فروست.. هل كان دكتور جيكل الطيب أم مستر هايد الشرير؟

رسائل تغطي 44 عاما من حياته

روبرت فروست
روبرت فروست
TT

فروست.. هل كان دكتور جيكل الطيب أم مستر هايد الشرير؟

روبرت فروست
روبرت فروست

«لست إلا روحا هيابة، تحسب حسابها، وتنظر دائما إلى ما فيه منفعتها». هكذا كتب الشاعر الأميركي روبرت فروست (1874 - 1963) في إحدى رسائله التي صدر الجزء الأول منها هذا العام (2014) تحت عنوان «رسائل روبرت فروست: الجزء الأول 1886 - 1920» عن مطبعة بلنكاب بجامعة هارڤارد، وحررها دونالد شيهي ومارك رتشاردسون وروبرت فاجين The Letters of Robert Frost: Vol 1,1886 - 1920 edited by Donald Sheehy، Mark Richardson and Robert Faggen.
تغطي هذه الرسائل 34 عاما من حياة الشاعر. ومن المنتظر أن تعقبها ثلاثة أو أربعة أجزاء أخرى تصل بنا إلى نهاية حياته. وهي أقل حجما من رسائل ت.س. إليوت (1888 - 1965)، مثلا، التي صدر منها حتى الآن 4 أجزاء تتوقف عند عام 1930. ومن المنتظر أن تصل إلى 20 جزءا على الأقل.
من المعروف أن رسائل الأدباء الشخصية ومذكراتهم ويومياتهم، بل إيصالات مشترواتهم من السوق أو فواتير معاملاتهم التجارية، من أكثر الوثائق تشويقا لما تلقيه من ضوء على حياة الأديب، عارية دون قناع.
وينطبق هذا على رسائل فروست كما ينطبق على رسائل غيره. فنحن نراه هنا كما كان على سجيته في حياته اليومية وحياته الأدبية على السواء. سنجد فيه ملامح جذابة وأخرى أقل جاذبية. ولكننا في كل الأحوال سنرى الإنسان بقوته وضعفه.
تؤكد هذه الرسائل ما اتجهت إليه شكوك عدد من النقاد والباحثين منذ زمن طويل: إنه لم يكن هناك رجل واحد يدعى روبرت فروست، وإنما كان هناك رجلان. قل - إن شئت - إنه كان يجمع في إهابه بين الدكتور جيكل الطيب والمستر هايد الشرير، في رواية روبرت لويس ستفنسون. وإذا كان كل إنسان خليطا من الخير والشر فإن هذه الازدواجية تبدو في حالة فروست أكثر وضوحا مما هي في حالة غيره من الأدباء.
هناك، أولا، فروست شاعر نيو إنجلاند الذي غدا شاعر أميركا القومي - مثل والت ويتمان قبله - ودعاه الرئيس الأميركي جون ف. كيندي في 1961 إلى إلقاء قصيدة في احتفال تنصيبه رئيسا فألقى قصيدته المسماه «الهبة الكاملة» (1942) وهي قصيدة وطنية ملؤها الاعتزاز بالولايات المتحدة الأميركية، تلائم المناسبة. صورة فروست هنا - كما استقرت في أذهان الجمهور الأميركي - صورة رجل عجوز حكيم، أبيض الشعر، يوحي مرآه بالثقة والطمأنينة. إنه يلوح للوهلة الأولى شاعرا تقليديا، يسير على سنن الموروث الرعوي (الباستورالي) المنحدر إلى الأدب الغربي من ثيوكريتس وفرجيل، ولا يملك شيئا من تلك الجرأة الفكرية أو الألاعيب اللفظية أو غرابة الصور التي ترتبط في أذهاننا عادة بالشعر الحديث. ولكننا عند التعمق في عمله ندرك أن هذه الألفة والبساطة ليست إلا غطاء ظاهريا يخفي وراءه أبعادا عميقة وينم على صراعات نفسية وخلقية ما كانت لتتسنى إلا لشاعر من القرن الـ20.
لقد حفلت حياة فروست منذ ثلاثينات القرن الماضي بمآس عائلية ألقت ظلالها القاتمة على فكره وفنه. ففي الوقت الذي كان فيه موضع التقدير والتوقير بوصفه يمثل خير ما في الروح الأميركية من ثقة وتفاؤل، حلت به سلسلة من الكوارث. في 1934 ماتت أصغر بناته وأحبهن إليه، مارجوري، موتا بطيئا من حمى النفاس التي أصابتها عقب إنجابها طفلها الأول. وفي 1938 ماتت زوجة فروست فجأة بأزمة قلبية. وحين بدأ يتعافى من هاتين الصدمتين إذا بابنه كارول ينتحر في 1940. وبدأت ابنة أخرى له - إيرما - تعاني (مثل شقيقة فروست: جني) من اضطرابات عقلية انتهت بها في مستشفى للأمراض العقلية. ويعكس عدد من قصائد فروست في ديوانه المسمى «شجرة شاهدة» هذه الخبرات.
وتكشف هذه الرسائل أيضا عن أن حياة فروست كانت حافلة بتوترات بين أقطاب متقابلة: لقد عرف بأنه شاعر إقليم نيو إنجلاند ولكنه من الناحية الفعلية كان من مواليد سان فرانسيسكو، وقد انتقل إلى ولاية ماساتشوستس حين بلغ العاشرة. ورغم أنه يعد الشاعر الأميركي بامتياز فإنه قد ظل موضع تجاهل النقاد إلى أن مضى ليعيش في بريطانيا ثلاث سنوات. ورغم أنه كان يدافع عن الأشكال الشعرية التقليدية، وكان عدوا للشعر الحر يصفه بأنه «مثل لعب التنس دون شبكة»، فإن الذي دفع به إلى دائرة النور كان رائد التجديد وداعية الحداثة في الشعر الأميركي إزرا باوند وشعراء المدرسة التصويرية (الإيماجية).
كان فروست يعمل مدرسا في أميركا عندما جاء إلى إنجلترا في مطلع خريف 1912: وسيما مهوش الشعر. كان يدنو حينذاك من سن الأربعين، ولا خطط لديه إلا - على حد قوله - «أن أكتب وأن أكون فقيرا» (كان يدرك أن الشعر لا يجلب مالا). وكان مجيئه هذا مغامرة حقيقية، فقد جلب معه زوجة وأربعة أطفال انتزعهم من حياتهم الهادئة في مقاطعة نيوهامشير الأميركية لكي يقوم بغزوة - أشبه بغزوات دون كيشوت - للحياة الأدبية في لندن. على أنه سرعان ما اكتسب تقدير كبار الأدباء الإنجليز. صار يقضي أمسياته على ضوء الشموع مع الشاعر الآيرلندي الكبير و.ب. ييتس في غرف بيته المحجوبة بالستائر. ولفت نظر تلك الشخصية العاصفة التي كانت تعيش في لندن آنذاك: شخصية إزرا باوند الذي كتب عنه مقالتين وجهتا الانتباه إليه. وحين عاد فروست إلى أميركا كان قد نشر أول ديوانين له في إنجلترا: «وصية صبي» (1913) و«شمالي بوسطن» (1914). لقد وضع قدمه بالفعل على درب الشعر الطويل.
وفي مقالة عن هذه الرسائل (أدين لها بالكثير في مقالتي هذه) يقول وليم لوجان: «لقد أعاد دعاة الحداثة - باوند وإليوت ووالاس ستيفنز - صناعة الشعر الأميركي في عقد واحد من الزمان. وكان فروست يبدو غريبا بينهم: فهو لم يكن قد تلقى تعليما كثيرا في بلاده، وكان يكتب عن الريف لا عن حياة المدن. ويقول في واحدة من هذه الرسائل: «أليس من الغريب أني لم أكتب أي شيء أو أنشر أي شيء إلا عن مزارع نيو إنجلاند؟» (كان العنوان الأصلي لديوانه «شمالي بوسطن» هو «خدم المزرعة» وقصائد أخرى.
كان أبو فروست صحافيا من سان فرانسيسكو، مدمنا للشراب، مات بذات الصدر. وعمل الشاعر في مراهقته وصدر شبابه حَذّاءً وعاملا في فندق. وحتى عندما أصبح يعيش فوق مزرعته، فإنه لم يعرف قط «عبودية العمل بالجاروف». وإلي أن بلغ منتصف العمر لم يكن قد قضى أكثر من ست سنوات أو نحو ذلك في مزرعة، يربي الدجاج. إنه، باختصار، لم يكن شاعرا ريفيا.
والرسائل التي نعرضها هنا تتراوح بين التعبير عن عواطف تلميذ واهتمامات رجل ناضج في الخامسة والأربعين. لم يكن فروست - بعكس ت.س. إليوت - يكثر من كتابة الرسائل، فقد أصبح شابا يستخدم - حين تقدم في السن - هذين العدوين الأبديين لفن الرسائل: سكرتيرة وتليفون.
والحق أن فروست - كما يقول وليم لوجان - كان مراسلا فاتر الإحساس، وذلك إذا استثنينا نزوات الخيال التي قد تجمح به في أحيان قليلة حين يكتب لأصدقاء مقربين. ليس في رسائله تلك الحرارة التي نجدها مثلا في رسائل الشاعر الرومانسي جون كيتس أو الروائي الإنجليزي د.هـ. لورانس (وهما أعظم كتاب الرسائل في الأدب الإنجليزي). بل إنه - إذا نزلنا درجة أو درجتين - لا يملك فطنة ت.س. إليوت وذكاءه، ولا طريقة إزرا باوند العاصفة وكأنه بلدوزر يجرف كل ما أمامه، ولا رهافة الشاعرة الأميركية ميريان مور صعبة الإرضاء. لقد كان في أعماقه مكيافليا يحسب حساب الربح والخسارة. أو لعله كان يشعر داخليا بافتقار إلى الأمن والطمأنينة. وهذا ما يفسر رسائله - التي لا تخلو من تملق - لمن كانوا يمسكون بأعنة الحياة الأدبية آنذاك مثل الشاعرة إيمي لويل والشاعر الأميركي لويس إنترماير. وليست بالنادرة تلك المرات التي كان يمدح فيها شاعرا ثانويا في وجهه، حتى إذا أدار له ظهره سدد إليه طعنة بين الضلوع!
ليكن الأمر ما يكون. إن هذا المجلد إضافة مهمة إلى استكمال معرفتنا بفروست. لقد سبق أن أصدر الباحث ل. تومسون في 1964 (أي منذ قرابة نصف قرن) «رسائل روبرت فروست المختارة». وقبلها بعام صدرت «رسائل روبرت فروست إلى لويس إنترماير». وفي 2007 نشرت «مذكرات روبرت فروست». وحين تكتمل أجزاء هذا المشروع سيكون بمقدور القراء والأدباء والنقاد والباحثين أن يكونوا صورة أصدق وأوضح لهذا الشاعر المحير: الشاعر الطيب الذي تستريح الأعين إلى منظره الخارجي، ورجل الشياطين الداخلية الذي وصفه الناقد الأميركي لايونيل تريلنج بأنه «شاعر الرعب»، وذلك في احتفال ببلوغ فروست الـ85 عاما.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي