في رثاء لينين الرملي ونيل بيرت

فقيدا الثقافة والفن والفكر

لينين الرملي
لينين الرملي
TT

في رثاء لينين الرملي ونيل بيرت

لينين الرملي
لينين الرملي

شهر حزين حصد خلاله الموت روح اثنين من الفنانين ارتبطت بهما منذ أن بدأت أتذوق الفن، ثم الفكر. والغريب أنهما من عالمين مختلفين تماماً، لا يربط بينهما إلا الإبداع المترجم في مشاعر إنسانية عبر المسرح أو الموسيقى أو الكتابة. فالأول كان المؤلف الكاتب المسرحي الكبير «لينين الرملي»، والثاني شخص أراهن أن السواد الأعظم من قراءنا في العالم العربي لا يعرفونه، وهو الموسيقار الكاتب الكندي «نيل بيرت»... يا له من شهر حزين!
لقد كان الراحل لينين الرملي شخصية متميزة بحق، فهو لم يخفِ ميوله اليسارية منذ أن عرفته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو ما أضفى عليه قدراً كبيراً من الثقافة والفكر الذي يميز هذا التيار. فلن يستطيع المرء أن يكون يسارياً حقيقياً إلا بخلفية ثقافية وفلسفية عميقة، ولكن المنحى الإنساني سيطر عليه بعد ذلك، من خلال كتاباته المسرحية التي استمتعنا بها جميعاً في وطننا العربي، مثل: «وجهة نظر» و«تخاريف» و«بالعربي الفصيح»، خاصة الأخيرة التي انتقد فيها واقعنا العربي بشكل كوميدي راقٍ دفع عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية آنذاك، لدعوة وزراء الخارجية العرب لمشاهدتها كنوع من التحفيز لدفع التكامل العربي المشترك. وقد استطاع «الرملي» بأكثر من ستين عملاً أن يضع الابتسامة على وجوهنا، ومعها في الوقت نفسه بذرة الفكر والقيم في عقولنا. وهنا تبرز العبقرية، فالقدرة على الجمع بين هاتين الموهبتين تكون من أعقد ما يمكن.
وأذكر جيداً أن آخر لقاء جمعني به كان في «مقهى ريش» الشهير (وسط القاهرة) في مطلع 2013. وكان يبدو عليه الهم الممزوج بالألم الذي نتج عن انفصاله عن توأمه الفني الفنان «محمد صبحي» قبلها بسنوات. وأذكر جيداً أنه كان متشائماً فيما يخص مستقبل المسرح العربي والمصري، بعد تفشي ظاهرة المسرحيات الهابطة، وإسفافها وفقدانها للقيم الإنسانية، مؤكداً أنها ضلت الهدف والرسالة، بل إنه وصفها بأنها «تسعى جاهدة لانتزاع الابتسامة من المشاهد عنوة لثقل ظل كاتبها أو الممثل، أو من خلال الإيحاءات الإباحية المباشرة أو الرمزية». وكان يقول إن المسرح يحتاج إلى دور قوى للدولة لدعمه وانتشاله من ترنحه، ليعود مرة أخرى إلى رسالته القيمية والفنية معاً.
أما الموسيقار الكاتب «نيل بيرت»، فكان أيقونة حقيقية في عالم الموسيقى الغربية، وكأديب أيضاً، فهو من النماذج النادرة -إن لم تكن المعدومة- لجامع الحسنيين؛ أي الموهبة الموسيقية والموهبة الأدبية، في هذا العالم المختلف عنا بثقافته الموسيقية، فهو في الأصل ضابط إيقاع من طراز فريد، صنف على أنه الأفضل في العالم، فله الموهبة العظيمة في قرع الطبول وآلات النقر. وفي قمة مجده، قرر الرجل الاعتزال المؤقت ليتعلم نوعاً جديداً من الإيقاع على أيدي الموسيقار العبقري الأسمر «بادي ريتشي»، للمزج بين أسلوبي عزف. وعندما سُئل عن أسباب هذه الخطوة، أجاب ببلاغة: «وما الإتقان إلا أن يتقن المرء فن التعلم».
وقد تشابه مع «لينين الرملي»، فاعتنق في السابعة عشرة من عمره مبادئ الاشتراكية، خلال وجوده في لندن واختلاطه بالحركة اليسارية البريطانية. ومع الوقت، ترك الرجل جزءاً كبيراً من فكره اليساري، وتوجه نحو الفكر الإنساني-الليبرالي، وهو ما عكسه بهدوء في كتاباته لأغاني فرقته «راش». ورغم ذلك، استطاع الرجل أن يدفع بالفرقة إلى عالم النغمة والكلمة على حد سواء. ولعل من أعظم ما كتبه «بيرت» كان ألبومه الشهير «صور متحركة» عام 1981. ودائماً ما تحضرني هنا عبقريته في وصف ظاهرة معتنقي التطرف الديني بأنهم «مرتاحو الضمير، متيقنون من سمو حقهم، واثقون من أن طرقهم هي الأفضل... أناس تغذوا على الخوف والتضليل ليضربوا ويحرقوا ويقتلوا... الجهل والتعصب والعنف يمشون متعانقي الأيادي».
وبصفته كاتباً ومثقفاً، أصدر «بيرت» ستة أعمال أدبية، أهمها كان روايته «السائق الشبح: رحلات على طريق الاستشفاء» التي يصف فيها بلغة أدبية مرهفة رحلته بالدراجة البخارية لأربعة عشر شهراً لينسى مأساة وفاة ابنته وزوجته قبلها بأشهر قليلة، ويشرح فيها كيف استطاع التغلب على هذا الألم بشكل عميق، فيأخذ القارئ من التعاطف إلى البكاء عطفاً عليه، ثم السعادة لعبوره هذه المرحلة، في رحلة أدبية رائعة.
وقد كتب «بيرت» ألبوماً للفرقة بعنوان «ملائكة أعمال الساعة» سرعان ما تم تحويله على أيدي الكاتب «كيفين أندرسون» لرواية ممتعة للغاية تحمل الاسم نفسه، وتناقش مفهوم التدرجية المطلوبة في المجتمع، مقابل مخاطر الفوضى، في محاولة فكرية لإيجاد التوازن السياسي والثقافي داخل المجتمعات.
إن موهبة أي شاعر أو كاتب أو موسيقار إنما تتمثل في القدرة الفائقة على تحويل المشاعر المرهفة والأفكار إلى كلمات مؤثرة أو ألحان عميقة تغزو أعماقنا فتصل الرسالة وتثبت. وأياً كانت المسافة أو الثقافة أو اللغة التي فرقت بين «الرملي» و«بيرت»، فإنهما ارتبطا بروابط إنسانية وفنية عدة، ولكن الرباط الأخير بينهما كان رباط الحق علينا جميعاً، وهو الموت. ومع ذلك، فستظل عظمتهما في تركتهما الفنية والفكرية والقيمية التي ورثوها لمستقبلي أعمالهم، فيموت الفنان العبقري ويبقي إرثه لنا وفينا وبيننا.



العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً
TT

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

تلتقط هدى بركات، في روايتها الجديدة «هند أو أجمل امرأة في العالم» الصادرة عن «دار الآداب» لحظة موت الأم. تلك الهنيهة المفصلية القاصمة، التي تنقل المرء من حالة عيشه اللحظوية، إلى مراجعة الذات واستقراء الذاكرة وإعادة ترتيب الماضي، على ضوء الفقد العضوي الباتر. هكذا تترك الروائية لبطلتها المصابة بمرض «الأكروميغاليا»، أو تضخم الأطراف، حرية أن تمضي جيئة وذهاباً على خط الزمن، في محاولة للتصالح مع الذات والذوات الأخرى التي أحاطتها.

حين تموت الأم

ماتت الأم إذن، وها هي هنادي تعود للوطن، وتجد نفسها في تلك الأماكن القديمة التي عرفتها برفقة والدتها، لكنها هذه المرة وحيدة، ومعها زادها الثقيل من الصور والحكايات التي انقضت، وتجربتها القاسية في الغربة، وحاضرها الصعب، وقد تعرضت البلاد لعواصف من الأحداث الأليمة، لعل آخرها انفجار مرفأ بيروت، الذي تبدو آثاره جلية في الرواية، وفي حياة الأهالي.

بالرواية شخصيات عدة: الأم التي رحلت وتركت خلفها علاقتها المتوترة مع هنادي، وهند الشقيقة التي رحلت باكراً، والجيران (أم منصور)، والعمات وعامل الإنترنت أحمد، والحبيب رشيد، وآخرون، يظهرون سريعاً ويغيبون. غير أن القصة تبدو للقارئ وكأنها «مونولوغ» طويل بسبب أن الراوية - هنادي التي على لسانها يدور السرد، وتتفرد وحدها بأن تحكي لنا قصتها، من وجهة نظرها وكما تراها، من زاوية خاصة بسبب المرض النادر الذي تعاني منه وجعل حياتها متفردة أيضاً. فهو ينتج عن اضطراب هرموني لا يجعل الشكل مشوهاً والرأس متضخماً، والجسد متعملقاً، والشعر كالإبر، فحسب، بل يتطور بمرور الوقت ويتسبب بإعاقات، وعلل تودي بصاحبها، أو في أحسن الأحوال تتسبب بتدهور صحته.

حال هنادي نعيشه معها وهو يتردى مع تقدم العمر، ويسهم أيضاً في تأجيج الذاكرة، وتفتيق الجراح. المشكلة تبدأ باكراً، حين تلحظ الأم المفتونة بالجمال أن هنادي التي أرادتها بدلاً عن ابنتها الفقيدة هند بجمالها الأخاذ، لن تكون كما تمنتها، بل ستجلب لها شفقة الآخرين ونظراتهم المواربة، عندما تبدأ تفقد حسنها، وتظهر عليها آثار المرض. «بدأت عظام رأسي تكبر على غير اتساق. ذقني يبرز بقوة» تقول هنادي: «وفكاي صارا كفكي رجل تجاوز المراهقة، مباعداً بين أسناني. عظام الحاجبين انتفخت كما عند القردة، وتكورت جبهتي وتحززت كطابة مبعوجة، وفقد صوتي نعومة صوت البنات».

لم تستسغ الأم الأمر ولم تتقبله، لذلك تحجب هنادي عن أعين الناس، تضعها في العلّية، تخبئها هناك، تناولها الأكل، وما يلزم، وربما غابت عن البيت لوقت، ونسيتها. بينما تقضي هي وقتها بقراءة تلك المجلات والكتب التي تركها والدها قبل أن يغيب. وحين يسأل عنها أحد من المعارف، تقول الأم عنها، إنها سافرت عند عمتها.

تحاول هنادي أن تجد المبررات لجفاء والدتها: «حرام أمي حبيبتي. مسكينة. كان ذلك فوق طاقتها. كانت تتعذب أكثر مني من بلوتي». لقد أصيبت الأم بصدمة من مرض ابنتها؛ وباتت تختفي وتنام في غرفتها بالساعات، تخرج من البيت ولا تعود، تستفيق في الليل وتبحلق بعينين مشدوهتين، كمن يستيقظ من كابوس.

البحث عن الذات

لا إحساس من هنادي بالضيم، إذن، بقدر ما هي الرغبة في الانفصال عن الأم، لكن عمتها التي لجأت إليها ترسلها بهدف العلاج، عند عمة أخرى في باريس، لن تعثر عليها أبداً. في المقابل، تقع هنادي في مطبات وتتعرف على شخصيات لكل منها سمتها، هناك غلوريا الراقصة النيجيرية التي تحنو عليها، وفرنسوا الذي يتبين لها بعد ذلك أنه رشيد، الجزائري الأصل، المبتور الذراع، صاحب الماضي الغامض، تربطها به صلة حب لم تكتمل، وسرعان ما يرجع إلى حياة التشرد والمخدرات. هذا ما سيقودها إلى رجعة باتجاه الوطن.

قليلاً ما انشغلت الروايات العربية بالعلاقة بين الأهل وأولادهم الذين يعانون من عاهات، وصلات تشوبها الكثير من التعقيدات، قد تتراوح بين الحب الجارف النابع من الشفقة، والنفور المتأتي من رفض القبول بواقع قاسٍ له تبعات ممتدة في الزمن. لكن هنادي، لا تحقد ولا تكره، بقدر ما تبحث عن نوافذ حب لتريح نفسها. «وأنا في بحثي الدائم بل المحموم عن أصول الحب وأغراضه، وخاصة حب الأم، أي حب أمي لي، كنت أحفر في كامل كياني كل معلومة أقرأها أينما وجدت». استشعرت هذا الحب مثلاً، حين أصيبت بالجدري، رأت لهفة أمها عليها. فحب الأم حقيقة لا شك فيها، إلا في بعض حالات الخلل الهرموني الشاذة. هذا كله لترتاح وتقول إن الأمر قدري، ولا مسؤولية لأحد: «أنا ملكة الهواجس... ملكة الحظ السيئ».

هنادي شخصية أقرب إلى اللطف والدعة، والأم تبدو وكأنها تمتلك الشيء وضده، لها سمات متناقضة، مما يصعّب على الابنة العائدة، بناء شخصيتها من جديد، تحاول كي تحرر نفسها من عبء العلاقة المتوترة مع الأم أن تجد لها مبررات لسوء مزاجها: «ربما صارت أمي قاسية ومنعزلة ولئيمة، أنا أيضاً قد أصبح كذلك، حين يشتد علي الألم. تصبح رؤية الناس أو سماع أصواتهم عذاباً خالصاً».

مناجاة الكائنات

وفيما يشبه الهروب أو مؤانسة الذات تلجأ هنادي إلى مصاحبة الشجر والنبات، والقطة زكية، التي ترافقها في يومياتها، والكلب رامبو، وشجرة التين الموجودة في الشرفة، وشجرة الصفصاف. تقضي وقتاً مع رشيد، وآخر مع الميكانيكي نبيل ونكتشف جانباً من شخصية هنادي وهي تتعرف على عالم جديد، عبر الإنترنت بمعونة أحمد العامل الباكستاني قرب منزلها. لكن الكاتبة تبقي كل هذه الشخصيات في خدمة الكشف عن أبعاد شخصية هنادي، وتلك العلاقة الملتبسة مع أمها، وكأنما هي حكاية نسائية أكثر من أي شيء آخر. ونساء لهن تجربة خاصة، لسن كبقية النساء. فالعلاقة بين الأم وشقيقها، بقيت متشنجة، ومع والدها لم تكن سهلة. هنادي هي الأخرى، كان حظها مع الرجال يتحرك صعوداً ونزولاً، لتنتهي في عزلتها.

هي أيضاً رحلة بحث الابنة الغائبة التي تشعر بالندم على ما فات. هربت لتريح والدتها منها. «هربي كان صفقة لصالحنا نحن الاثنتان... لكنها قد تكون تغيرت وندمت وحين ندمت لم يعد بمقدورها أن تجدني، وأن تعتذر مني».

تتحرى حقيقة شخصية الأم من رائحة الشراشف والنبش في الأغراض، ورق مخبأ، «لماذا احتفظت أمي بمزقة الجريدة هذه وقد طوتها بعناية؟ هل تكون نسيتها أو أضاعتها بين غيرها من الأوراق وتاهت عنها تماماً؟».

إيقاع هادئ

النص يسير وفق إيقاع هادئ، وبطيء، يواكب حركة هنادي التي تفتقد للحيوية بسبب المرض، إلى أن نكتشف في النهاية سرّ والدها، وقصته المثيرة، التي خبأتها الأم عنها. وهو ما يربط النص قليلاً بما نشهد من أحداث حالية. حيث إن الأب ذهب إلى إسرائيل مع العملاء الذين هربوا بعد حرب التحرير عام 2000 لا لأنه عميل بل اعتقد أنها وسيلة للهروب من وجه العدالة بعد ارتكاب جريمة بطريق الخطأ ومطاردته بهدف الثأر. ظن أن العودة إلى الوطن ستكون متاحة لاحقاً، لكنه بقي هناك، وفي إسرائيل صارت له حياة أخرى، نكتشفها في نهاية الرواية.

صحيح أن تيمة الحرب ليست في مركز القصة، لكنها مبثوثة فيها، هي في الخلفية من خلال غياب الأب وانكفائه عن الصورة، ثم حين يشكل المفاجأة بنهايته غير المتوقعة، ونكتشف أسراره الصادمة. الحرب حاضرة في التفاصيل اليومية، في تعامل الناس مع بعضهم، في انقطاع الماء، في غياب الكهرباء، وأزمات العيش.

رواية تأملية، هادئة، مشغولة بالحفر الداخلي الباطني، أكثر من عنايتها بالصخب الخارج والإيقاع الحياتي للبطلة. وهي مواكبة حميمة لامرأة مريضة، تكافح وحيدة، دون تبرّم كي تصل إلى نهايتها بسلام.