رحيل جان دانيال ابن الجزائر ورائد الصحافة الفرنسية

TT

رحيل جان دانيال ابن الجزائر ورائد الصحافة الفرنسية

نادراً ما حظي رجل فكر وثقافة وإعلام عند مماته، في السنوات الثلاثين الأخيرة في فرنسا، بالتكريم والتقريظ والإجلال، الذي حظي به جان دانيال. معه امحت الفوارق، وتراجعت الحواجز السياسية والآيديولوجية. غيابه حمل أهل السياسة على تناسي خلافاتهم وانقساماتهم. كان مدرسةً ونهجاً وقيماً. لم يخبئ يوماً قناعاته، ولا وضع في جيبه بيرق الفكر اليساري الإنسانوي المتنور والمحدث الذي حمله طيلة حياته. الحديث عن الرجل الذي رافق التحولات الكبرى في العالم منذ الحرب العالمية الثانية بالغ الصعوبة. لا يختصره نشاط ولا تأويه فئة. ثري الفكر ومتنوع الاهتمامات. غمس قلمه في الأدب فكانت له مؤلفات لا تقل عن الثلاثين. إلا أن حبه الأكبر كان الصحافة.
قبل مائة عام، ولد جان دانيال بن سعيد في مدينة بليدا الجزائرية التي كانت وقتها «جزءاً من فرنسا»، الدولة المستعمرة، في عائلة يهودية متواضعة، بل بالأحرى فقيرة، خصوصاً مترامية، لأنها مؤلفة من 11 ولداً. والده جول بن سعيد، مسؤول المجلس اليهودي المحلي في بليدا وأمه راحيل بن سيمون. ووفق كتاب جان كلود بارو وغيوم بيغو، بعنوان «تاريخ العالم أجمع»، الصادر عام 2005، فإن عائلة جان دانيال هي في الأساس من بربر الجزائر، وقد اعتنقت «في تاريخ غير محدد» الديانة اليهودية. ووفق القوانين الفرنسية السائدة وقتها، فإنها كانت تحمل، كونها يهودية، الجنسية الفرنسية، وهو ليس حال مسلمي الجزائر. لكن هذه النشأة لم يكن لها تأثير على جان دانيال بن سعيد الذي تخلى، لاحقاً وعندما أصبح صحافياً، عن اسم عائلته واكتفى باسميه الأولين.
لو عاش جان دانيال، الصحافي الفرنسي، مؤسس مجلة «لو نوفيل أوبسرفاتور»، خمسة أشهر إضافية، لكان بقي على هذه الأرض مائة عام. والملفت في هذا الرجل أنه بقي متمكناً من كافة إمكاناته العقلية والذهنية. ذلك أن آخر كتبه التي تملأ المكتبات، ويصل تعدادها إلى الثلاثين، صدر في عام 2016 بعنوان «ميتران المتفلت». وبمناسبة عيد ميلاده الـ99، قال عنه الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع إدغار موران، إن إنتاجه الصحافي غطى على غزارة إبداعاته الأدبية، لأن جان دانيال الذي بقي عدة عقود رئيساً لتحرير «لو نوفيل أوبسرفاتور»، المجلة التي اختارت أن تكون صوت اليسار المعتدل غير الشيوعي، كان مكثاراً في كتاباته ومتنوعاً في خياراته الأدبية. لكنه قبل ذلك كله، كان قارئاً نهماً، عايش أندريه جيد وأندريه مارلو وألبير كامو وميشال فوكو، وكلها أسماء لامعة في فضاء الفلسفة والفكر والأدب. وتشبع دانيال من فلسفة معاصريه والسابقين بانتمائه بداية إلى جامعة الجزائر، قسم الفلسفة، ثم التحاقه بعد الحرب بجامعة السوربون في الحي اللاتيني في القسم عينه. صادق الأدباء والشعراء والفنانين والمبدعين وأهل السياسة، وأحياناً أهل السلطة، عندما كانت هذه الأخيرة بأيدي أصدقائه من اليسار. وفي اليسار، كان جان دانيال من أشد المتحمسين لحكومة الاشتراكي ليون بلوم، أواسط الأربعينات، الذي يبقى بالنسبة للفرنسيين، رمزاً للاشتراكية الناجحة التي أحدثت تغييرات في المجتمع لصالح الفئات الأكثر هشاشة. كذلك تحمس لوصول فرنسوا ميتران، أول رئيس اشتراكي يتربع على قصر الإليزيه في الجمهورية الخامسة. وفي سن السادسة والعشرين، عايش جان دانيال تجربة الحكم من الداخل بانتمائه، لفترة قصيرة، إلى مكتب رئيس الوزراء المؤقت فليكس غوين. لكن هذه التجربة لم تدم طويلاً، إذ إنه كان يبحث عن شيء آخر.
خلال مسيرة حياة ثرية وحافلة، انداحت إلى مائة عام، وهي استثنائية في عمر الإنسان، لم يحد جان دانيال عن خطه، فكانت قناعاته متجذرة وثابتة. كان من أنصار الجزائر المستقلة، بينما كان غالبية معاصريه مصرين على بقاء الجزائر تحت الهيمنة الفرنسية. لم يكن جان دانيال رجل فكر وأدب فقط، بل كان أيضاً رجل اقتناع والتزام. ولعل أبرز ما يدل على ذلك انتماؤه إلى المقاومة الفرنسية التي حاربت القوات الألمانية النازية، ملتحقاً بالجنرال لوكلير الشهير، قائد الكتيبة المدرعة الثانية التي كانت الأولى في الوصول إلى باريس وتحريرها. إلا أن طموحات الصحافي، الأبرز في جيله، كانت في مكان آخر. وجاءت أولى تجاربه المهنية من خلال تأسيس مجلة أدبية في عام 1947، كانت تسمى «كاليبان». بعدها عبر إلى الصحافة السياسية بانتمائه إلى مجلة «الإكسبريس» لصاحبها جان جاك سرفان شرايبر، التي كانت سباقة في بث روح حداثية. وفائدة هذه المرحلة بالنسبة لجان دانيال أنها مكنته من العودة إلى الجزائر مراسلاً لـ«الإكسبريس»، حيث ترسخت قناعاته لجهة ضرورة منح الجزائر استقلالها بعد 132 عاماً من الاستعمار الفرنسي. ويكفي، لإبراز الدور الذي لعبه جان دانيال في الدفع لاستقلال الجزائر، أنه تلقى تهديدات بالقتل، وكما أنه وجهت إليه اتهامات بتهديد أمن الدولة. وفي هذا السياق، قال عنه أمس، الرئيس الاشتراكي السابق فرنسوا هولاند، إن دانيال «كان بمثابة الضمير الذي وعى ضرورة التخلص من الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وقد ساهم بذلك من خلال كتاباته وأفعاله مغامراً حتى بحياته». وأضاف هولاند: «كان ضميراً حياً عمل للسلام في الشرق الأوسط طيلة حياته، ساعياً إلى إقامة روابط وبناء جسور بين الإسرائيليين والفلسطينيين، واستمر في ذلك بثبات رغم الإخفاقات المتلاحقة. كان ضميراً حياً عمل دوماً من أجل بلدان المغرب وأفريقيا، لأنه كان يعلم أن مصيرنا مرهون بتنمية وتطور هذه القارة الكبيرة».
تمثل مغامرة تأسيس مجلة «لو نوفيل أوبسرفاتور» في عام 1964، إحدى أنجح التجارب الصحافية في فرنسا. وقد شكلت، بالنسبة لجان دانيال، المنبر الأمثل لمواكبة وتحليل المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفني الفرنسي. ذلك أنه لم يكن فقط كاتباً سياسياً، بل كان متعدد الاهتمامات والمواهب. إلا أن التزامه السياسي من أجل الخلاص من مرحلة الاستعمار والاهتمام بالعالم الثالث، وتبنيه النهائي للاشتراكية الحديثة القادرة على إدارة شؤون الناس وغير المتقوقعة أو المتحجرة، ستبقى كلها عناوين لامعة في المعارك السياسية التي خاضها.



تساؤلات بشأن اعتماد مقاطع الفيديو الطولية في الأخبار

مقاطع فيديو طولية على صفحات مواقع الأخبار (معهد نيمان لاب)
مقاطع فيديو طولية على صفحات مواقع الأخبار (معهد نيمان لاب)
TT

تساؤلات بشأن اعتماد مقاطع الفيديو الطولية في الأخبار

مقاطع فيديو طولية على صفحات مواقع الأخبار (معهد نيمان لاب)
مقاطع فيديو طولية على صفحات مواقع الأخبار (معهد نيمان لاب)

أثار اعتماد مواقع إخبارية كبرى، أخيراً، على مقاطع الفيديو الطولية تساؤلات بشأن أسباب ذلك، ومدى تأثيره في الترويج للمحتوى الإعلامي وجذب أجيال جديدة من الشباب لمتابعة وسائل الإعلام المؤسسية. وبينما رأى خبراء أن مقاطع الفيديو الطولية أكثر قدرة على جذب الشباب، فإنهم لفتوا إلى أنها «تفتقد لجماليات الفيديوهات العرضية التقليدية».

معهد «نيمان لاب» المتخصص في دراسات الإعلام أشار، في تقرير نشره أخيراً، إلى انتشار مقاطع الفيديو الطولية (الرأسية) في مواقع إخبارية كبرى مثل «الواشنطن بوست» و«النيويورك تايمز». واعتبر أن «مقاطع الفيديو الطولية القصيرة، التي تُعد عنصراً أساسياً في مواقع التواصل الاجتماعي تشق طريقها بشكل كبير».

ولفت معهد «نيمان لاب» إلى أن «مقاطع الفيديو التي تنتشر بكثرة على (إنستغرام) و(تيك توك) و(يوتيوب)، تلقى نجاحاً عند استخدامها في مواقع الأخبار»، مستشهداً باستطلاع نشره «معهد رويترز لدراسات الصحافة»، العام الماضي، أفاد بأن 66 في المائة من عينة الاستطلاع يشاهدون مقاطع فيديو إخبارية قصيرة كل أسبوع، لكن أكثر من ثلثي المشاهدات تتم على منصات التواصل.

رامي الطراونة، مدير إدارة الإعلام الرقمي في «مركز الاتحاد للأخبار» بدولة الإمارات العربية المتحدة، قال في لقاء مع «الشرق الأوسط» إن اتجاه المواقع الإخبارية لاستخدام مقاطع الفيديو الطولية «يعكس تغيراً في طريقة استهلاك الجمهور للمحتوى، ومحاولة للتكيف مع تطور سلوكياته»، وأرجع هذا التطور في سلوكيات الجمهور إلى عوامل عدة، أبرزها «الاعتماد على الهواتف الجوالة في التفاعل الرقمي».

وتابع الطراونة أن «وسائل الإعلام تحاول الاستفادة من النجاح الكبير للفيديوهات القصيرة على منصات التواصل، وقدرة هذا المحتوى على جذب الجمهور»، وأشار إلى أن «استخدام مقاطع الفيديو الطولية غيّر تجربة تلقي الأخبار وجعلها أكثر جاذبية وبساطة وتركيزاً وسهولة في الاستهلاك، نظراً لمحاكاتها التجربة ذاتها التي اعتاد عليها المتابعون في منصات التواصل». ونبه إلى أن المستخدمين يميلون إلى تمضية وقت أطول في مشاهدة الفيديوهات الطولية القصيرة والمتنوعة والتفاعل معها مقارنة بالفيديوهات العرضية التي تتطلب تغيير وضع شاشة الجوال لمتابعتها.

وأضاف الطراونة، من جهة ثانية، أن غالبية الجهات الإعلامية بدأت بتوجيه مواردها نحو هذا النمط من الفيديو، الذي يعزز فرص الانتشار والاستهلاك، وأن «مقاطع الفيديو الطولية تعتبر أداة فعالة لجذب الشباب، الذين يميلون للمحتوى البصري الموجز والمباشر، كما أن الفيديو الطولي يعكس أسلوب حياة الشباب الرقمي الذي يعتمد على الهواتف الجوالة».

هذا، وفي حين أرجع الطراونة التأخر في اعتماد مقاطع الفيديو الطولية - رغم انتشارها على منصات التواصل الاجتماعي منذ سنوات - إلى «القيود التقنية والأساليب التقليدية لإنتاج الفيديو»، قال إن معظم الكاميرات والشاشات والمعدات كانت مصممة لإنتاج الفيديو الأفقي ذي الأبعاد 4:3 أو 16:9، وكان هذا هو الشكل المعياري للإعلام المرئي سابقاً. ثم أوضح أن «إدراك منصات الإعلام التقليدية لأهمية الفيديو الطولي لم يترسخ إلا بعد بزوغ نجم منصات مثل (تيك توك) إبان فترة جائحة كوفيد-19، وبعدها بدأت تتغير أولويات الإنتاج وباشرت بدعم هذا الشكل الجديد من المحتوى تدريجياً».