآن لأشخاص يرجح أنهم قتلوا خلال الأيام الخمسة الماضية، وذلك وفقاً لتقارير مختلف المستشفيات والإدارة المحلية هناك.

جذور موجة العنف
غُرست بذور الاستياء الأولى إثر إقرار الحكومة الهندية اليمينية، بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، قانوناً جديداً يحمل مسمى «قانون تعديل المواطنة». وهذا القانون يتيح لأبناء طوائف الهندوس والسيخ، والبوذيين والبارسيين والمسيحيين ممّن يتعرّضون للاضطهاد على أسس دينية في البلدان الإسلامية المجاورة الثلاث باكستان وأفغانستان وبنغلاديش - باستثناء المسلمين - وممن تمكنوا من الوصول إلى الهند قبل عام 2014، الحصول على الجنسية الهندية الكاملة.
واندلعت موجات الاحتجاجات المعارضة لـ«قانون تعديل المواطنة» الجديد منذ منتصف ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، ترافقاً مع ربط القانون الجديد مع تحديث «السجل السكاني الوطني» وتحضير «السجل الوطني للمواطنين» في البلاد. وكان السرد العام الذي أزعج، وربما أربك كثيرين، أن الجمع بين «قانون تعديل المواطنة»، و«السجل السكاني الوطني»، و«السجل الوطني للمواطنين» كان معداً في الأساس لاستهداف المسلمين من سكان الهند.
على الأثر، خرجت الحكومة الهندية بـ«توضيح» للموقف، ثم اتخذت خطوة للوراء عن موقفها الأول بشأن كل من «السجل السكاني الوطني»، و«السجل الوطني للمواطنين». غير أن ذلك لم يسفر عن أثر يُذكر على حركة الاحتجاجات الداخلية، التي واصلت المطالبة بضرورة وقف العمل بـ«قانون تعديل المواطنة». والحال أن كثيرين من مسلمي الهند - البالغ عددهم نحو 200 مليون نسمة - أن القانون الجديد مُعادٍ للمسلمين بالدرجة الأولى. بل يقول خبراء دستوريون إنها المرة الأولى في تاريخ الهند التي تصدر فيها الحكومة الاتحادية قانوناً يميز بين المواطنين على أساس الدين، وهذا يعد انتهاكاً صارخاً وفجاً لالتزام الهند بالمساواة بين طوائفها.
ثم إن ثمة قدراً كبيراً من المخاوف المتزايدة بين التقدميين الهنود وأبناء الطوائف غير الهندوسية بأن مودي، رئيس الوزراء القومي الهندوسي المتشدد، يحاول تفكيك تقاليد العلمانية الهندية الراسخة مع تحويل البلاد إلى دولة دينية وموطناً للهندوس في المقام الأول. وحقاً، يؤيد كثرة من أنصار مودي الهندوس اليمينيين تلك التحركات القومية. وللعلم، فإن مودي نفسه جاء من خلفية آيديولوجية تشدد على تفوق العنصر الهندوسي على ما سواه من الطوائف الأخرى في البلاد. ولكن، في المقابل، يعارض مودي أيضاً كثيرون من الهندوس الذين يريدون المحافظة على علمانية البلاد، تماماً على النحو الذي أراده لها مؤسّسها الأول المهاتما غاندي.
حتى اللحظة، رفضت الحكومة الهندية سحب القانون الجديد. ولقد استمرت حالة الجمود مع انعدام قنوات الاتصال النشطة والفعالة بين المتظاهرين والحكومة. وعلى مدى الشهور الماضية كانت الضغوط وكذلك الاحتقان الشعبي في غليان مستمر، مع تصاعد التوترات الاجتماعية في كل مكان، مدفوعة جزئياً بحملة الانتخابات «المسمومة» للبرلمان المحلي في دلهي التي عقدت في فبراير (شباط) الماضي. ولقد اندلعت أعمال العنف الجزئية داخل وفي محيط «الجمعية الملية الإسلامية» و«جامعة عليكرة الإسلامية»، احتجاجاً على «قانون تعديل المواطنة» الجديد.

المدى والتوقيت المريب
لم يقتصر الأمر على دلهي وحدها. إذ توسع التوتر في أجزاء أخرى من البلاد أيضاً. وكانت الخطب النارية الاستفزازية والدموية تنطلق في مختلف أرجاء الهند على ألسنة زعماء الهندوس والمسلمين، لتشعل مشاعر العداء والحقد والكراهية بين جموع الجماهير من أبناء الطائفتين. ومجرد التصوّر أن الحكومة الاتحادية ما كانت تتوقع اندلاع المواجهات كان من الأمور المحيرة والمربكة للغاية، إذ كانت الأجهزة الحكومية في غفلة من أمرها، ربما عن عمد أو لغير ذلك من الأغراض. كذلك، فإن وقوع هذه المواجهات العنيفة إبان الزيارة الرسمية لرئيس الولايات المتحدة الأميركية، من الأمور المحيرة أيضاً للغاية. فآخر ما كانت تريده الحكومة الهندية الحالية هو تشويه المناسبة الاحتفالية الرسمية بالنعرات والتصرفات المزرية وأعمال العنف الديني في شوارع العاصمة.
بالمناسبة، ترتبط دلهي، كونها العاصمة الوطنية للهند، بنظام معقّد من السيطرة الحكومية المزدوجة. إذ بينما لديها حكومة كـ«حكومة ولاية»، لكن سلطات هذه الحكومة محدودة للغاية، بينما جُل السلطات الحقيقية، بما في ذلك سيادة القانون والنظام العام، بأيادي الحكومة الاتحادية عبر وزارة الداخلية. وراهناً، يشغل منصب وزير الداخلية الاتحادي آميت شاه، الذي هو أحد أوثق المقربين من رئيس الوزراء ناريندرا مودي، كما أنه رئيس أسبق لحزب «بهاراتيا جاناتا» الهندوسي الحاكم. بيد أن الوزارة تدير شؤون العاصمة عبر مكتب نائب الحاكم، وهو مسؤول يعين تعييناً ولا يُنتخَب.
وخلال يومين من أيام أعمال العنف الثلاثة، كان آميت شاه منشغلاً بالإشراف على ترتيبات زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إلى معقله ومعقل مودي السياسي ولاية غُجَرات. وفعلاً، انتقلت الحكومة الاتحادية بأسرها إلى مدينة أحمد آباد (كبرى مدن غُجَرات)، حيث كان مقرراً للرئيس ترمب ورئيس الوزراء مودي أن يتكلما في اجتماع سياسي حاشد في 24 فبراير الماضي. وقال أحد المسؤولين المطلعين على مجريات الأمور «نعم، كنا نتوقع اندلاع المزيد من الاحتجاجات ضد قانون تعديل المواطنة أثناء زيارة الرئيس الأميركي، لكننا لم نفشل في توقع شدة العنف فحسب، بل تغافلنا عن إشارات كانت واضحة لاحتمالات العنف الدموي الوشيك».
أعمال العنف اندلعت يوم الأحد 23 فبراير، أي قبيل وصول ترمب، واندفع المتظاهرون في شمال شرقي دلهي على نحو مفاجئ، واحتشدوا حول محطة مترو جفر آباد، ثم احتلوا طريقاً رئيسية، وأغلقوا حركة المرور هناك. واشتعلت المظاهرات - تتقدمها النساء - في غفلة من شرطة المدينة، التي سرعان ما استفاقت لمواجهة الوضع، مع خشيتهم من أن تؤدي محاولات التفريق القسري للمتظاهرين إلى تفاقم العنف والشغب قبل زيارة الرئيس الأميركي.
وتفاقمت الأوضاع تلك الليلة إثر وصول كابيل ميشرا - وهو قيادي في حزب «بهاراتيا جاناتا» كان قد خسر في انتخابات ولاية دلهي الأخيرة - وقيادته جموعاً من الغوغاء في جفر آباد، وتهديده المتظاهرين والشرطة. وفي مقطع للفيديو نشره على «تويتر»، هدد ميشرا المتظاهرين والشرطة، وحذر من اتخاذ إجراءات عنيفة إن لم يتفرّق المتظاهرون خلال ثلاث ساعات على الأكثر. وشوهدت قوات الشرطة في ذلك الفيديو تقف إلى جانبه وهو يتفوه بتحذيراته تلك. وبعد بضع ساعات، توافدت جموع مسلحة على المنطقة، بينما كانت قوات الشرطة في وادٍ آخر تماماً.
الصحافي راجديب سارديساي، قال معلقاً: «هذا عصر الغوغاء الذين يستغلون منصّات التواصل الاجتماعية في تضخيم أصواتهم ودعاويهم الفجة. وفي دلهي، أتقن سياسي هامشي مثل كابيل ميشرا فنون تصدّر عناوين الأخبار من خلال التصريحات الاستفزازية». وتابع: «ميشرا متهمٌ بإشعال نيران العنف التي اجتاحت جزءاً من العاصمة الوطنية عن طريق تهديده المتظاهرين المعارضين لقانون تعديل المواطنة في الشوارع، إما بالانسحاب الفوري، أو مواجهة العواقب الوخيمة. وكان نفسه قد وصف انتخابات دلهي المحلية بأنها (معركة الهند ضد باكستان)، في إشارة فئوية فاقعة غايتها بث الكراهية لكسب مزيد من الأصوات في الانتخابات التي خسرها عن جدارة. والآن يجب محاسبته على دوره المشؤوم المزري في أحداث العنف التي شهدتها العاصمة».
ولكن كابيل ميشرا، لم يكن وحده عنصر تأجيج لأحداث العنف الأخيرة. ففي الأسبوع الماضي، حذّر وارث باثان، وهو قيادي محلي في «مجلس اتحاد المسلمين في عموم الهند» بمدينة مومباي، من أن «150 مليون مسلم هندي يستطيعون التغلب على مليار هندوسي» في سياق الاحتجاجات الرامية إلى إسقاط «قانون تعديل المواطنة».
والحقيقة أن المخاوف الحقيقية هي في أن تكون أحداث العنف في دلهي مجرد شرارة البداية تنتشر بعدها أعمال عنف وشغب مماثلة في أماكن أخرى من الهند، لا سيما، أنه لا مؤشرات على أن الحزب الهندوسي الحاكم قد استفاد من دروس الماضي، أو أنه رغب فعلياً في ردم الهوة الدينية المتسعة. فهو لو كان راغباً حقاً بذلك، لكان أخرس ألسنة أمثال كابيل ميشرا بدلاً من إتاحة المجال أمامه، بل وإضفاء الشرعية على خطاباته السامة. ولكن إذا كان ينوي ردم الهوة، فعليه أن يشرع في حوار مع المتظاهرين بدلاً من إقصائهم ونبذهم. إن سياسات الكراهية المضادة للمسلمين ربما ترسخ من قاعدة التأييد الهندوسي لـ«بهاراتيا جاناتا» حالياً، لكنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى حالة استقطاب خطيرة إن شاعت بين أوصال المجتمع قد تقضي نهائياً على اللحمة الوطنية.

مؤشرات خطر أمام مودي

هناك العديد مما يجب أن يُشعر حكومة ناريندرا مودي بالقلق، على رأسها تشويه «العلامة الوطنية» للهند كدولة علمانية ديمقراطية. هذا سيؤثر سلباً على الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تمس صميم الحاجة إلى إنعاش الاقتصاد الهندي الراكد وتعزيز آفاق النمو. لقد كانت أغلب وسائل الإعلام العالمية حاضرة في نيودلهي لتغطية زيارة الرئيس ترمب الرسمية. ومع ذلك، وبدلاً من مظاهر الأبهة التي استعان بها مودي لإبهار الرئيس الأميركي وبقية دول العالم، صارت أعمال العنف في العاصمة محط الاهتمام الدولي آنذاك. وبدت الهند دولة غارقة في الفوضى والاضطراب الاجتماعي، وفي شوارع على بعد بضعة كيلومترات فقط من المكان الذي شهد اجتماعات الزعيمين الكبيرين. وهذا يحدث بينما يحاول المساعدون والمستشارون الحكوميون العثور على الطرق والوسائل الممكنة لاحتواء الضرر. وتنشغل العديد من الإدارات الحكومية في سلسلة مستمرة من الاجتماعات اليومية لمناقشة الخطوات المزمع اتخاذها في المرحلة المقبلة. ولكن لم تظهر للعلن بعد أي خطة عمل واضحة بعد.
الصحافية الهندية آرتي جيراث قالت، «لا بد أن يستشعر مودي القلق الشديد على انهيار الجهد الذي بذله خلال فترة ولايته الأولى لبناء صورته دولياً، وحيازة القبول العالمي كزعيم تُحسب له الحسابات. أي مستثمر يرغب في ضخ أمواله في دولة تشهد شوارع عاصمتها أعمال عنف طائفية دينية إبان زيارة رسمية لرئيس دولة أجنبية كبيرة ومؤثرة؟ وأي ثقة يُمكن أن توضع في دولة تنهار أجهزتها الإدارية، وتثير عناصر حزبها الحاكم مشاعر الحقد والكراهية بين أبناء الشعب الواحد؟».
أيضاً ترى الصحافية الهندية المخضرمة تافلين سينغ، في تعليقها على الأحداث، «لقد تعرّضت صورة ناريندرا مودي كرجل دولة للاهتزاز الشديد، ولا يتحمل أحد اللوم سواه. ولا نقول هذا عن أعمال العنف الرهيبة في دلهي فحسب، وإنما عن خطابات الكراهية التي سمح مودي لكبار رجال دولته بإلقائها في مختلف المناسبات. كانت خطابات الكراهية السبب الرئيس في اندلاع العنف، ومعها بدأ المسلمون يشعرون بالغربة في وطنهم إبان ولاية مودي الأولى... شخصياً، لا أذكر فترة كانت فيها التوترات الطائفية بين الهندوس والمسلمين أكثر اشتعالاً مما هي عليه الآن. والسبب أنه في (الهند الجديدة) يعتقد الرجال والنساء الهندوس المفعمون بالكراهية ضد المسلمين أنهم يملكون الضوء الأخضر من زعماء الهند لمعاملة مسلميها كمواطنين من الدرجة الثانية».
وأردفت: «إن رئيس الوزراء، على اعتباره بطلهم، وحده يستطيع وقف حملة الكراهية الشديدة التي عصفت بمكانته الشخصية على المستويين المحلي والدولي. ومن المهم فعل ذلك بسرعة، لأنه ليس من الجيد أبداً بالنسبة للهند كدولة كبيرة أن تظل طائفة تبلغ 200 مليون نسمة من مواطنيها في حالة من العزلة والإقصاء المستمرين».

فتش عن «قانون تعديل المواطنة»
> علّقت الصحافية الهندية فرح نقوي، في أعقاب أعمال الشغب في دلهي، «كان من المهم قبل اندلاع أعمال العنف الأخيرة النظر في ومراجعة تداعيات القانون الطائفي الجديد من قبل (التحالف التقدمي الهندي المتحد)، قبل أن يحول إلى قانون نافذ المفعول. الهند في أمسّ الحاجة إلى قانون يتعامل مع جريمة نشر الكراهية. كما تحتاج البلاد إلى قانون ينص على معاقبة الأشخاص الذين يتقاعسون عن إجراءات اللازمة لمنع وقوع أعمال الشغب المجتمعية والتصرف بأسلوب صحيح فور وقوعها. وفي اللحظة الراهنة، نترك الأمر برمته إلى الضمير الأخلاقي للحكومات. ولا بد أن يصير الأمر من المتطلبات القانونية التي لا محيد عنها بحال».
وترى نقوي أن الاحتجاجات على «قانون تعديل المواطنة» من التحولات المهمة جداً في الهند، وأن الباب الذي أُوصد قسراً في وجه المسلمين يحاولون الآن فتحه عنوة وبكل قوة. وهم يؤكدون على هويتهم كمواطنين كاملي المواطنة في الهند، مع التأكيد على جنسيتهم وكل حقوقهم الدستورية الأخرى.

أعمال عنف... أم أكثر؟!
> ثار جدل حول ما إذا كان ينبغي توصيف الأحداث التي شهدتها العاصمة في الأسبوع الماضي على أنها من أعمال الشغب أو أمر أكثر خطورة - ربما «مذبحة مدبرة» مثلاً. وتعتبر «المذابح المدبرة» درجة خاصة من أعمال الشغب التي تتجاوز مجرد الصدام المؤقت بين جماعتين من المتعارضين. بدلاً من ذلك، تناصر قوات الشرطة إحدى الجماعات، إما عن طريق غض الطرف تماماً، أو عن طريق التحريض غير المباشر، أو ربما المشاركة المباشرة في أعمال العنف في بعض الأحيان. ويكمن الاختلاف بين أعمال الشغب و«المذابح المدبرة» في تصرفات الدولة نفسها - من خلال أفعال قوات الشرطة خلال الأحداث. وبدأ مصطلح «المذابح المدبرة» في الظهور إبان روسيا القيصرية مع إطلاق المذابح المروّعة ضد اليهود الروس.
وهنا يقول الكاتب رافي أغاروال، «يُعتقد أن أعمال الشغب بين الهندوس والمسلمين في العاصمة دلهي خلال الأسبوع الماضي تحمل بعض السمات المميزة للمذابح المدبرة. ولقد شهدت الهند مثل تلك الأعمال من قبل: ففي عام 2002، في ولاية غُجَرات، عندما كان مودي يشغل منصب رئيس وزراء الولاية، سقط أكثر من 1000 قتيل في أعمال شغب دينية، معظمهم من المسلمين. ومع تبرئة ساحة مودي حينذاك من ارتكاب أي مخالفات من قبل القضاء، قال النقاد إنه كان بإمكانه فعل الكثير للحؤول دون وقوع الهجمات».
ومرة أخرى سابقة في عام 1984، في العاصمة دلهي، جرى استهداف وقتل أكثر من 3 آلاف من طائفة السيخ في أعقاب حادثة اغتيال رئيسة الوزراء أنديرا غاندي، على أيدي حراسها الشخصيين من السيخ. وفي كلتا الحالتين - حسب الخبراء - ما كان ممكناً اندلاع أعمال الشغب من دون تواطؤ واضح من جانب قوات الشرطة الحاضرة.
في أي حال، أكدت شرطة العاصمة دلهي أن هذه هي أول أعمال الشغب التي تندلع بين الهندوس والمسلمين باستخدام واسع النطاق لمختلف الأسلحة. وذكرت مصادر في الشرطة «أن مثل هذا الاستخدام الكبير للأسلحة النارية، لا سيما الأسلحة المصنعة محلياً، يعكس بوضوح أن الناس كدّسوا مسبقاً هذه الأسلحة قبل اندلاع الأحداث».



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».