الحبُ اختفاءٌ في العلن، والداخلونَ إلى استمرارهِ هم الناجون. اندلعْ، اندلعْ، قبل أن ينفجرَ لغمُهم، حبُّنا قبْلَهم. ليس قبلهم تمامًا، ربما معهم، لكن دويَّنا فتّتَ أوصالهم، أحالهم تماثيل ترشُّ العتمةَ بلا طائل على مصابيح سيّاحٍ يشعلون للحب عناقيدَ السفر. ماءُ السلالات الأبيض المشع، نسيمُ جناتٍ وعْدُها أخضر وأبوابها بلا حرّاس، مياعةُ الفطنة في أصلاب آدم؛ الحب أيها الحب، كيف بنفحةٍ دحرتْ أصنامَ الوصايا وَهُمْ صُم؟ حمّلنا قلوبَنا قناديلَ ليلك، والمتاهة دليلنا للفكاك من الصواب. وكلما اقتربنا من احتمال الخطأ، وجدناه حُلْوًا، وذقنا لذة الهلاك بأن نفْنى في بياضك، متلاشين في كمال المحو، بلا رغبة في أثر يزول، وبلا استتباب شيء، تاركين للنادم فرصة الرقص في الميزان. هل سَيَزِنُ الراقصُ ندمَه؟! هل سيكونُ صادقًا ليقول بأن الريشةَ تحلّقُ به؟ ما أثقلَ أن تُبْعثَ شفتاه، لتجدا أن القبلةَ غادرت قيامتها. كان ينوي طيلة البرزخ، أن يهمسَ فيها سفنَهُ، نادمًا على كل ندمه. نعم، الندمُ يصقل روحَ العاشق. تعالوا انظروا العاشقين المتخاصمين. ما إن أخذا يسترجعانِ احتضاناتهما ويستعيدُ كلٌّ منهما قبلاتِه من الآخر، حتى انفجر الندم وازدهر الشوق، وسرعان ما عادا إلى بيت الحب معًا. وَخَطَ الشيبُ مغرب نجومه، فانبلجتْ فتنةُ صحوه. أعدَّ عتاده، نفضَ البارحةَ عن ثيابه، امتشقَ كاملَ قوته، وككل سربٍ يمرُّ به، يقف في مواجهته إلى أن يعبره ثم يعود ليعتني بمشيب نجومه وبصحوه. هكذا، بلا ندم. صداقةٌ يمكن الثقةُ بقدرتها على التحليق بأجنحةٍ رحبة، مثل سرب نجوم لا يطالها الشيب ولا تطالها الشيخوخة. الخطأ عندها الإشارة الدالة على صواب وشيك. لا تصدقوا أحدًا، ولا تأمنوا لشيء غير ندم القوادم في أجنحة الطيران وهي تتدرب على الريح. لقد فاضَ بنا انتظارٌ لا نهاية له، وأملٌ مهدد باليأس. يا الله، بَنُوكَ قيدَ الموت. الفضةُ في الرأس ضربٌ من تراكم المعنى وزعم التجربة. وكلما شيّخ النصَّ، فاضَ به الحب، حدَّ الكتابة خارج الدلالات. كنت أسعى لتمويه الحياة كي أغرر بالموت. فتعالوا انظروا الخسارات. كلُّ موتٍ هناك نهاية هنا. ليس لأحد الزعم أننا على مبعدة من نهايات القتلى. على كثب نحن من القافية، فالقصيدة تقتلنا كلما انتهت، والقوافي مشانقُ منصوبةٌ لمن يتوهّمُ الشعر. لذلك رأينا الواجبَ في فعل الانزياح، في إعادة ترميم معنى الهدم. القول في تكراره موتٌ قادم، والمستقبل في فم الصامتين بقايا أحجية. متحاربان، هذا بالسيف وهذا بالقلم، والطعنة تأتي من أمام ومن خلف. كأن الصراع كله على: من يجتزُّ الزهرة أولاً؟
ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟https://aawsat.com/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86/5083377-%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D9%83%D9%84%D9%87-%D9%8A%D9%86%D8%B9%D9%85-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D9%86%D8%AD%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8%D8%9F
في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.
في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.
السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.
محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.
بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.
ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.
في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.
وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.
ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.