هل يجب أن نقلق من الذكاء الصناعي وقلبه موازين الحياة البشرية؟

هل يجب أن نقلق من الذكاء الصناعي وقلبه موازين الحياة البشرية؟
TT

هل يجب أن نقلق من الذكاء الصناعي وقلبه موازين الحياة البشرية؟

هل يجب أن نقلق من الذكاء الصناعي وقلبه موازين الحياة البشرية؟

أصبح التقدم العلمي المذهل المحيط بنا في كافة مناحي الحياة يمثل ضرورة وجود للتعايش مع هذا العالم؛ خصوصاً أن هذا التطور الهائل يفرض علينا نظرية مؤداها: هل يمكن للتقدم العلمي أن يحل محل العنصر البشري في جميع أمور حياتنا؟ وهل يمكن للعنصر البشري أن يقف مكتوف الأيدي أمام هذا التطور العلمي الذي اقتحم جميع الميادين، بما في ذلك ميادين كنا نظن أنها مقصورة على العنصر البشري فقط، مثل الصحة؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، يأخذنا كتاب «سحرة المستقبل: هل يمكن للذكاء الصناعي أن يعالجنا؟» الصادر مؤخراً عن دار النشر الفرنسية «مارابو» في 256 صفحة من القطع المتوسط؛ حيث يطرح مؤلفه الدكتور لواك إتيان، وهو طبيب طوارئ، من خلاله، عدداً من الأسئلة، مثل: هل يمكن للإنسان الآلي أن يشخص حالتنا الصحية؟ وهل يمكن له كذلك تحديد الأدوية المناسبة لكل حالة على حدة؟ وهل يمكن له أيضاً إجراء عمليات جراحية لنا؟
الإجابة تبدو بسيطة للغاية، مفادها أنه من الآن فصاعداً، وخلال العشرة أعوام القادمة، سيكون بمقدور الذكاء الصناعي تنفيذ كل المهام سالفة الذكر؛ بل سيتجاوز الأمر مداه بتنفيذها بطريقة أمهر وأفضل من الطبيب البشري ذاته، وهو ما ننتظره حقاً، الأمر الذي قد يغير من طبيعة ودور العنصر البشري في المجال الطبي.
ثم يتساءل المؤلف: لكن، هل يمكن لنا أن نخشى ونخاف من هذا التغير في الدور؟ أو بمعنى آخر: هل يمكن لنا أن نقلق من دور الذكاء الصناعي الذي سيقلب موازين الحياة البشرية؟
إن هذه الخطوة - كما يستدرك - تمثل حلقة الوصل بين الخيال والاحتمال الواقعي لما سيكون عليه الطب في المستقبل، ولذلك يجب أن نستعد لهذا التغير دون خوف أو تردد أو قلق «أمامنا خمسة أعوام لنجعل من الآلة حليفاً وليس عدواً في المستقبل».
يتمتع هذا الكتاب بخصوصية فريدة واستثنائية؛ ليس فقط لأنه يتطرق لموضوع جديد من نوعه، وإنما لأن مؤلفه له باع في هذا المجال، فهو من مؤسسي «الذكاء الصناعي الطبي»، وانشغل به منذ عام 1987، وله تجارب رائدة في هذا المجال. وهو يحرص منذ مطلع عام 2000 على نقل هذه الخبرات التراكمية لنا عبر الإنترنت، بمعاونة فريق عمله، ليحدث بذلك تطوراً ملموساً في نظام الذكاء الصناعي الطبي المعروف بـ«MEDVIR» الذي يساعد في اتخاذ القرار الأمثل للمرضى، ومن ثم يسهل مهمة عمل الطبيب؛ لكنه، من جانب آخر، يقول لنا إننا سنكون عند مفترق طرق، وعلينا أن نفكر كثيراً بأي طريق تتجه بنا مقاليد الأمور، وعلينا أن نتحلى باليقظة بشأن العواقب والتداعيات غير الإنسانية.
ثم يطرح المؤلف رؤية تحليلية لما سيكون عليه هذا المجال بحلول عام 2030. وهو يرى أن «الذكاء الصناعي الطبي» ممكن أن يكون حليفاً جديداً للطبيب، لما أثبته من نجاحات رائعة وملموسة في عديد من أفرع الطب، مثل القلب والعيون والجلدية وأمراض الأورام السرطانية، إذ يستطيع أن يحدد مراكز ومناطق انتشار البؤر السرطانية، بالإضافة إلى أنه يستطيع أن يشخص تطور الأمراض، ويحدد العلاج المناسب لكل حالة على حدة، ليفتح بذلك الطريق أمام طب أفضل من ناحية الأداء، وأكثر مردوداً.
وهنا يشدد الدكتور لواك إتيان على أن الإنسان الآلي لن يحل مطلقاً محل الأطباء البشريين، وذلك نظراً لضعف مستوى ذكاء الآلات. فعلى الرغم من قدرتها على تحليل الصور الطبية بدقة، والتعامل بسرعة فائقة مع ملايين البيانات، فإنها ليس لديها إدراك لذاتها، ولا لما تفعله، فهي تطبق معلومات وتحدد طرقاً وإجراءات مكتسبة بشكل مجرد.
إذن، يثير الذكاء الصناعي مخاوف مشروعة، ولن يكون بديلاً للعنصر البشري الطبي في عديد من المهام؛ بل سيوفر للطبيب الجهد، والجودة في الأداء، والوقت أيضاً، مما يسمح له بتعزيز علاقته الإنسانية مع مرضاه، والإنصات أكثر لتساؤلاتهم، الأمر الذي يمثل فرصة جيدة للعودة لطب أكثر إنسانية.
وحول مجالات استخدام وتطبيق الذكاء الصناعي الطبي، يشير الكتاب إلى أن هناك عديد من المجالات الطبية التي أثبت الذكاء الصناعي الطبي قدرة جيدة فيها، ومن أهم هذه المجالات سرطان الجلد، إذ يمكن للذكاء الصناعي الطبي تحديد منطقة سرطان الجلد دون خطأ، كما أنه من الآن فصاعداً يمكن الاعتماد على نظام طبي مزود بالذكاء الصناعي، لتحديد ما إذا كان الورم حميداً أم لا.
وفي مجال الأشعة، تبرز أهمية الذكاء الصناعي من خلال استخدام مئات ملايين الصور الرقمية، وكم هائل من المعلومات المعقدة التي بمقدور الذكاء الصناعي الطبي التعرف عليها وتحليلها، عن طريق آلة تسمى «آلة التعلم» التي تسمح بعد ذلك بتحليل الصور وتشخيص المرض، ليكمل بذلك دور الطبيب البشري.
وفي مجال العلاج بالخلايا الجذعية، حقق العلاج بهذه التقنية تقدماً بالغاً خلال السنوات العشر الماضية، لا سيما في مجال السرطان؛ لكن لا تزال هناك عقبة كبيرة في هذا الصدد؛ حيث يستجيب بعض المرضى للعلاج عن طريقها دون البعض الآخر. ولكن بفضل الذكاء الصناعي الطبي في مجال «الجلدية»، تمكن الباحثون في معهد «جيستاف روسي» بفرنسا من التنبؤ بالاستجابة للعلاج من عدمه، مع مراعاة البيئة المناعية لطبيعة الورم.
وفي مجال المساعدة في اختيار العلاج الأمثل المناسب للمريض، يوضح الكتاب أن جهاز «الإنسان الآلي» يقوم بذلك عن طريق ما عليه من كم هائل من المعلومات، مع معرفة دقيقة للتاريخ المرضي للشخص وللعائلة، وعوامل الخطر، وكذلك نتائج الفحوصات الإشعاعية والبيولوجية وبيانات المريض السلوكية، وأيضاً ما يتناوله من أدوية في الوقت الراهن، مع تحديد ما لها من آثار جانبية محتملة، مما يساعد على تحديد العلاج الأفضل والأمثل للحالة المرضية.



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.