«الموسيقيون المصريون» يتجاوزون أزمة «المهرجانات» بتفعيل «الأداء الشعبي»

سيٌمنحون «ترخيصاً سنوياً» إذا التزموا بالمعايير الرقابية

أفيش إحدى أغنيات المهرجانات
أفيش إحدى أغنيات المهرجانات
TT

«الموسيقيون المصريون» يتجاوزون أزمة «المهرجانات» بتفعيل «الأداء الشعبي»

أفيش إحدى أغنيات المهرجانات
أفيش إحدى أغنيات المهرجانات

بعد أسابيع من اشتعال الأزمة بين مطربي أغنيات المهرجانات في مصر ونقابة المهن الموسيقية، تحاول النقابة تجاوز الأزمة التي أثارت جدلاً واسعاً في مصر خلال الآونة الأخيرة، عبر قرراها بتفعيل «شعبة الأداء الشعبي»، ليحصل أعضاؤها على «ترخيص سنوي بالغناء، بعد إجازته من لجنة الاستماع المشكّلة في النقابة، مع وجوب التزام عضو الشعبة بالمعايير الرقابية والخطوات الإجرائية فيما يتعلق بالتصاريح الرقابية الخاصة بالأداء العام للأغاني، مع الأخذ في الاعتبار أن عدم الالتزام بالقواعد النقابية أو الرقابية أثناء فترة الترخيص يعطي النقابة حق إلغاء الترخيص وعدم منحه مرة أخرى بناءً على الإقرار الموقّع من العضو بذلك طبقاً للقانون». وفق بيان النقابة مساء أول من أمس.
كانت نقابة المهن الموسيقية قد ذكرت في أكثر من بيان صحافي سابق، أنها تدرس إنشاء شعبة جديدة لمطربي المهرجانات، لضمهم تحت عضويتها للسيطرة على ما يقدمونه من أغنيات توصف كلماتها بأنها «غير لائقة»، لكن تسببت أغنية «بنت الجيران» التي حققت انتشاراً وجدلاً واسعين في مصر الشهر الماضي، في إصدار النقابة قراراً حاسماً يقضي بوقف إعطاء جميع تصاريح الغناء لكل مطربي هذا النوع؛ ما تسبب في انقسام آراء المتابعين والنقاد، فبينما كان يرى الفريق الأول أن قرار المنع جاء في وقته، لمواجهة «الابتذال» وانتشار تلك الأغاني «الهابطة»، رأى أصحاب الفريق الآخر، أن قرار المنع ليس حلاً منصفاً ومفيداً لعدم قدرة النقابة على منع هذه الأغاني من الانتشارً خصوصاً مع انتشار الكثير من المنصات الرقمية والإلكترونية حالياً والتي يصعب معها تطبيق قرار المنع، وطالبوا بمنحهم فرصة وتقويم أعمالهم والاستفادة من شهرتهم الواسعة في المناطق الشعبية.
وقال طارق مرتضى، المتحدث باسم نقابة المهن الموسيقية، في تصريحات صحافية أمس، إن «قرار قبول مطربي المهرجانات بعضوية النقابة ليس تراجعاً عن قرار مجلس النقابة بمنع هذه الأغاني». وأكد أن «شعبة الأداء الشعبي موجودة بالفعل بالنقابة وليست مستحدثة لضم مطربي المهرجانات»، مشيراً إلى «أن من سيتقدمون إليها سيخضعون للمراحل الأساسية للانضمام لعضوية الشعبة، والمعمول بها منذ عهد أم كلثوم وحتى الآن، وهي استيفاء الأوراق المطلوبة، واجتياز اختبارات الأداء أمام لجان النقابة، ثم الالتزام بأخلاقيات المهنة مدى الحياة».
وأشاد متابعون ونقاد موسيقيون بقرار النقابة الجديد، من بينهم الناقد الموسيقي المصري فوزي إبراهيم، والذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «القرار يعد بمثابة خطوة على الطريق الصحيحة؛ لأسباب عدة، من بينها أن ترخيص النقابة سيعطى بحسب مقياس الأداء السليم، وليس حسب النوع، بالإضافة إلى رهن استمرار الترخيص بحسب الالتزام بالقواعد والآداب العامة للغناء، بالتعاون مع جهاز الرقابة على المصنفات الفنية الذي يعطيه القانون الحق في مراجعة الأغاني كافة قبل إصدارها». وشدد قرار نقابة المهن الموسيقية، على دعوة المجلس الأعلى للإعلام بمنع ظهور أي مطرب يقدم أغنيات غير لائقة في القنوات الفضائية أو الحفلات الغنائية العامة؛ وهو ما يعتبره إبراهيم «أمراً إيجابياً جداً»، ويقول: «عدم إعطاء شرعية لأصحاب الأغاني المبتذلة على الشاشات العامة أمر ضروري، خلال الفترة المقبلة». مشيراً إلى أن «مصدر القبح الوحيد في أغاني المهرجانات هو كلماتها الخادشة للحياء وغير اللائقة، وليس الموسيقى؛ لأنه لا توجد موسيقى مبتذلة».
ووجهت نقابة المهن الموسيقية، في بيانها «الشكر للشعب المصري والإعلام لوقوفه ضد الفن الهابط، ووعيه الكامل بالمرحلة الفارقة التي يمر بها الفن المصري». وأشارت إلى «وجود تنسيق كامل بين نقابة الموسيقيين والاتحاد العام للنقابات الفنية، وجهاز الرقابة على المصنفات الفنية».
ويرجع موسيقيون مصريون أسباب انتشار «المهرجانات» بالآونة الأخيرة، إلى الفراغ الذي تركه كثير من المطربين والمنتجين المصريين لصالح مقدمي أغاني المهرجانات، والذين يشتهرون بغزارة إنتاجهم الغنائي على المنصات الرقمية، بينما يكتفي معظم المطربين الذين ينتمون إلى جيل الوسط بإصدار ألبومات غنائية كل فترة زمنية طويلة، مع اكتفائهم بالأغنيات الفردية.
وحققت أغنية «بنت الجيران» للمطربين الشعبيين حسن شاكوش وعمر كمال عشرات الملايين من المشاهدات على موقع «يوتيوب»، وتفوقت على نجوم عالميين في تطبيق «ساوند كلاود» أخيراً، لدرجة دفعت منظمي حفل «عيد الحب» باستاد القاهرة، الشهر الماضي إلى الاستعانة بهما لأداء فقرة ختام الحفل الكبير الذي شارك فيه تامر حسني، ووائل جسار، وبهاء سلطان، ونانسي عجرم؛ ما تسبب في موجة من الانتقادات ضد منظمي الحفل وضد نقابة المهن الموسيقية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)