شعرية الأشياء المفقودة

«تلك لغة الفرائس المحظوظة» للشاعر المصري عماد فؤاد

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

شعرية الأشياء المفقودة

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

يحتفي الشاعر عماد فؤاد، في ديوانه «تلك لغة الفرائس المحظوظة» الصادر حديثاً عن دار «ميريت» بالقاهرة، بحضور الأشياء، باحثاً عن شعريتها المفقودة، سواء في عيانها المادي الماثل أو في ظلالها المجردة التي تبدو كقناع لالتقاط الأنفاس وإعادة النظر والتأمل في حقيقة الوجود، فهي الوعاء الحاضن له، ودونها ينتفي مطلق الوجود نفسه ويشارف العدم. ويتسم حضور الأشياء بالوضوح والبساطة، وتعتمد اللغة على التكثيف والاختزال، كتلخيص لجذرية الأشياء والتشبث بها، وكأنها فرائس الذات الخاصة، ومخزن أسرارها وملامحها المخفية. ويؤكد عنوان الديوان هذا الحضور عبر اسم الإشارة (تلك) الذي يشير دلالياً ولغوياً إلى الشيء المرئي المتعين المحسوس.
تحضر الأشياء بقوة الشعر، وهنا مناط خصوصيتها، تحضر عبر الأمكنة والأزمنة والشخوص والوقائع، عبر الذكرى والنجوى، واللقطة، واللون والرائحة والصراخ والصمت، ويكتسب هذا الحضور فعاليته من مقدرة النص على هضمه واحتوائه، وخلق ملامح إدراك جديدة له، دون أن تتخلى الأشياء عن طبيعتها، فهو يحتفي بجمالها وبذاءتها، بقوتها وهشاشتها، بألفتها وصخبها، وكأن النص فضاء مفتوح تعيد اختبار وجودها فيه، أو تكتشفه للتو؛ الأمر الذي يجعل حضورها في النص يتماثل مع حضور الذات، وتتنوع صيغ الإمساك بهذا الحضور، بين ضمير المفرد الذي يؤكد خصوصية الأنا، منقسماً على نفسه أحياناً تحت قناع الآخر المخاطب، وضمير الجمع الذي يناوش الحضور والغياب معاً، بقوة الذاكرة والحلم أحياناً، مثلما يقول الشاعر في (مقطع 38 ص 55):
«دعكَ من الموسيقى التي أسمعها الآن، فهي ليست السبب في هذه اللغة غير المترابطة التي تقرأها، أنا فقط قلت شيئاً أستمع إليه ويسليني...
هنا صوت الكمان
التشيللو
هنا الفلوت
ثم البيانو
........
بعد قليل سيدخل القانون
فتخرس الآلات كلها».
ينعكس هذا اللعب بحركة الضمائر على بنية الصورة الشعرية، فتراوح بين البساطة الهادئة والتركيب الذي ينحو نحو التدوير في كثير من المقاطع. وسنلاحظ أنه في البساطة، يصبح النص أكثر تعبيراً عن مشاغل الذات، وفي التركيب يصبح عيناً أخرى على الواقع، توفر فرصة للذات لتسائله، وتكشف عما يكمن وراء الأشياء من عبث وتعسف وفوضى... وهو ما يطالعنا في (مقطع رقم 8 ص 21)، حيث يقول:
«وما المشكلة في ذلك؟ أريد أن أكتب قصيدة عن التلهي، عن اللحظة التي نكتشف فيها أننا نُردُّ إلى نفوسنا بعد غيبة، فنعود من جديد لتلمس الأركان التي هجرناها، مواضع أعشاش العنكبوت في السقوف، وخيوطها تتدلى حتى تلمس رؤوسنا. أريد أن أكتب قصيدة عن الشاعر الذي بدأ كتابة قصيدة ولم يتمها.
لكن ما الذي يحدد زمن الشعر في النص؟ هل هو اللغة وطرائق تشكلها التي تجمع الخيال في قبضة الواقع، والواقع في قبضة الخيال، أم حضور الأشياء كحقيقة واقعية تتمنى الذات أن تواصل في ظلالها المراوغة بين الخفة والثقل، بين الوضوح والإيهام به؟ ثم هل الشعر هو زمن حضور الأشياء في النص، أم زمن حضور الذات؟ يحل عماد فؤاد هذه المشكلة بإضفاء صفة الرحلة على الديوان، موظفاً البنية الرقمية في صناعة سياج شفيف يحقق من خلاله جدلية الانفصال - الاتصال بين مقاطع الديوان المائة المنسابة في 135 صفحة، محدداً لها مفتاحين للدخول والخروج، يبدآن وينتهيان بالرقم صفر، متيحاً للقارئ إمكانية مرنة في التعامل مع الديوان بصفته كتلة نصية واحدة، أو الدخول إليه من أي زاوية يحب، بينهما تنداح الأشياء والوقائع والحالات بملامسها وروائحها المادية والمعنوية عبر ثلاث نوافذ مشرعة على الداخل والخارج معاً، يسميها تحديداً: «عن بلاغة الدم»، و«عن نفسي»، و«عن هشاشة المغفرة»، وكأن ما يرشح من هذه النوافذ هو خلاصة المهمش والمنسي، خلاصة الشائك الملتبس المسكوت عنه. ولا تكتفي الذات الشاعرة باستدعائه، والنبش في حضوره، ومحاولة القبض على حيواته المفقودة، وإنما تحوله إلى إشارة وعلامة وسؤال عن معنى الوجود، بما مضى وما سيكون.
وسط مشاهد ووقائع هذه الرحلة، يوظف الشاعر دال المفارقة في الاحتفاظ بمسافة بين الذات وحضور الأشياء، فهو لا يتماهى معها، وإنما يستحضرها ليكتب (عنها)، ليستخلص من شوائبها وملابساتها، من عتمتها ونورها الشحيح، زمن الشعر الأبقى حتى بعد أن تنتهي لغة النص المكتوبة.
«بابٌ...
وراءَ بابٍ
وسورٌ...
خلف سور
نباحُ كلاب مسعورة
يتردد في الأرجاء
وذبابٌ يطنّ عالياً
صانعاً سحابة سوداء
في العتمة.
من تلال القمامة هذه
مدينة كاملة
تعيش».
بهذه اللطشة الشعرية الخاطفة يمهد الشاعر لفعل الدخول في أجواء الديوان، كاشفاً عن طبيعة المدينة الخشنة التي تولي ظهرها للشحاذين والمهمشين وعابري السبيل، وكلما تعددت صورها في مرايا الأشياء تصبح أكثر خشونة وضجراً بالبشر والحياة. مدينة فقدت الإحساس بالنبل، اختلطت في كينونتها أزمنة القسوة والرعب بأبسط مقومات العيش والحياة، لكنها مع ذلك قادرة على غواية الشاعر، ووضعه دائماً على الحافة، ليفك العقد والفواصل السميكة، في اللغة والشعر والزمن والأشياء، ربما يمكنه الحلم بمدينة أخرى عادلة تنهض من بين حطام هذه الأزمنة.
وعلى عكس ما يوحي به الديوان من ثنائية الصياد والفريسة، بإيقاعها المباشر الذي تتسع محمولاته الرمزية لتشمل قضايا الواقع والوجود، يبدو صراع الذات الشعرية مع الفكرة أحد المحاور الأساسية لعالم الرؤية، فليس ثمة صياد محدد أو فرائس محددة، إنما الكل مجرد فكرة أو ظل لها في فروة الفريسة والصياد معاً، إنها لعبة تدعو للفرح، حتى لو كان مسكوناً بالدموع والبكاء أحياناً، فقسوة الأب وعصاه الغليظة التي تومض في مرايا البئر الأولى لا تنفصل عن قسوة الراعي والقطيع، بكل تمثلاتها السياسية والاجتماعية في المجتمع والحياة. كما أن نماذج البشر المهمشين المختارين بعناية في النصوص ليست مجرد عينة عشوائية، وإنما دوال على أن ثمة أفكاراً سقطت، انطفأ فيها نبض الحياة، سجنها الواقع في حيزها المعرفي المجرد، كإشارة باهتة على وجود معطل مشوه مستلب لم يخرج إلى النور.
ومن ثم، يلعب الديوان على شعرية الأفكار. ففي معظم النصوص، ثمة أفكار عن الخوف والقسوة، الندم والمغفرة، الحب والكراهية، الرحيل والغربة، لكنها لا تحضر كثنائيات ضدية عقيمة، وإنما كأشياء صنعها البشر، وأصبحت من لوازم الحياة. يبرز ذلك على نحو لافت في مقطع 97 (ص 128- 129)، حيث تتحول الفكرة إلى مشهد، سرعان ما يصبح مرثية للأشياء وللفكرة نفسها، عبر دوال تشي بأن ثمة حالة من الانتحار المتكرر تحتاج إلى بصيرة أخرى أبعد من حدود النظر العادية - بصيرة الأعمى:
«صحيح أنني أعمي
وأنني لا أرى ما يحدث حولي
لكن الله ابتلاني لسبب ما
برؤية ما يحلم به الناس؛
تمتد شعرية الأفكار في الديوان إلى مساءلة الشعر نفسه، ومعنى أن تكون شاعراً، وسط إحساس باللاجدوى، مشرب برذاذ من الفلسفة والتهكم والسخرية: «شخص تافه... كيف يجعل من صفحة بيضاء -فارغة أمامه- شبحاً يحاربه كل ليلة». تقفز هذه المساءلة من صيغة السؤال الحاد المربك عن الشعر إلى معنى المشهد وجودياً، فأن تكون أنت بطله، لا بد أن تمتلك الأشياء، أن يدل حضورها على أنك تنتمي لنفسك، لشيء ما يخصك، فالأشياء حدثت وسوف تحدث، وهي تتكرر يومياً. وفي كل الأحوال، لا بد أن تعترف بالنعمة، بأن هناك دائماً ما يستوجب الشكر؛ إنها روح المعادلة الصفرية الشجية التي أنهى بها هذا الديوان رحلته الشيقة، قائلاً: «أشكر يدي اليسرى... الصبورة التي تحملت مهانة ألا تكتب أبداً».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.