الحداثة... سحر المفردة وغياب النص

ازددنا تمسكاً بها لأنها غامضة وغير مفهومة مما يعني أنها مغرية

فوزي كريم
فوزي كريم
TT

الحداثة... سحر المفردة وغياب النص

فوزي كريم
فوزي كريم

لا أظن أنَّ مفردة تحمل إغراءً وإشعاعاً قوياً أكثر من مفردة «الحداثة» في حقل الأدب والثقافة بشكل عام، فلا يوجد جرسٌ أجمل من جرسها، وهو جرسٌ معنوي أكثر منه محسوساً، لأنَّ غالبية الكتاب والشعراء يتصورون أنَّهم القابضون على هذه المفردة، ومن سيقبض عليها، فإنَّه -بالتالي- ستكون بين يديه مفاتيح الحياة الإبداعية. وهكذا، منذ فتحنا أعيننا على الحياة الثقافية، وعلى الوسط الشعري تحديداً، ونحن في بالنا شيءٌ واحد، وهو مفردة «الحداثة» طبعاً، دون أنْ نقرأ عنها شيئاً، ولا نفهمها دائماً، بل كلَّما قرأنا عنها ازددنا غموضاً، وفي الوقت نفسه ازددنا تمسكاً بها، لأنَّها غامضة وغير مفهومة، مما يعني أنَّها مغرية وساحرة، لذا يجب التشبث بها، لأنَّها قاربُ عبورنا بحر الأدب والشعر.
كل هذا ونحن لا نعرف معناها بالتحديد، ما عدا أشياء بسيطة كنَّا نتصورها في وجوه بعض الرواد، وبعض روَّاد المقاهي الثقافية أيَّام التسعينات، ولكننا كنَّا في وسط المعمعة التي تتصارع حول هذا المصطلح، وكأنَّ «الحداثة» بئر ماء يتقاتل حوله العطاشى، بحيث يحاول كل طرف أنْ يطرد الطرف الآخر بعيداً عن ذلك البئر، ويمنع روَّاده من شرب أي قطرة ماء، أو غسل اليدين منه.
فما الحداثة؟ وما حدودها؟ وكيف يمكن أنْ نقبض على مواصفاتها؟ ومن الشاعر الحداثي؟ هل هو النص أم الناص أم المجتمع؟ هل الحداثة مرتبطة بالزمن أم أنَّها سائلة لا زمان لها ولا مكان؟ هل أبو نواس حداثي فيما شاعر معاصر مثل محمد بحر العلوم -على سبيل المثال- تقليدي؟ هل الحداثة مدرسة أدبية أو مذهب أدبي يُشبه الرومانسية أو الواقعية أم هي حالة وسلوك حياتي؟ وهل تنمو الحداثة في النظم الديكتاتورية؟ ومن يسقي شجرتها التي لا تتنفس إلا هواءَ الحرية؟ هل الحداثة هي القطيعة التامة مع الماضي أم هي استئناف اللحظة التاريخية والبناء فوقها؟ وهل للحداثة علاقة بالإبداع أم أن الإبداع شيءٌ والحداثة شيءٌ آخر، وبهذا يمكننا أنْ نجد نصوصاً حداثية ولكنها غير مثيرة ولا مبدعة؟ وهل الحداثة مرتبطة بالشكل أم بالجوهر؟ وهل المجتمع المتدين أو القروي أو العشائري يمكن أنْ يُنتج نصاً حداثياً؟ وهل نحن العرب قضمنا نبتة الحداثة التي سقتها الحريات الغربية حين عزلت الدين عن الدولة وبنت مجتمعها المدني أم أنَّها حاجة عربية ضرورية أنتجها مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود التيارات القومية، وبداية تشكل الأحزاب؟
أسئلة كثيرة وقائمة طويلة تدور في فلك هذه المفردة الساحرة، لكننا لم نكن نسألها سابقاً، إنَّما طرحناها الآن، فلو كنَّا نعرف طرح مثل هذه الأسئلة في ذلك الوقت، لما تقاتلنا على مشروع لا نعرف منه إلا اسمه، وليس لنا من حظه إلا رسمه من بعيد، كلنا يحلم أنْ يتبرك بحائط الحداثة، وأنْ تحتَّك قصيدته بذلك الحائط، لتخرج بيضاء للمتلقين دون أنْ نعرف كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟
وحين أعود إلى أكثر من عشرين عاماً، إلى تلك اللحظة التي كنَّا نتصوَّر أنَّنا نتاج الحداثة، وأنَّنا نُنتج نصاً حداثياً دون غيرنا، وأصدرنا بياناتٍ شعرية بهذا الاتجاه، دون أنْ نُحيط علماً -كما ذكرتُ- بمفهوم الحداثة وجوهرها. فشعراء قصيدة النثر ينظرون إلى الشكل الشعري بوصفه الشكل الأحدث في الأنواع الشعرية، مما يقتضي أنَّه الإطار الأكثر استيعاباً لجدل الحداثة، وأنَّه النص المُختار دون بقية الأشكال الشعرية، النص الذي اختارته الحداثة ليكون ابنها البار، فيما يرى شعراء الإيقاع أنَّهم الأكثر التصاقاً بالحداثة، بوصف الإيقاع نهراً يتدفق فيه الخيال، مما يساعدهم على استجلاب أغرب الصور السوريالية والفنتازية، وما صراعنا نحن أبناء الجيل التسعيني إلا محاولة لعكس صراعات الأجيال الشعرية العراقية، وبالتحديد صراعات الجيل الستيني مع سابقيه من الرواد، ولاحقيه من بقية الأجيال، وطبعاً محور كل تلك الصراعات هو من سيجلس على كرسي الحداثة ليُنهي ويأمر، فيما أنَّ الحداثة أبعد ما تكون عن النهي والأمر، ولكن بقي الشعراء يتطاحنون على هذا الكرسي دون أنْ يخرج صوتٌ نقدي واضحٌ يُفهمهم ما الحداثة، وهل هم من سلالتها أم لا.
لهذا، حين نستحضر لحظة أواسط التسعينات من القرن الماضي، لحظة احتدام الصراع على كرسي الحداثة، فيما كنَّا نبيع كراسي بيوتنا في الأسواق الشعبية لتأمين بضعة كيلوغرامات من الطحين لسد أفواهنا من الجوع، أفواهنا التي لا تسكت وهي تثرثر في الحداثة، وكنَّا نكتب نصوصاً تتجول حول العالم، فيما كنَّا محرومين من السفر لأي بلدٍ، ولا ندخل البلدان إلا لاجئين أو هاربين من النظام، ومن الحصار، ومن كل شيء، نكتب عن انتصار الذات في القصيدة، فيما تعاني ذواتنا في الواقع أشدَّ أنواع القمع والاغتراب، نكتب ما كنَّا نتصوره حداثة في نصوصنا، طارحين وجهة نظرنا بالعالم كله، فيما كانت القرية متحكمة بسلوكنا وتصرفاتنا، نكتب عن النساء والحب، ونطالب بحرية المرأة، فيما كنَّا نغلف نساءنا بكل أستار العالم خوفاً من عيون الغرباء.
نردد بسرِّنا ما يقوله أدونيس:
عشْ ألقاً
وابتكرْ قصيدة وامضِ
زدْ سعة الأرض
بينما سلوكنا الطبيعي كان مع «دريد بن الصمة» وهو يردد:
وما أنا إلا من غزية إنْ غوت
غويتُ وإنْ ترشد غزية أرشدِ
نتحدث في الحداثة في زمن تخيّم عليه الديكتاتورية، وتطبق بفكيها على كل الحريات، بينما العالم لا يؤمن بحداثة في ظلِّ عدم التداول السلمي للسلطة، نؤمن بالحداثة ونثرثر بها كثيراً، وربما حتى هذه اللحظة لم يتغير كثير من سلوكيات بعضنا، رغم الانفتاح والكتابة على الحائط الافتراضي لهذا العالم، إلا أننا نقضم الحداثة قضماً، دون أنْ تتسلل لنا مع طفولتنا، لهذا نجد صراعات القرية متفشية فوق حائط «فيسبوك» أو «تويتر»، ونجد الصراعات الطائفية مبثوثة في أحدث الاكتشافات التقنية في هذا العالم، بل إنَّ القوى المتطرفة، أمثال «داعش» وغيرها، استثمرت السوشيال ميديا استثماراً كبيراً، لتبثَّ من خلاله الرعب والخوف، فأي تناقض يمارس ضمن هذا الفهم والوعي للحداثة أمام السلوك غير الحداثي؟!
إنَّ هذا القلق أمام فكرة الحداثة ليس قلقاً جديداً، فقد سماها الشاعر الكاتب العراقي فوزي كريم في كتابه الشهير «ثياب الإمبراطور» بالوصفة السحرية، متحدثاً عن الشعر العربي الذي يدَّعي الحداثة (فإن كثيراً من شعرنا العربي الذي نطالعه اليوم قد أخذ صبغة من تلك الكلمة السحرية بفعل كيميائي صبغة حديثة تشبه حداثة الغرب، أما جوهرها فمنتشٍ بروح الصنعة واللعب اللفظي والمهارة الذهنية). كما تساءل الناقد السعودي عبد الله الغذَّامي أيضاً في كتابه المهم «النقد الثقافي»، وفي أسطره الأولى أيضاً، حيث قال: «هل الحداثة العربية حداثة رجعية؟ (...) هل هناك أنساق ثقافية تسربت من الشعر وبالشعر لتؤسس لسلوك غير إنساني وغير ديمقراطي؟). وهنا، نعود إلى الأسئلة أيضاً: كيف يمكن أنْ نعرف أن هذا النص حداثي دون غيره؟ وكيف نحكم على الشاعر بأنَّه حداثي؟ وهل إطلاق صفة حداثي على الشاعر هو حكم معياري بجودة نصه أم أنَّه توصيف لنمط شعري يكتنف نصَّه، مثلما نقول هذا شاعر كلاسيكي أو رومانسي أو واقعي؟
الأمر ملتبسٌ إلى حد كبير -كما أتصور- ولا توجد حدود واضحة لكل الأسئلة التي تراودنا حول مشروع الحداثة الذي يغرينا فيه خط النهاية، فنسرع خطواتنا لنصل، لكن موانع المجتمع وما حوله دائماً تُطيل المسافة، فنبقى نكتب ونكتب ونكتب حتى نصل إلى مرحلة التضخم، وهنا تلتقي قصائدنا ولغتها المتضخمة مع العملة النقدية التي تواجه التضخم، فتضطر أنْ تحمل معك المئات من الأوراق النقدية لتشتري بها سلعة بسيطة جداً، وهذا ما حصل معنا أيام الحصار. وهنا، تذكرتُ ما كتبه فلوريان كولماس في كتابه العظيم «اللغة والاقتصاد»، حين قال: «إنَّ الكلمات تُسكُّ كما تُسكُّ العملات، وتظل متداولة ما دامت سارية المفعول فهي (أي الكلمات) عملة التفكير، ونحن نملك منها أرصدة سائلة، بقدر ما نمتلك ناصية لغة معينة. وعندما نتفاهم مع أحد، فإننا نتفق على ثمن يجب دفعه، وعندما لا نكون مخلصين، فإننا لا ندفع إلا كلاماً زائفاً».

- شاعر وكاتب من العراق



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.