لويزة حنّون «تشافيز الجزائر»... تخوض معركة قضائية بعد تبرئتها من تهمة «التآمر على الجيش»

زعيمة اليسار التروتسكي في دائرة الضوء مجدداً

لويزة حنّون «تشافيز الجزائر»...  تخوض معركة قضائية  بعد تبرئتها  من تهمة «التآمر على الجيش»
TT

لويزة حنّون «تشافيز الجزائر»... تخوض معركة قضائية بعد تبرئتها من تهمة «التآمر على الجيش»

لويزة حنّون «تشافيز الجزائر»...  تخوض معركة قضائية  بعد تبرئتها  من تهمة «التآمر على الجيش»

بمجرَد أن غادرت السجن ليل العاشر فبراير (شباط) 2020، توجهت لويزة حنّون، زعيمة اليسار التروتسكي في الجزائر، إلى مكتبها بمقر «حزب العمال» الذي ترأسه، وبدأت فوراً في استقبال الاتصالات الهاتفية المعبَرة عن التهاني. وكان أصحاب هذه الاتصالات - بطبيعة الحال - من كل بلدان العالم، وبخاصة من أحزاب اليسار الاشتراكي، والتنظيمات المؤمنة بـ«الثورة العمالية في مواجهة الإمبريالية».
ولقد تساءلت حنّون خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، في اليوم الموالي للإفراج عنها: «لماذا لا نغيَر اسم الحراك الشعبي... فنتفق مثلاً على اسم الثورة الشعبية؟ أليس ما تعيشه البلاد منذ 22 فبراير 2019 ثورة ضد الاستبداد والفساد؟». وكان هذا إيذاناً بعودتها القوية إلى السياسة، وإلى التفاعل مع الأحداث والتعليق عليها، وعقد المؤتمرات الصحافية بخصوص أي قضية تراها جديرة بتسجيل موقف حولها.

توقفت لويزة حنّون عن النشاط السياسي لمدة 9 أشهر، كانت هي مدة إدانتها بالسجن من طرف «مجلس الاستئناف العسكري». ويذكر أن المحكمة العسكرية الابتدائية كانت قد أدانتها في سبتمبر (أيلول) الماضي بـ15 سنة سجناً، برفقة مديري جهاز الاستخبارات العسكرية سابقاً محمد مدين «الجنرال توفيق» وبشير طرطاق، والسعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. وعُرفت القضية بـ«التآمر على الدولة والجيش»، نسبة إلى التهم التي وجهت للأربعة.
حنّون (66 سنة) تقول حول ما حدث، إنها «هي من تعرضت للتآمر»، من دون أن تشرح مَن تقصد. ومن ثم، أعلنت عن خوض معركة قضائية بـ«المحكمة العليا»، بإيداع طعن بالنقض بخصوص تهمة «عدم التبليغ عن جريمة» التي على أساسها أدانها القضاء بثلاث سنوات سجناً، 9 أشهر منها مع التنفيذ. في حين أُسقطت تهمتا «التآمر على سلطة الجيش والدولة».
ويقول جلول جودي، ساعد حنّون الأيمن في الحزب، إنها «دفعت ثمن مواقفها الجريئة على مَر الـ20 سنة الماضية، خاصة وقوفها ضد الأوليغارشيا التي يمثلها رجال أعمال ضالعون في الفساد، كما أنها وقفت ضد سياسات وزراء نهبوا ثروات البلاد وباعوا خيراتها للشركات متعددة الجنسيات بثمن بخس».
وحول موضوع سجنها، يذكر الناشط السياسي والباحث في التاريخ، محمد أرزقي فراد: «من المؤكد أن السيدة لويزة حنّون امضت 9 أشهر في السحن بصفتها سجينة سياسية؛ فهي رئيسة حزب سياسيّ، ونائبة في البرلمان لسنوات عديدة، ومعروفة بدفاعها الشّرس عن العدالة الاجتماعية، وعن القطاع الاقتصادي العمومي الاستراتيجي. ثم إنها معروفة بمواقفها الرافضة للتدخل الأجنبي. ولقد تعرضت للسجن بسبب مواقفها السياسية أكثر من مرّة، وبتهم غير مؤكدة بالوقائع، بجانب أن ملفها القضائي كان فارغاً. وبالتالي، فهي بريئة من التهمة التي وجّهت إليها؛ وهذا ما جعل شريحة مهمة من الرأي العام ترى في سجنها تجريماً للعمل السياسي».
أما مقران آيت العربي، محامي حنّون والناشط في المعارضة العلمانية، فيذكر عنها: «إنها امرأة مناضلة لم ترتكب أي فعل يجرّمه القانون، بل أدَت واجباتها كرئيسة حزب وعضو في المجلس الوطني الشعبي. وكان على الرئيس (عبد المجيد تبَون) أن يفرج عنها دون تأخير لتعود لمهامها. أعرف ملف لويزة حنّون معرفة جيدة، وأعرف نضالها منذ 1983. قد أتفق معها وقد أختلف، لكنها لم ترتكب أي فعل يجرمه القانون».

يسارية... قديمة

في المقابل، يعتقد قطاع من الطبقة السياسية، أن الإفراج عنها لا يعود إلى اقتناع القضاء العسكري ببراءتها، وإنما بسبب تدهور صحتها في الأسابيع الأخيرة من سجنها. ويرى المقتنعون بـ«عدالة قضيتها، بأن مدين (توفيق) وطرطاق والسعيد، على عكسها هي، مارسوا السياسة خارج سياقها الصحيح، ويتحملون جزءاً كبيراً من مسؤولية الفساد السياسي الذي قصم ظهر الجزائر. وتم سجن الأربعة بسبب اجتماعات عقدوها بنهاية مارس (آذار) الماضي، بحثت عزل قائد الجيش الراحل أحمد قايد صالح وإطلاق مرحلة انتقالية تُعهد للرئيس الأسبق الجنرال اليمين زروال. غير أن قايد صالح تفطَن للمخطط، وغضب غضباً شديداً فقرر إنزال العقاب بهم».
أما عن حنّون، فإنها عُرفت بحضورها القوي في السياسة وعالم النقابات منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وكلفها ذلك دخول السجن لفترة قصيرة.
تشبعت أيام الجامعة بالفكر اليساري وتحديداً بأفكار التيار التروتسكي، ونظريات الصراع الطبقي. وبرز ذلك بوضوح في نضالها النقابي؛ فهي تدعو لفصل الدين عن الدولة، وناضلت من أجل «تحرر المرأة من القيود»، والمساواة بينها وبين الرجل في المسؤوليات والنضال وغيرها. وقد استحقت، بحسب أنصارها، لقب «تشافيز الجزائر».
لكن يوجد من بين أتباعها، مَن لا يغفر لها دفاعها عن قادة «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» عندما سجنهم القضاء العسكري، مطلع تسعينات القرن الماضي. كذلك، لا يغفرون لها مشاركتها مع قادة إسلاميين، يدعمون العمل المسلح، اجتماعات عقدت في العاصمة الإيطالية روما بنهاية 1994 وبداية 1995، بحثت حلاً سياسياً للأزمة التي نشأت عن تدخل الجيش لإلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية التي حقق فيها «الإنقاذ» فوزا ساحقاً.

... ومقرّبة من بوتفليقة

في أي حال، يعيب الخصوم والأنصار - على حد سواء - على حنّون «قربها المفرط» من الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وبخاصة من شقيقه السعيد وشقيقته الكبرى زهور، التي كان لها نفوذ في شؤون الحكم. ولعل من علامات الصلة القوية التي كانت تجمعها بعائلة الرئيس، دفاعها المستميت عنه عندما كانت المعارضة توجه سهامها له، مطالبة بعزله عن الحكم بحجة المرض، إثر إصابته بجلطة دماغية عام 2013. أيضاً من العلامات البارزة لقوة العلاقة مع الرئيس السابق شخصياً، قوله عنها ذات مرة في حفل بمناسبة العيد العالمي للمرأة «أعطوني 20 امرأة في وزن حنّون، أعطيكم حكومة نسائية». ولذا؛ يحتار الكثير من الصحافيين والباحثين في السياسة والمشتغلين بها، في تصنيفها. أهي معارضة أم محسوبة على النظام، أم هي «نص نص»؟
عن دلالات الإفراج عن حنّون، وهل لذلك علاقة باختفاء قايد صالح الذي أمر بسجنها، يقول زين العابدين غبولي، الباحث الجزائري بـ«معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» في العاصمة الأميركية: «أعتقد أن هناك تغيراً في موازين القوى داخل النظام، خصوصاً بعد وفاة قايد صالح. فالقطب الذي كان يعتبره قائد الجيش (عصابة)، استطاع العودة فاعلاً في المعادلة السياسية. بالإضافة لهذا، أعتقد أن خروج لويزة حنّون من السجن، له علاقة باتفاق سياسي قد يضمن وقوفها مع مبادرة الحوار التي أطلقتها السلطة قبل مراجعة الدستور».
ويرى غبولي أن حنّون «فقدت الكثير من وزنها السياسي، ولا سيما بعدما هاجمت معارضي ترشّح بوتفليقة لولاية رابعة (2014)، وأيضاً احتكاكها بعائلة الرئيس السابق. إنها محسوبة اليوم، شاءت ذلك أم أبت، على جناح سياسي داخل النظام. ولذلك أعتقد أن شعبيتها تأثرت جدياً بصورة سلبية؛ لأن الشعب الجزائري لم ينتفض فقط ضد سلطة بوتفليقة، بل ضد كل من كانوا يدورون في فلك نظامه، وحنّون واحدة من هؤلاء». وحول ما إذا كانت تمثل قيم ومبادئ اليسار، قال غبولي «لا يمكن برأيي أن تحسب سياسياً وفكرياً على اليسار، لا في الجزائر ولا خارجها. تاريخها الطويل في النضال السياسي اليساري أكسبها شرعية لدى الأوساط اليسارية الدولية، لكنها، باعتقادي، لا تملك من اليسار إلا الصفة».

«اعتقال سياسي» استدركه القضاء

من جانب آخر، يرى الكاتب الصحافي عثمان لحياني: «كان اعتقال زعيمة حزب العمال لويزة حنّون خطأً سياسياً، وتم استدراكه قضائياً. قناعتي هي أن الفاعل السياسي مهمته المركزية التعاطي وممارسة الفعل السياسي، سواءً مع المؤسسات المعلنة أو مع مراكز الظل بالشكل المشروع، وبما لا يتعارض مع القانون والأخلاق السياسية. والقانون في حالة حنّون حكم لصالحها في جانب، وأدانها في جانب آخر، لكن بالنسبة لي فإن حنّون تواجه الآن مأزقاً أخلاقياً بالدرجة الأولى، يتمثل في احتكاكها القوي في توقيت سياسي خاطئ، بـ«سلطة الظل»، وهنا أقصد سعيد بوتفليقة الذي يتحمل مسؤولية كبيرة عن الخراب، ومع مدير مخابرات خارج الخدمة (محمد مدين «توفيق») وله مسؤولية كبيرة في تشظي الجزائر في التسعينات وما بعدها. إن جوهر المأزق الأخلاقي هو تعارض التوجه والعنوان السياسي لليسار، الذي تمثله حنّون مع ليبرالية بوتفليقة ومحيطه ومرحلة الاستبداد السياسي والأمني التي يمثلها (توفيق)... وأعتبر أن هذا المأزق سيكون أكثر كلفة بالنسبة لحنّون؛ لأنه سيقضم من رصيدها الذي أصبح محل شك ومراجعات».
وأضاف لحياني: «لا يجوز أن نتجاهل بأن كل هذه التفاصيل بالغة الأهمية، تبني لعلاقة مع مرحلة جديدة وتؤسس لمشهد سياسي تحكمه بوصلة شعبية لم تعد تقبل بوجوه المرحلة السابقة، ومنها حنّون التي تقبع على رأس حزبها منذ 31 سنة ناطقةً رسميةً، ثم أمينةً عامة... وهذا يثير أيضاً مسألة الديمقراطية والتداول داخل الحزب اليساري».

مواقف متقلبة

من جهته، يقول أستاذ العلوم السياسية رابح لونيسي عن القيادية اليسارية المثيرة للجدل: «بالنسبة للتيارين الديمقراطي واليساري، تشبه لويزة حنّون إلى درجة كبيرة، حركة مجتمع السلم الإسلامية. صحيح أنها لم تشارك إطلاقاً في الحكومة على عكس مجتمع السلم، لكنها دعمت بقوة النظام. أي لعبت على حبلين: معارضة راديكالية في الخطاب لاكتساب شعبية، ومؤيدة للسلطة بشكل غير مباشر... إذ كانت تسارع دائماً لإنقاذها عندما تكون في ورطة تحت شعارات عدة، مثل تخويف الرأي العام من المؤامرة الدولية ضد الجزائر».
«اتسمت حنّون بهذه المواقف المتقلبة - حسب لونيسي - منذ وصول بوتفليقة إلى السلطة عام 1999، ولقد ارتبط ذلك بشقيق الرئيس، وهو تروتسكي الخلفية السياسية، لكنه مع ذلك اتُهم بدعم رجال المال الفاسد، وتلك مفارقة. الأمر نفسه ينطبق على لويزة حنّون. فهي تروتسكية، لكنها كانت مستفيدة من ريع النظام بشكل أو بآخر، مثل الكثير من الأحزاب، وأيضاً من توزيع الحصص عليها في كل انتخابات برلمانية». وأردف شارحاً «...لكن جرى تخفيض حصتها من مقاعد حزبها في المجالس المنتخبة، خلال اقتراع البرلمان، ثم اقتراع البلدية عام 2017 عقاباً لها».
ويعطي لونيسي صدقية لتفاسير ربطت الإفراج عن حنّون باختفاء قائد الجيش المتوفى. ويقول بهذا الخصوص «أعتقد أن الأمر يكاد يكون مؤكداً في هذه المسألة؛ إذ نلاحظ انقلاباً تاماً في الكثير من السياسات منذ وفاة قايد صالح، وكأن هناك رغبة ملحّة في محو كل ما قام به، وكثير داخل أجهزة الدولة - حسب ما يبدو - يرون بأنه أضرّ كثيراً بالمؤسسات وبالوحدة الوطنية، وبأن سياساته كانت ستدفع بالجزائر إلى ما لا تحمد عقباه... كما لا يجب على المحلل السياسي إهمال جانب مهم جداً في تصرفات السياسيين، ولو كان ذلك بدرجات متفاوتة، وهو الجانب النفسي. ومن الواضح أن ذلك أثَر على قايد صالح في علاقته بحنّون، لكن بشكل سلبي، ويعود في نظري إلى إقامة عائلتيهما في مدينة واحدة لمدة طويلة، هي عنابة» بشمال شرقي الجزائر.

بطاقة هوية

> ولدت في بلدة الشقفة بولاية جيجل بشمال الجزائر، يوم 7 أبريل (نيسان) 1954.
> عاشت طفولتها وصباها في مدينة عنابة (بشمال شرقي البلاد)، وفيها أنهت دراستها الثانوية عام 1975.
> تابعت دراستها الجامعية في جامعة عنابة بينما كانت تعمل في الوقت نفسه موظفة في مطار عنابة. وخلال هذه الفترة نشطت في العمل النقابي إبان عملها في شركة الطيران الجزائرية، وبرزت قياديةً نقابيةً يسارية.
> أعلنت عام 1990 عن تأسيس حزب العمال اليساري المحسوب على التروتسكيين.
> دخلت عام 1997 المجلس الشعبي الوطني (البرلمان).
> ترشحت لرئاسة الجمهورية عامي 1999 و2004.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.