البكاء على أطلال الوسائط

البكاء على أطلال الوسائط
TT

البكاء على أطلال الوسائط

البكاء على أطلال الوسائط

كان المتنبي هو من أبدع هذا البيت الفاخر: «أعز مكان في الدنى سرج سابح... وخير جليس في الزمان كتاب». وبموازاة الاحتفاء الذي لم ينفد أبداً بالحس الإبداعي الفائق الذي ينطوي عليه هذا البيت، وما يمكن أن يراه النقاد فيه من جزالة المنطق وإحكام السبك وقوة التعبير، علينا أن نتذكر أنه قيل قبل عام 965م، وأنه واكب حقبة تاريخية محددة بشروط حياة خاصة.
لو كان المتنبي بيننا اليوم، ومعه طاقته ومواهبه كاملة، فهل كان بوسعه نظم هذا البيت نفسه، واستخدام مفرداته ذاتها، أم أنه كان سيطور معنى جديداً بلغة جديدة؟ وإذا حدث هذا، هل كان بوسعه أن يكون أحد أهم الشعراء الذين يغردون على «تويتر»؟ وكيف لا، وقد رأى المعلقون الثقات أنه «أقدم المغردين»؟
في التسعينات الفائتة، هيمنت سيارة حديثة تحمل علامة تجارية جاذبة على أحلام الشباب في دول الخليج العربية، وقد سمعت كثيراً منهم يستعيد بيت الحارث بن عباد الشهير: «قربا مربط النعامة مني» الذي نظمه في رثاء ولده بجير، بعدما قتله الزير سالم، ضمن تفاعلات «حرب البسوس»؛ لكن هؤلاء الشباب كانوا يعمدون إلى تغيير مرح في كلام البيت؛ إذ يستبدلون كلمة مقود بكلمة مربط، قبل أن يستبدلوا اسم السيارة الشهيرة باسم النعامة.
لست من مؤيدي هذه الممارسات التي لا يقلل ما قد تنطوي عليه من حس الدعابة وذكاء المقاربة، من احتمالات السخرية من إبداعات حافظت على مكانة معتبرة لقرون طويلة، ومع ذلك، فإن استبدال «مقود السيارة بمربط النعامة» ما زال المعنى الأقرب للعصر الذي نعيش فيه.
لقد كانت الدواب وسيلة الانتقال الوحيدة التي حظيت بالمجد والمديح والاعتماد، حتى ظهرت العربات التي تجرها الدواب، ثم السفن، فالسيارات، فالطائرات، والطائرات الأسرع من الصوت؛ وهو الأمر الذي لم يُنزل الدواب موضع الإهانة أبداً؛ لكنه لم يستوجب الاعتذار، أو الندم، أو محاولة إعادتها إلى دورها المحوري في صناعة النقل.
هكذا تجري الأمور عادة، إذ تبقى الأهداف والغايات (الانتقال مثلاً)، وتتغير الوسائل. حدث هذا أيضاً في غاية القتال التي استخدم البشر لإدراكها وسائط عدة على مر التاريخ، بدأت بالسيف والرمح، مروراً بالخيول المدرعة والعربات الحربية، ثم المدافع والبنادق، فالصواريخ عابرة القارات، وقاذفات القنابل والغواصات، وصولاً إلى الأسلحة النووية.
في الآونة الأخيرة راح صحافيون يسألون، ونقاد يستفسرون، وباحثون يستقصون، ومنتديات تبحث وتناقش كيفية الحفاظ على الصحيفة الورقية وتمديد عمرها، وفي الطريق إلى ذلك ظهرت اقتراحات ومقاربات وتوصيات، واستُدعيت تجارب وإحصائيات من بلدان على أطراف العالم، بغرض يبدو لي منقطعاً عن خدمة الغاية، وغارقاً في الافتتان بالوسيلة.
يذكرنا هذا بسرج المتنبي وكتابه، أو بمربط الحارث بن عباد ونعامته، ويعيد طرح السؤال: ما الغاية التي رجاها الشاعران عندما أطلقا هذين البيتين؟ وما الوسائل التي كانت متاحة آنذاك لإدراكها؟
نحن صحافيون، نعمل في إنتاج المحتوى، وتصنيفه، وتجهيزه، وإرساله إلى الجمهور، وغايتنا التأثير، وإدامة «العلامة التجارية» التي نعمل لها، وربما تحقيق الأرباح؛ فما الذي بقي للوسيط؟
ما بقي للوسيط أن يكون أكثر تناسباً مع آليات التلقي، وأكثر مواكبة لنمط الحياة، وأكثر جدوى في التكلفة والقدرة على النفاذ، فلا عزاء للوسائط... أما البقاء فللغايات.



هل تنجح مساعي دمج صُنّاع المحتوى داخل غُرف الأخبار؟

صحف سعت لاجتذاب صُنّاع المحتوى (متداولة)
صحف سعت لاجتذاب صُنّاع المحتوى (متداولة)
TT

هل تنجح مساعي دمج صُنّاع المحتوى داخل غُرف الأخبار؟

صحف سعت لاجتذاب صُنّاع المحتوى (متداولة)
صحف سعت لاجتذاب صُنّاع المحتوى (متداولة)

يبدو أن ثمة تطوراً جديداً ربما يظهر داخل «غرف الأخبار»، بعدما سعت صحف بارزة، مثل «واشنطن بوست»، لاجتذاب صُنّاع المحتوى بهدف «تعزيز التواصل مع الجمهور»، في حين أثارت مساعي دمج صُنّاع المحتوى (المؤثرون) داخل غُرف الأخبار تساؤلات بشأن «ضمانات التوازن بين المعايير المهنية والتكيّف مع تطلّعات الجمهور».

ووفق تقرير معهد «رويترز لدراسة الصحافة»، العام الماضي، فإن «الجمهور من الفئات الأقل من أربعين عاماً يعيرون اهتماماً أكبر لصُنّاع المحتوى، أو ما يطلقون عليهم لقب (مؤثرون)، بوصفهم مصدراً للمعلومات وكذلك الأخبار».

كما أشارت دراسة استقصائية ضمن مبادرة «بيو-نايت» الأميركية، المعنية برصد التغيرات في كيفية استهلاك الأخبار والمعلومات، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى أن أكثر من خُمس البالغين في الولايات المتحدة يعتمدون بانتظام على «المؤثرين» للحصول على الأخبار.

ومع ذلك، فإن معظم هؤلاء «المؤثرين» الذين ينشرون الأخبار لا ينتمون إلى مؤسسات إخبارية ولا يخضعون لتدريب صحافي. وحسب دراسة أجرتها منظمة «اليونيسكو» ونُشرت نتائجها، نهاية نوفمبر الماضي، فإن غالبية هؤلاء المؤثرين (62 في المائة) لا يتحقّقون من صحة المعلومات التي يشاركونها مع جمهورهم، ما يُثير مخاوف من انتشار «المعلومات الزائفة».

ومعروف أن ثمة تجارب بدأت تخوضها أخيراً غرف الأخبار للدمج بين الصحافي المدرب وصانع المحتوى صاحب الكاريزما والجمهور. وظهرت، في هذا الإطار، نماذج؛ مثل: «واشنطن بوست»، والمنصة الأميركية «مورنينغ بيرو» التي أطلقت بالفعل مبادرات يقودها صُنّاع محتوى على منصات التواصل الاجتماعي، غير أن الاتجاه لا يزال قيد التجربة والتقييم، حسب ما يبدو.

الخبير في إدارة وتحليل بيانات «السوشيال ميديا»، مهران كيالي، رهن نجاح تجربة دمج صُنّاع المحتوى في غرف الأخبار بـ«تنظيم العلاقة بين الطرفين»، وقال لـ«الشرق الأوسط» إنه «على غرف الأخبار أن توفّر لصُنّاع المحتوى أدوات؛ مثل: التحقق من المصادر، والالتزام بأخلاقيات الصحافة، في حين يقدّم صُنّاع المحتوى خبراتهم في الإبداع الرقمي وفهم الجمهور على المنصات الحديثة». وأضاف: «كما يجب تقنين العلاقة من خلال وضع إطار واضح يحدّد المسؤوليات وأسلوب العمل».

غير أن كيالي أشار إلى «تحديات أمام تجربة دمج صُنّاع المحتوى في غرف الأخبار»، قائلاً: «هناك نظرة سلبية من قِبل بعض الصحافيين التقليديين تجاه صُنّاع المحتوى، بل هم يعدونهم دخلاء على المهنة، رغم امتلاكهم جمهوراً واسعاً وتأثيراً كبيراً». وأضاف: «بعض المؤسسات الصحافية تعاني صعوبة التكيّف مع أسلوب المحتوى السريع والبسيط الذي يتناسب مع منصات التواصل الاجتماعي، خشية خسارة الصورة الوقورة أمام الجمهور».

وعدّ كيالي أن غرف الأخبار قبل أن تستعين بصُنّاع المحتوى، هي بحاجة إلى «التجهيزات والإجراءات التي تمكّن الصحافيين من إنتاج ونشر محتوى رقمي جذاب بسرعة».

وعن الحلول لتجاوز هذه التحديات، أوضح الخبير في إدارة وتحليل بيانات «السوشيال ميديا» أنه «يجب على المؤسسات تحديث سياساتها وتوفير الدعم الفني والتدريب اللازم للصحافيين، مع تغيير النظرة السلبية تجاه صُنّاع المحتوى والبحث عن تعاون».

وأشار كذلك إلى أهمية تحقيق التوازن بين المهنية والتطوير، قائلًا: «بعض غرف الأخبار تحتاج إلى تعزيز مصداقيتها بالالتزام بمبادئ الصحافة، من خلال تجنّب المصادر غير الموثوقة وتدقيق المعلومات قبل نشرها»، و«لجذب الجمهور، يجب تقديم محتوى يلامس اهتماماته بأسلوب مبسط مع استخدام أدوات حديثة مثل الفيديوهات القصيرة؛ مما يضمن الجمع بين الدقة والجاذبية لتعزيز الثقة بعصر المنافسة الرقمية».

المحاضرة في الإعلام الرقمي بالجامعة البريطانية في القاهرة، ياسمين القاضي، ترى أن بعض المؤسسات الإخبارية لا تزال تعتمد الاستراتيجيات «القديمة» نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي، وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «منذ سنوات تبنّت بعض وسائل الإعلام مفهوم (التحويل إلى منصات) من خلال جمع المعلومات وتدقيقها، وهو الدور الأصيل للصحافة، ثم نشرها بأسلوب يحاكي وسائل التواصل الاجتماعي، غير أن هذا الاتجاه ربما لن يكون كافياً في ضوء احتدام المنافسة مع صُنّاع المحتوى، مما أفرز اتجاه الاستعانة بـ(المؤثرين)».

وأوضحت القاضي أن «الغرض من دمج صُنّاع المحتوى في غرف الأخبار، هو تقديم المعلومات المدققة بأسلوب مبتكر». وأضافت أن «الاستعانة بشخصية مؤثرة لنقل المعلومات لا تعني بالضرورة المساس بمصداقية المحتوى ودقته، فالأمر يعتمد على مهارة كُتّاب المحتوى، فكلما كان الكُتاب صحافيين محترفين يسعون لتطوير أدواتهم ضمنت منصة الأخبار تقديم معلومات دقيقة وموثوقة».