كتابة المذكرات... السيرة وأدب السيرة الذاتية

الكتابة فيها تستلزم البوح الصريح وتجاوز الرقابة والتابوهات

طه حسين  -  لويس عوض  -  جبرا إبراهيم جبرا  -  محمد مهدي الجواهري
طه حسين - لويس عوض - جبرا إبراهيم جبرا - محمد مهدي الجواهري
TT

كتابة المذكرات... السيرة وأدب السيرة الذاتية

طه حسين  -  لويس عوض  -  جبرا إبراهيم جبرا  -  محمد مهدي الجواهري
طه حسين - لويس عوض - جبرا إبراهيم جبرا - محمد مهدي الجواهري

رغم انعدام أو ندرة مؤلفات السيرة والمذكرات والاعترافات في الأدب العراقي، والعربي عموماً، لكن ذلك لا يعني خلو أدبنا من هذا الشكل من الكتابة تماماً، فهناك من المذكرات واليوميات والسِيًر أعمال ليست بالقليلة صدرت في الأدب العربي، ومن أهمها «الأيام» لطه حسين، والسيرة الذاتية لجبرا إبراهيم جبرا في كتابيه «البئر الأولى» و«شارع الأميرات»، وعراقياً نستطيع أن نؤشر بعض من كتابات عبد الستار ناصر مثل الطاطران، و«اعترافات مالك بن الريب» للشاعر يوسف الصائغ، وآخر ما صدر «أمواج... سيرة عراقية» للناقد عبد الله إبراهيم.
ولعل أسباباً كثيرة تقف وراء انعدام أو قلة هذا النوع من الأدب، منها افتقار تراثنا لهذا النوع من الكتابة، أو بسبب الواقع الاجتماعي الذي يحول دون ازدهارها بسبب طبيعة هذه الكتابة التي تستلزم البوح الصريح إلى حد كبير، وتجاوز الكثير من التابوهات.
هنا وجهات نظر عدد من الأدباء العراقيين حول هذا الموضوع:
- عبد الله صخي: لم أكتب السيرة في ثلاثيتي
أحسب أن هناك فرقاً بين المذكرات والسيرة الذاتية. فالمذكرات غالباً ما تتناول علاقة كاتبها بزمنه وتجربته الفكرية والسياسية دون أن تمس الجوهر الشخصي. ولدينا الكثير من المذكرات عند طه حسين، ولويس عوض، وعمرو موسى، والجواهري، ومحمد نجيب. هذا النتاج ليس بالضرورة أن يكون أدباً إنما هو سجل حافل بالتجارب السياسية والفكرية والحياتية. أما أدب السيرة الذاتية، فهو نتاج كاتب محترف كرس حياته للفن أو الرواية أو الشعر، وهو نادر في العالم العربي بسبب التابوهات التي يضعها المجتمع أو الرقابة الحكومية. الكاتب العربي مقموع خائف من نفسه ومن السلطة والمجتمع فلا يجرؤ على الإعلان عن الوقائع الخاصة التي شكّلت تجربته منذ الطفولة، ولا على المنعطفات المهمة التي عصفت بجانب من تلك التجربة وغيّرت مسارها.
لذلك؛ فوجئنا بكتاب المغربي محمد شكري «الخبز الحافي» الذي أدهشنا بشجاعته في مواجهة نفسه ومجتمعه، وعرض لنا وقائع لم يجرؤ كاتب عربي قبله على عرضها وكشفها. لذلك؛ يمكننا أن نضع ما كتبه شكري تحت بند السيرة الذاتية، وأظنه كان صادقاً إلى حد كبير (غالباً ما تنتابني الشكوك حول صدقية هذا النوع من الكتابة). وهذه إحدى أهم مميزات السيرة الذاتية التي افتقدها يوسف الصائغ في كتابه «الاعتراف الأخير لمالك بن الريب» لظني أنه افتقر إلى نقل الحقائق التي يعرفها المقربون منه، خاصة فترة اعتقاله عقب انقلاب الثامن من فبراير (شباط) عام 1963 التي مر عليها مروراً سريعاً حتى كادت تسقط من الكتاب. فيما يتعلق بثلاثيتي الروائية «خلف السدة، دروب الفقدان، اللاجئ العراقي» فلم أكتب سيرة ذاتية، بل حاولت أن أسجل سيرة جيلي الذي نشأ في ظل المنعطفات السياسية الكبرى. لكني أعتقد أن أي رواية تتضمن شيئاً ما من سيرة كاتبها حتى دون أن يقصد ذلك.
- لطفية الدليمي: كتب السيرة العربية منمقة
في أغلب كتب السيرة العربية نعثر على قوائم وتواريخ تحيل السيرة إلى سجل حكومي وتاريخي للأحداث دون أن يتعمق كاتب السيرة إلى جوانب تحليلية للحدث أو يقدم تفسيراته الذاتية وموقفه مما يجري فتغدو السيرة أقرب إلى تقرير وظيفي عن حياة خارجية ممتدة أفقياً دون غوص في عمق نفسي أو مجتمعي، ويغلب الوصف السطحي والإطراء المجاني على الأفق الشخصي والقناعات الفكرية والهواجس والمخاوف وكأننا إزاء تقرير إخباري عن شخصية أخرى غير الكاتب الذي نتوق لمعرفة مواقفه ومكابداته الروحية والفكرية. ونجد كتب السيرة العربية منمقة إلى أبعد الحدود ومشذبة مثل حديقة هندسية استخدم فيها المزارع مبيدات أخلاقية قضت على العفوية والتلقائية وتغافلت عن عمر التفتح والشهوات والخبرات الروحية والجسدية الأولى، ونعثر في كتب السيرة الغربية على ما يشبه غابة طبيعية فيها الضوء والظل، والأفاعي والقنافذ، والينابيع ومواسم التزاوج، والجنس والأهواء الإنسانية، والنزوات والتكاثر، ومواجهة المخاطر، بينما يكتب العربي سيرته وكأنه يتعاطى مع ملاك بريء من كل إثم وخطيئة.
- ناجح المعموري: المذكرات مرآة عاكسة
غابت الكشوف السردية - المذكرات - السير الذاتية حتى كادت تختفي؛ لأنها الطاقة الجبارة الطاردة للمتوارث بأوهامه. ولا بد من انتباه السارد لهذا المجال الفني الجوهري؛ لأنه قادر على مواجهة السلطة ومروياتها وملاحقتها. وللسرد الكاشف عن تفاصيل الحياة اليومية – بما فيها علاقته المتصادمة مع السلطة وثقافة المقدس – تأثيرات كبرى على الأفراد والجماعات، خصوصاً النماذج الأدبية البارزة والتي تتمتع بحضور واسع وعميق.
السؤال فيه طاقة تتسع، وتنفتح لأنه مقترن بالسرد - الحكي والحياة العامة للناس هي مرويات - الذاكرة. والمذكرات الشخصية تتحول بالتدريج إلى جزء حي من الأرشيف الاجتماعي والوطني، ويمثل هذا بعداً ذاتياً ومكوناً للهوية الذاتية والكائن بالضرورة يشكل ذاتاً والسير والمذكرات مرآة عاكسة عن جدل اجتما - سياسي من الخريف العربي ازداد تخلفاً وضغط على توسيع منافذ المضادات - الكراهيات ومطاردة المغاير وتدميره، وأعتقد أن الأصولية الإسلامية كرست مهيمنات السلطة، مع ذلك خضعت العلاقات المتبادلة بين الجماعات المضادة إلى تمظهرات عالية التجوهر وقادت انتفاضات جبارة، هذه المرويات تحتاج إلى أرشفة من خلال المذكرات وسرديات معبرة عن الذات الفرديوة أو الجماعية. وعلينا أن ننتبه إلى أهمية هذا النمط السيري – المذكرات - المرويات - والذي سيلعب دوراً كاشفاً عن حضور مركزي، يوفر للهوية طاقة تمنح حيوية للجسد المقاوم للسلطة.
المرويات عناصر فاعلة، وأنا أعتقد بأن ما حصل في السنوات الأخيرة في مصر، والجزائر، والسودان، وتونس، والعراق، وإيران، ولبنان، هي خزانات كبرى لذاكرات تغذي بعضها بعضاً، وتمنحها صلاحية الحداثة، وتضع العنف السائد مكشوفاً وواضحاً من أجل التحرك للأمام.
- علي حسن الفواز: محاولة في مواجهة التابو
قد يبدو الحديث عن غياب نص السيرة حديثاً عن غياب الاعتراف، وعن علاقة هذا الاعتراف بالذات؛ إذ سيبدو فعل الاعتراف محاولة في مواجهة التابو، أو مواجهة المركز بوصفه سلطة أو هيمنة.
فمن الصعب عزل سؤال هذا الاعتراف عن الواقع، أو حتى وضعه داخل توريات اللغة، تخفّياً، أو تكتماً؛ إذ سيتحول عندئذ هذا السؤال إلى محاولة تبرير الحديث في الإشهار، وفي الفضح، وهو ما يعني تجاوزاً على مركزية فكرة التابو، والذهاب إلى المواجهة، حيث تتحول «سردية الاعتراف» إلى مخاتلة للتاريخ، أو للخطاب العصابي الذي يتموضع عند الثلاثي السردي «الدين، الجنس، السياسة» وبقطع النظر عن مرجعيات تلك السردية، فإن الكتابة عنها ستعمد إلى فضح «المقموع والمسكوت عنه» وإلى وضع الجسد بوصفه «علّة الاعتراف» أمام تعرية أنثربولوجية، تعصف بحصانته، وعلائقه ورموزه وشفراته؛ لذا تتحول اللغة بوصفها الأنثربولوجي إلى قوة «صيانية» للتعمية، وإلى فعل استعاري يتقنّع عبره المعنى والفكرة والخطاب، وليبدو النص الاعترافي في هذا السياق وكأنه محاولة للتمرد على ما هو صياني، وباتجاه مواجهة مفترضة مع العالم، ومع الذات نفسها، وربما رغبة حميمة في تعريتها من بعض قوتها؛ إذ لا يمكن للاعتراف أن يكون إلّا في لحظة ضعفٍ هي صنوٌ للانتشاء، وكلّ الاعترافات التي يكتبها الأقوياء هي تماهٍ مع لحظات ضعفهم، والادعاء بأن سردية الاعتراف هي تمثيل للقوة، أو محاولة لما يشبه لحظة التطهير المسيحية، التي لا تعدو أنْ تكون نفاقاً، أو مغالبة، أو وربما رغبة حميمية في الإيهام، وتحت ضغط أخلاقي أو تاريخي كما اعترافات السياسيين، لكن الاعتراف بمعناه «الأدبي» يظل أكثر مكراً في تمثيل مرجعياته ورمزيته، وفي التعبير عن علاقة النص الاعتراف بذات الكاتب؛ إذ كثيراً ما تتبدّى السيرة أو الاعتراف عبر أقنعة أو شخصيات تستغرقها سرديات تتحول فيها لعبة الاعتراف إلى ما يشبه الكتابة المضادة... أو إيهام بتلفيق تلك القوة المفترضة، لقضايا تتعلق بشعرية الجانب الخطابي في سردية الاعتراف.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.