عشية أول انتخابات تمهيدية ستجري في ولاية نيوهامشر، بعد أول تجمع انتخابي شهدته ولاية أيوا التي افتتحت الانتخابات الأميركية لعام 2020 في الـ3 من الشهر الجاري، بدا واضحاً أن الحزب الديمقراطي يواجه واحدة من أعمق أزماته، حاصداً نتائج سياسات خاسرة دأب على اعتمادها منذ ما قبل هزيمة مرشحته الرئاسية هيلاري كلينتون أمام الرئيس دونالد ترمب عام 2016.
وبعيداً عن نظريات المؤامرة التي يجري الترويج لها لتبرير الفوضى التي جرت بـ«فشل» برنامج إلكتروني في قراءة النتائج التي حققها مرشحو الحزب في تلك الولاية، لإحباط حظوظ المرشح اليساري بيرني ساندرز من الفوز، في تكرار لتجربته أمام كلينتون، فإن احتساب الأصوات وتوزعها بين تياري الحزب؛ «الليبرالي» ممثلاً بجو بايدن وبيت بوتيجيج وإيمي كلوباشر، و«التقدمي» ممثلاً بساندرز وإليزابيت وارن، لا تعطي تقدماً كاسحاً للتيار التقدمي. فقد حقق ساندرز 26.1 ووارين 18.2، أي ما مجموعه 40.3 في المائة من أصوات ناخبي الحزب الديمقراطي في ولاية أيوا، مقابل 26.2 لبوتيجيج و15.8 لبايدن و12.3 لكلوباشر، عدا عن أصوات المرشحين الآخرين، أي ما يتجاوز 54 في المائة أو أكثر من أصوات ناخبي الحزب، ما يعني أن الليبراليين يشكلون حتى الآن أكثرية فيه.
وفيما كشفت استطلاعات رأي أجريت قبل بدء انتخابات ولاية أيوا أن الناخبين الديمقراطيين يسعون إلى مرشح يمكنه الفوز وهزيمة ترمب، بعيداً عن برنامجه الانتخابي، أظهرت استطلاعات أخرى صعود شعبية المرشح بوتيجيج في ولاية نيوهامشر، الأمر الذي قد يمكن الديمقراطيين من التعويل على شخصية قد تكون مقبولة من شرائح اجتماعية ممتدة، تتجاوز قاعدته لتشمل المستقلين، سواء كانوا من البيض أو الملونين أو الإثنيات المختلفة.
غير أن مشكلة الحزب الديمقراطي قد لا تكون في العثور على شخصية قوية وقادرة على هزيمة ترمب، كما قال الرئيس السابق لحملته عام 2016 ومستشاره الاستراتيجي ستيف بانون، موجهاً كلامه للديمقراطيين، بل هي أعمق من ذلك بكثير. منذ اليوم الأول لتولي ترمب مقاليد الرئاسة، وضع الحزب الديمقراطي نصب عينيه مهمة الإطاحة به، وخاض معارك سياسية وقضائية ضده فشلت كلها؛ من التحقيقات في ملف التدخل الروسي المفترض في انتخابات عام 2016، إلى المعارك القضائية ضد قراراته المتعلقة بالهجرة ومعارضة خططه لإلغاء اتفاقيات تجارية عدة وسياساته تجاه تغير المناخ، وأخيراً معركة عزله التي انتهت بتحقيق ترمب فوزاً كبيراً، وصفته كبريات الصحف الأميركية، وعلى رأسها الصحف المحسوبة على التيار الليبرالي كـ«واشنطن بوست»، بأنه أكبر نجاح لترمب في أسبوع واحد.
وكشف استطلاع للرأي أجراه معهد «غالوب» ارتفاع نسبة تأييده على المستوى الوطني إلى رقم قياسي لم يحققه منذ توليه الرئاسة، بلغ 49 في المائة، الأمر الذي دفع بعدد من القيادات الديمقراطية للتشكيك بقدرة كل من ساندرز ووارن وبوتيجيج وبايدن على هزيمة ترمب ومنعه من الفوز بولاية جديدة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، على ما نقلته صحيفة «وول ستريت جورنال».
ما يسمى «الحرس القديم» في الحزب الديمقراطي، هو جزء من الطبقة السياسية أو «الاستابلشمنت» أو «الدولة العميقة» التي لا تزال تمسك بسياسات واشنطن، وتخوض صراعاً مزدوجاً داخل الحزب ومع الجناح الجمهوري. ورغم الاختلافات التي قد يكون بعضها مهماً كالموقف من قضية تغير المناخ، أو «ثانوياً» كالموقف من الاتفاق النووي مع إيران أو من الخلاف الشكلي حول القضية الفلسطينية، فإن الحزبين بما فيه التيار التقدمي الديمقراطي، متفقان على القضايا الرئيسية. وهذا الاتفاق يشمل الموقف من إعادة النظر بالاتفاقات التجارية الثنائية أو المتعددة، والعلاقة التجارية مع الصين ومع أوروبا وكذلك العلاقة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) والحرب ضد الإرهاب والخروج من منطقة الشرق الأوسط، والاستراتيجية الدفاعية الجديدة التي تركز على مواجهة صعود الصين وروسيا. كلا الحزبان يسعى لقيادة الخيارات الاستراتيجية الجديدة في المرحلة المقبلة، في مواجهة التحولات التي يشهدها المجتمع الأميركي، مع احتدام أزمة الديمقراطية الغربية والتنافس مع قوى كبرى في لحظة دولية تسعى الولايات المتحدة خلالها لإعادة تجديد قيادتها للنظام الدولي، في حقبة باتت الريادة فيها للتطور التكنولوجي الذي سيحدد في العقود المقبلة من القوة التي ستتبوأ قيادة هذا النظام.
مشكلة الديمقراطيين ليست في العثور على شخصية «متنمّرة» يمكنها التصدي لتنمّر ترمب، الذي قد لا يكون مختلفاً عنه إذا ما عثر عليه، بل هي في كيفية إظهار التميز عن خطاب الجمهوريين. فالحزب الديمقراطي يميل إلى الليبرالية الحديثة، ويؤمن بتدخل الدولة وتوفير الرعاية الصحية للجميع وتأمين التعليم برسوم غير باهظة، وببرامج مساعدات اجتماعية، وسياسات لحماية البيئة، وبوجود نقابات عمالية. أما الحزب الجمهوري، فيتبنى ما يعرف بالاتجاه المحافظ، الذي يحد من تدخل الحكومة، ويشجع خفض الضرائب والسوق الرأسمالية الحرة، والحق في امتلاك السلاح وإلغاء النقابات العمالية، وفرض قيود على الهجرة والإجهاض.
ورغم هذه الاختلافات، فإن البعض يرى أنها فروقات ثانوية بين الحزبين تذوب لمصلحة تيار متشدد، يرى التحولات العالمية خطراً على مستقبل الولايات المتحدة، في ظل توافق على خياراتها الاستراتيجية، ويتخوف من انعكاساتها على المجتمع الأميركي.
وبمعزل عن تأييد ترمب أو معارضته، فهو بهذا المعنى قد لا يكون مختلفاً عن الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، الذي تمكنت خياراته من إحراز انتصارات داخلية وخارجية غيرت وجه أميركا والعالم لنحو 4 عقود، وحافظ عليها الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون من بعده، رغم اختلافاته مع بعض برامجه الداخلية.
انتخابات «أيوا» تكشف أزمة الديمقراطيين
ناخبو الحزب يسعون إلى مرشح قادر على هزيمة ترمب
انتخابات «أيوا» تكشف أزمة الديمقراطيين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة