شعرية الصرخة والتفاصيل

عبد الرحمن مقلد في ديوانه «عواء مصحح اللغة»

شعرية الصرخة والتفاصيل
TT

شعرية الصرخة والتفاصيل

شعرية الصرخة والتفاصيل

يبدو ديوان «عواء مصحح اللغة» للشاعر عبد الرحمن مقلد، الصادر حديثاً عن «دار الربيع»، وكأنه مظاهرة احتجاج ضد أخطاء البشر، في عالم لا يكف عن صناعة الكوارث والمآسي، وافتعال الصخب والضجيج، حتى لم يعد العواء صرخة الذئب تحت وطأة الشعور بالجوع، بل أصبح صرخة الذات الشاعرة ضد العبث والفوضى والجنون وانتهاك حرية الإنسان. تطل الصرخة برمزيتها ودلالاتها في معظم قصائد الديوان، وتشتبك مع الأمكنة والأزمنة والشخوص الذين تتقاطع معهم، وتحيل إلى عوالمهم على سبيل التناص الصريح، والمضمر أحياناً، فهناك الشعراء: رامبو وبودلير وييسوا، ومن التراث الشعبي سيف بن ذي يزن، يحضرون كإشارات خاطفة في طوايا القصائد. ويهدي الشاعر إحدى القصائد إلى الفنان التشكيلي الليبي الراحل على الوكواك، المعروف بنحات الثورة الليبية، بينما يتصدر دون كيخوته المشهد عبر نصين طويلين نسبياً، يفيضان بالسخرية من العالم المليء بالأشرار واللصوص، كما يحضر في قصيدة مواساة لعازف الكمان الإيراني الشهير ناصر علي الذي عاش أواخر أيامه مجروحاً بالحب والموسيقي، بعد أن كسرت زوجته كمانه، وهو ما جسده الفيلم الفرنسي «عشاء بالخوخ».
تنفتح هذه التناصات على فضاء الديوان بروح من التراجيديا والكوميديا والمحاكاة الساخرة، ما يخف من وطأة الدوران في فلك كتابة التفعيلة بنسقها العروضي الغالب على جل قصائد الديوان البالغ نحو 106 صفحات، حيث تحد أحياناً من نمو الصورة الشعرية، وتسيج أفقها الدلالي، ومن ثم لا يصبح شرط الكتابة هنا هو سلامة البنية العروضية فحسب، وإنما مدى سلاسة الصورة الشعرية، ونموها بتلقائية وعفوية، حتى تبدو التفعيلة بإيقاعها المتراوح مجرد سياج شفيف ينداح في خلفية الصورة، بعلاقتها اللغوية القادرة على التقاط الشعر من حفر الحياة وعثراتها المباغتة التي لا تنتهي، لنصبح إزاء رؤية شعرية متنوعة النغمات، وهو ما ينجح الديوان في تحقيقه في كثير من القصائد.
ويمهد الشاعر لصرخته الاحتجاجية باللعب شعرياً مع ابنته «ماريا» عبر ثلاث قصائد، تبدو فيها الطفولة وكأنها مفتاح لحياة أخرى مفعمة بالمرح والمزاح والحيوية، بعيداً عن خواء العالم، حتى أنه يتمنى أن تصبح الابنة رئيسة الكون:
«ماذا لو أعطيتِ الجندَ بنادقَ من خرزٍ
وتبادلنا اللهوَ الكونيَ
هنا في الغرفة
وأدرنا المعركة
قذفنا نحو الأعداء قنابلَ من عَلكٍ
ورصاصاتٍ من ماء
ودفعنا (البطة) في الصفّ الأوّل
وتساقط سربُ الطائرات الورقيّة
ماذا لو طاوعنا الأعداء
وخروا صرعى
وأعادوا الكرّة وسقطنا
نحتبس الأنفاسَ
ونضحك بهدوء
كي يحتفلوا بالنصر
وينكسر الحزنُ الدائم في قلب أبيكِ
لو أصبحت رئيسة هذا الكون
وناديتِ الشعراءَ من الشباك».
يمتد هذه اللعب إلى قلب الذات الشعرية، مشكلاً رنيناً خاصاً من الصراخ المكتوم والعواء الهش، وينفتح الديوان على هموم وحيوات مغموسة في إيقاع الواقع وتناقضات العيش على حوافه البائسة الخطرة، ولا شيء سوى مرآة اللغة يمكن أن يشكل جسراً للوصل والقطع بين ما مضي وما هو كائن وما ينبغي أن يكون، لكن اللغة لا تحيا في مخزن القواميس والمعاجم، بعيداً عن تحولات الحياة ووتيرتها المتقلّبة المرعبة التي تمنح المشهد والمرآة أكثر من زاوية للسقوط والصعود معاً:
«كان اللصُّ على الشباك
يراقبُ...
كان الخنجرُ فوق الرقبة
كنت أجنُّ وأعوي
وأنا أبصر ما يتطاير من أشلاء
والدبابة تنهش جسد المار
وكنت أرتب للتنوين الدورَ الأمثلَ
كنت أزيل النونَ وأضع النقطة».
تعزز هذه المشهدية من بلاغة المفارقة الساخرة في الديوان، التي تعد حجر أساس لأفق الرؤية والمضمون معاً، ولا تخلو من كونها لعبة لغوية ماهرة، يتبادل فيها الأقنعة والأدوار صانع المفارقة الشاعر نفسه والقارئ. لكن من الأشياء اللافتة في الديوان أن النص الشعري لا يحيل إلى المفارقة لتوكيد المعنى أو الدلالة أو الرمز حتى تستقر في النص، وإنما لتوكيد المعنى الضد للمفارقة نفسها، بحيث يصبح النص مفتوحاً على احتمالات شتي، قادراً على استثارة القارئ ليصنع هو مفارقته مع النص، ولو بضحكة أو صرخة يتكسر صداها في الحلق والروح. تطالعنا هذه الأجواء على نحو خاص في عدد من قصائد الديوان، وتأخذ طابعاً مرحاً إلى حد الأسى، ومنها قصائد: «وهو يغازل موظفات البن»، و«صلاة إلى (Atm)»، و«صراخ الرجل ونباح الكلب - معركة المستشفى العام» التي يقول فيها:
«قالوا في أوراق الشرطة
إن الرجل ذا القدم (الورمة)
والكلب (الجربان)
اقتحما غرفة مسؤول الكشف الدوري.
وقالوا: إن الرجل أقام على الكرسي
ومزق أذونات الصرفِ
وألقى رأس طبيب الباطنة بكوب الشاي الساخن
والكلب عوى، عضّ ممرضة
وأصيبت مسؤولة صرف دواء السُّكر بالإغماء
بروح الحكاية يحتفي الديوان بالتفاصيل اليومية البسيطة، محولاً واقعيتها المألوفة إلى رذاذ من التهكم والسخرية. فعبر التفاصيل ثمة أصابع خفية تلعب في المشهد، تكمن في بداهتها أسئلة حارقة، يتقاطع في ظلالها المصير الإنساني الباحث عن الحقيقة والحرية والأمان. أيضاً يتقاطع الشعري مع العادي العابر، وتبدو مهمة الشاعر هي انتزاع الصور وتطويعها لتترك صداها في الداخل والخارج معاً، مدركاً أن ممازحته لماكينة صرف العملة وموظفات البنك لا تنفصل عن استدعائه شخصية دون كيخوته بحمولاتها الأسطورية التي تصنع من عبث الحياة كينونة خاصة لصراع أبدي مع الزمن، مع الخير والشر، مع الجمال والقبح، مع الكراهية والحلم بواقع أفضل للإنسان وللحياة معاً. ربما لذلك تتحول الصرخة في الديوان من مجرد علامة رخوة، وزفرة ألم، إلى سؤال دائم لاهث، مسكون بالفلسفة والتأمل في معنى الوجود والعدم، ومسكون في الوقت نفسه بمعنى التضحية والخلاص في «الجنود - نشيد بديل»، ومعنى الونس والمحبة في كنف البيت والعائلة، بخاصة في قصائد: «العمة تزورني في الليل»، و«إلى العائلة»، و«مواساة العازف الإيراني» التي يقول فيها:
«في الغرفة...
و(دون كيخوته) رفيقي
أسألهُ
هل ينجو صاحبنا الموسيقي
الملقى فوق سريري
والراكضِ خلف كمانٍ مسلوبِ الصوت
ومحطوم الجسدِ؟».
إن هذا السؤال المسكون بفكرة مواجهة الموت بالموسيقى ليس بعيداً عن الرجاء المخاتل على لسان مصحح اللغة في ختام الديوان وهو يتساءل باستنكار يصل إلى حد الشعور بالتواطؤ ضد نفسه، وكأن ثمة مناخاً لجريمة ما تتسرب روائحها في النص: «أنا مصحح اللغة الذي طالما ابتلعَ لسانه وغطى فمَهُ| حري به أن يدفع الأبوابَ المغلقة| يدفعها بكل أنفة وبذاءة| طالما حلمت أنا ابن الحقول المتسعة».
ثمة أسئلة كثيرة تظل حيرى معلقة في الديوان، لكن ليس مهمة الشاعر أن يجعل قصائده تستنطقها، أو يراهن على الواقع، معتبراً أن علاقته بالنص تحتم عليه وضع تصور لإجابة عنها، إنما المهم أن يحقق النص من خلال هذه الأسئلة المقدرة على الحلم، واتصاله بذاته وتجربته عبر تخومه التي لا تنتهي فيها الأسئلة. لقد نجح الديوان في هذا المسعى إلى حد كبير، رغم ما شابه أحياناً من اجترار جعل الصورة الشعرية المنتزعة مشدودة إلى الواقع بفجاجته، تراهن عليه على حساب الشعر.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.