بعد أكثر من ستة عشر عامـاً مـن التنافس المتواصـل بين الفرقـاء العراقيين، جـاءت انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019 لــتعلن بداية فــترة الوعي الشعبي من أجل العدالة والكرامة والديمقراطية، والسعي بالعراق لمرحلـة بنـاء المؤسسـات الوطنية الدائمــة التي مــن المفــترض أن تعيــد بنــاء الدولة المنهارة.
ورغم أهمية هذه الانتفاضة التاريخيـة، فإن إزاحة المحاصصة لا تزال تمثـل تحـدياً حقيقيـاً أمـام أي برامج حكومية جديدة، بالإضافة إلى إصرار قادة الكتل والأحزاب وأمراء الفصائل على تنفيذ المحاصصة السياسية والطائفية والقومية. وتواجه الدولة العراقية اليــوم، بالإضافة إلى مشكلة المحاصصة وما نجم عنها من تهميش وإقصاء للكفاءات وتهجير للعقول وحروب داخلية بـين شركـاء الـوطن واللغـة والدين، موجات التشدد الديني التي تطورت وتعقدت بسبب المحاصصة التي قام بسببها نظام فاشل، وتمظهـرت في بعـض جوانبها على هيئة بروز جماعات عنف أفقدت الـبلاد الأمن والاستقرار، وهو ما يمثل تحـدياً يواجـه كل حكومة، فالنضــال مــن أجــل العدالة الاجتماعية والتنميــة في العراق اليــوم يأخذ مســارين: مســار القضــاء عــلى المحاصصة السياسية وآثارها، وبناء دولـة القـانون التـي تقـوم عـلى المساواة بين المـواطنين وتحقيـق العدالـة الاجتماعيـة. ومسار احتكار السلاح بيد الدولة. وينتشر السلاح في محافظات العراق كافة؛ سواء على أسـاس مزاعم دينـية كالفصائل المسلحة، أو على أساس مزاعم عشائرية كسلاح العشائر التي أصبحت في المحافظات الجنوبية دولة داخل دولة.
تطــور دور المحاصصة إلــى المشــاركة فــي كل تفاصيل العمليــة السياســية، وحتــى لو كان ذلك لمصلحــة سلمية الــدولة، فقــد قامــت الأحزاب المسيطرة المنتفعة من المحاصصة، باستثناءات خاصة لها، أصبحت تشكل تهديـداً للهويــة الوطنية، وتقدم مصلحة الهويات الفرعية وتحالفــاتها العصبيــة أو الطائفيــة أو القومية على المصلحة العامة. وظلــت التوازنــات مــع المحاصصة مكونــاً أساسياً فــي النظام السياسي بعد 2003. وليــس ســراً تزوير الانتخابــات بسبب المحاصصة والسلاح السائب الحارس لها لــدى بعــض الفصائل والعشائر العراقية لفرض مرشــحيها فــي الانتخابــات البرلمانية والمحلية، بحيــث يلتــزم المنتمــون إلــى العشيرة والقرية بتأييــد مرشــحهم. ويحــدث ذلــك بغــض النظــر عــن برنامــج المرشــح السياســي؛ كمــا يتجلــى دور المحاصصة فــي حــالات الاستقطاب السياســي أو الطائفي أو القومي.
وعــلى المســتوى الاقتصادي باتت ثروات العراق غنيمة تطمع فيها القوى الإقليمية والدولية. وبــات للمحاصصة السياسية رعاة من خارج العراق لهم دور محوري منذ إسقاط نظام صدام حسين عام 2003. وبعد انهيار الدولـة، تـدخلت دول الجـوار في الشــأن العراقي بشــكل مبــاشر وغــير مبــاشر، فتدخل إيران وسوريا في الشـأن العراقي أمنياً وسياسياً واقتصادياً كــان لــه تــأثيره الســلبي خلال السنوات الماضية. ولم تسعَ أحزاب المحاصصة السياسية في العراق التي تسلمت السلطة بعد الاحتلال الأميركي إلى إعادة بناء الاقتصاد العراقي، رغم توفر موارد مالية كبيرة، وبدلاً من ذلك تحول الاقتصاد إلى ريعي، نتج عنه نهب ثروات العراق من قبل قيادات النخب الحاكمـة، وانتشار الفساد المالي والإداري وتفاقم البطالة والفقر وتردي مستوى الخدمات.
أما وجود إدارات تنصبت بالمحاصصة في مجال إدارة الدولة وفي جميـع المجـالات، فقد أثر سـلباً عـلى سير العملية السياسية والأمنية والاقتصادية؛ سواء كان موقفاً أو قراراً أو تشريعاً، لأن الاختيار لشغل منصب ما للأسف يتم حسب الانتماء السياسي، أو النسب، بغض النظر عن المؤهلات العلمية، أو العملية، ففي هذه الحالة لن يخدم محيطـه ولـن يفكر في الولاء للعراق. إن احترام مبدأ سيادة القانون والعدالة الاجتماعية يحتاج لتوافر الخـبرات والمهـارات الجيـدة لإعـداد دراسـات تحليليـة لتحديـد إيجابيات وعيوب كل بديل من أجل اتخاذ القرار الذي يساعد في تقليل الفساد وتعطيل المحاصصة بتغليب المصلحة الوطنية على الشخصـية.
المحاصصة السياسية أضعفت قانون الدولة، وتمددت في إضعاف مؤسساتها بمساعدة عوامل أخرى، فكثير من الوزارات والمؤسسات تقع حالياً تحت سلطة الأحزاب السياسية وفصائلها المسلحة، وأيضاً هناك مناطق كبيرة في شمال وغرب العراق تقع تحت سلطة الفصائل غير النظامية وتطلق عليها مناطق محررة، أو تحت سيطرة المكاتب الاقتصادية صاحبة السلاح التي تفرض سلطتها عند تقاسم المشاريع والمقاولات والموازنات.
بسبب تعرض الدولة للمحاصصة أصبحت الإدارات غير قادرة على العمل وفق القانون أو تقويم الاعوجاج أو الانحراف كما كان في الماضي. وأصبحت تقف عاجزة أمام إقناع الفصائل المسلحة واستمرار الحكومة في دفع الأموال والاستثمارات من أجل كسب هدوء تلك الفصائل، الأمر الذي شجع على استمرار الجرائم وأعمال العنف.
ومن الملاحظ أن تقاسم الثروات والسلطات وفق المحاصصة أصبح يدار من داخل مكاتب الأحزاب المسيطرة ومن قبل نافذين في الدولة، لا مانع لديهم في الوصول إلى السلطة على حساب مصالح أهلهم. إن أحد أكثر أسباب الفساد هو التطلع للسلطة عن طريق المحاصصة. لقد أصبحت المحاصصة الحزبية والطائفية صاحبة الصوت الأعلى في توزيع فرص العمل...
وهذا رغم أن المجتمــع العراقي فــي معظــم مدنه أصبــح أقــرب إلــى المجتمعــات المدنية، إلا إن بعــض أريافه ما زال تحكمه الأعــراف والعشيرة التي تتشبث بقوة بعرف المحاصصة.
عرف المحاصصة في تقاسم السلطة والثروة أنتج طبقة مستثمرة في الفساد من أجل الاستدامة، لذلك تسعى لاستمرار الأزمات والنزاعات الداخلية باصطناع الفتن وبغيرها من الوسائل.
إن كثيراً من الباحثين والمراقبين كانت لهم مقترحات لتجاوز عقدة المحاصصة؛ منها:
1- إعمال الحوكمة الحقيقية مع الديمقراطية.
2- إعادة النظر في قانون مفوضية الانتخابات ونزاهتها.
3- تفعيل قانون العمل وتسنّم المناصب الخاصة حسب المهنية والضوابط القانونية، وإعادة الأهلية لمؤسسات الدولة وإلى سابق عهدها بسلطاتها وهيبتها وحيادها.
4- أن تترك الأحزاب السياسية المسيطرة للشعب سيرورته الوطنية بحيث تنحسر المحاصصة ثم تنتهي تدريجياً بزحف وسائل وظروف الديمقراطية الوطنية.
5- أن تكف الحكومة عن تسييس المناصب الخاصة دون الوزارة.
6- احتكار سلاح الفصائل بيد الدولة ونزع سلاح العشائر وتقوية القوات النظامية وتكثيف نشرها في مناطق التوتر والنـزاع.
7- أن ترتفع الأحزاب السياسية إلى مستوى المسؤولية الوطنية وتضع في أولوية برنامجها السياسي بناء مؤسسات الدولة وتقويتها؛ بأن تركز في برامجها على المشاريع والتنمية وليس على المناصب، وذلك من أجل تحقيق تغيير اجتماعي حقيقي وصناعة وعي وطني شامل يقضي على المحاصصة والفساد.
- باحث وأكاديمي
عرف المحاصصة في العراق يؤدي إلى فساد مكشوف
عرف المحاصصة في العراق يؤدي إلى فساد مكشوف
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة