الكرملين يُعدّ لتوسيع حضوره في المنطقة بعد سوريا

سياسة بوتين في الشرق الأوسط... «كل الطرق يجب أن تؤدي إلى موسكو»

الكرملين يُعدّ لتوسيع حضوره في المنطقة بعد سوريا
TT

الكرملين يُعدّ لتوسيع حضوره في المنطقة بعد سوريا

الكرملين يُعدّ لتوسيع حضوره في المنطقة بعد سوريا

«الحدث في واشنطن والأنظار تتجه إلى موسكو»... تبدو هذا العبارة مُرضية للكرملين، بعدما ردّدها بعضهم معلقاً على مسارعة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى زيارة موسكو للحصول على دعم من الرئيس فلاديمير بوتين في اليوم التالي من الإعلان عن خطة الرئيس دونالد ترمب للسلام في الشرق الأوسط. أيضاً تصب العبارة في الاتجاه ذاته الذي تكرّس خلال الفترة الأخيرة، وبرز في أكثر من تعليق لخبراء مقربين من الكرملين: «كل الطرق تؤدي إلى موسكو، ولم يعد ممكناً العمل على تسوية أي ملف، إقليمياً كان أو دولياً، من دون أن يؤخذ رأي الكرملين في الاعتبار»!
هذا، برأي خبراء روس، ما أظهرته نتائج العام الماضي، والشهر الأول من العام الجديد الذي كان حافلاً بالأحداث على المستوى الإقليمي في الشرق الأوسط، وعلى المستوى الدولي أيضاً. ومن تطوّرات الموقف المتسارعة ميدانياً في سوريا... واقتراب ساعة «الحسم العسكري» في إدلب، إلى النشاط المتزايد حول الملف الليبي... وتصاعد الدور الروسي بقوة في محطات المفاوضات المتنقلة بين أنقرة وموسكو وبرلين، وانتهاءً بـ«الغموض» المتعمّد في موقف الكرملين حيال خطة السلام الأميركية، الذي رأى فيه كثيرون تحضيراً للعب دور أنشط في هذا الملف.
إزاء كل الملفات الشرق أوسطية الساخنة، يتعمّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الظهور بصفته الزعيم الذي يستقبل في موسكو عدداً كبيراً من اللاعبين المتعارضين وممثلي الأطراف الإقليمية والدولية، الذين يأتون مقرين بالدور الجديد الذي تلعبه موسكو.
ما عادت نادرة بيانات الكرملين التي تتحدّث عن إجراء اتصالات مع القيادة الفرنسية أو الألمانية لـ«بحث ملفات سوريا وليبيا والتسوية في الشرق الأوسط»، بعدما كانت هذه الاتصالات حتى وقت قريب تكاد تكون محصورة بالوضع في سوريا، وتطوّرات الموقف في أوكرانيا المجاورة.
وفي سوريا، أوحت تطورات الأسبوع الأخير، بأن موسكو اتخذت القرار النهائي بدعم الحسم العسكري في إدلب، مع ما يمكن أن يتبع ذلك من إعادة ترتيب «التوازنات» التي أقامتها موسكو في هذا البلد، وفقاً لمعايير جديدة. في هذا الإطار لم تخفّف الاعتراضات التركية التي وصلت إلى درجة اتهام موسكو بالنكوص عن التزاماتها في «اتفاق سوتشي» للتهدئة في إدلب، من اندفاعة الروس نحو دعم العملية العسكرية الجارية.
وكرّر الكرملين الرد على الاتهامات التركية بالحديث عن «التهديد المتزايد من جانب المسلحين في إدلب على المناطق المجاورة وعلى العسكريين الروس ما يستوجب مواجهة هذا الخطر». كما أعلن الوزير سيرغي لافروف أنه «لا تهاون مع الإرهابيين»، مشيراً إلى أن الطريق الوحيدة المتاحة هي أن «يستسلموا»... بينما على الأطراف الأكثر اعتدالاً في المعارضة السورية أن تختار «إما التراجع عن تحالفها مع جبهة النصرة أو تلقى المصير ذاته».
هكذا وضعت موسكو «معادلة» تطورات الموقف حول إدلب رغم الاعتراضات التركية، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن موسكو تنوي التراجع عن «شراكتها» مع أنقرة، أو تقويض الجهد المشترك الذي قاد إلى المشهد الحالي. لقد حملت تطورات الأسبوع الأخير بعد «المواجهة المحدودة» بين الجيشين السوري والتركي في محيط إدلب، أوضح اختبار لمتانة التنسيق الروسي - التركي، ومدى إمكان أن ينهار هذا «التحالف» بسبب التطوّرات الميدانية المتصاعدة. وبرز خلال الأيام الماضية الجهد الروسي لمحاصرة الموقف وتعزيز قنوات الاتصال بين الجانبين.

اهتزاز الشراكة
تعكس تصريحات خبراء مقرّبين من الكرملين، قناعة بأن الشراكة الروسية - التركية قد تتعرض لبعض الهزّات، لكنها لن تشهد تراجعاً كبيراً، خصوصاً أن «ما يجمع البلدين أوسع بكثير من العناصر الخلافية». وهنا إشارة واضحة إلى أن المحافظة على اتفاقات ترتيبات الوضع في الشمال السوري، و«المنطقة التركية الآمنة» على الحدود، فضلاً عن التفاهمات على آليات التعامل مع طموحات المكوّن الكردي، والاتفاق حيال مسألة الوجود الأميركي في منطقة شرق الفرات... عناصر مشتركة لا تسمح لموسكو وأنقرة لتوسيع هوّة الخلاف كثيراً حول إدلب.
خبراء تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» رأوا أن موسكو تعمل على «تثبيت خرائط نفوذ جديدة، يجب أن تكون الحكومة السورية بموجبها أحكمت سيطرتها فعلاً على الجزء الأكبر من أراضي البلاد، وعلى المناطق الحدودية مع العراق وتركيا والأردن».
إلا أن هذا «السيناريو» يستدعي، من وجهة نظر خبراء، إيجاد «اتفاق سوتشي» جديد، يأخذ في الاعتبار التطورات الميدانية، ويحافظ في الوقت ذاته على مراعاة الهواجس الأمنية لتركيا. ثم إن الحاجة قد تظهر أيضاً لوضع ترتيبات جديدة للتعامل في إطار «محور آستانة» بعدما أدّت تحولات كثيرة إلى تغيير المشهدين الميداني والسياسي.
ميدانياً، لا يخفي محلِّلون روس أن إزاحة قاسم سليماني ستسفر عن تقليص التأثير الإيراني في سوريا لصالح تصاعد أكبر للتأثير الروسي. والتطوّرات الجارية حول إدلب ستقلّص التأثير التركي المرتبط بالمعارضة السورية إلى درجة كبيرة، ما يعني أن الوجود التركي سيكون مرتبطاً أكثر بالحاجة إلى ترتيبات أمنية في الشمال تستجيب للقلق الأمني من جانب أنقرة، وهذا أمر لا تعارضه موسكو بل تميل إلى تثبيته أكثر.
على هذه الخلفية، فإن موسكو قد تكون أمام استحقاق إعادة النظر في توازن المصالح الذي بنته في وقت سابق بين الأطراف المختلفة من طهران إلى أنقرة إلى تل أبيب على أساس الواقع الجديد. في المقابل، يبقى الوجود العسكري الأميركي في منطقة شرق الفرات، رغم محدوديته، مؤثراً جداً على الخطط الروسية، ويظلّ العنصر الأبرز المقلق لروسيا لأنه يسفر عن الحد من قدرة روسيا على الترويج لخططها وبرامجها، لا سيما على صعيدي إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين، لأن هذا يتطلب دعماً دولياً واسعاً لا يمكن توفيره مع المواجهة الروسية - الأميركية القائمة حالياً. وهذا يفسّر تشديد الخارجية الروسية على القول قبل يومين إن «واشنطن تعرقل تطبيع الوضع في سوريا».

تعنّت نظام دمشق
من ناحية أخرى، تواجه موسكو في سوريا مع الوقائع الجديدة مشكلة جدية أخرى، برزت بقوة في الفترة الأخيرة... وهي تتمثل في مواقف النظام «المتعنتة» التي غدت بدورها عاملاً معرقلاً للخطط الروسية.
لقد برزت خلال الأسابيع الماضية رسائل وجّهتها موسكو، بوسائل مباشرة حيناً أو غير مباشرة أحياناً أخرى، عكست تزايد الضيق الروسي من أداء سلطات دمشق. وبين ذلك، آليات التعامل مع الأزمة الاقتصادية المعيشية على خلفية امتناع دمشق عن الإصغاء لـ«نصائح» موسكو حول ضرورة تعزيز التعاون مع الجهات الدولية المختصة، فضلاً عن العرقلة المتواصلة لعمل «اللجنة الدستورية» التي ترى فيها موسكو «المدخل الصحيح وبداية التسوية السياسية».
وفي أعقاب بروز عدد كبير من العناصر التي دفعت أوساطاً روسية إلى انتقاد «قلة النظام في إطلاق إصلاحات جدية على المستوى الداخلي، ما يعرقل جهود موسكو في تعزيز آليات المصالحات وتطبيع الموقف على الأرض»، اضطرت موسكو خلال الأسبوع الماضي إلى إيفاد المبعوث الرئاسي ألكسندر لافرنتييف، يرافقه نائب وزير الخارجية سيرغي فيرشينين وعدد من العسكريين الروس، إلى دمشق للقاء الرئيس بشار الأسد، وحمله على إنجاح زيارة المبعوث الدولي غير بيدرسن إلى دمشق.
ولفتت مصادر تحدثت إليها «الشرق الأوسط» إلى أن الزيارة «جرى ترتيبها على جناح السرعة بهدف إبلاغ رسالة روسية إلى القيادة السورية بضرورة إنجاح مهمة المبعوث الدولي». وهذا، خصوصاً، على خلفية بروز استياء روسي من «مماطلة الحكومة في دفع نشاط اللجنة الدستورية وتقديم الدعم الكافي للمبعوث الدولي».
رامي الشاعر، الدبلوماسي السابق والخبير المطلع على ملفات العلاقة الروسية - السورية، «يتفق تماماً بأن هدف الزيارة التأثير على دمشق لحملها على إبداء مستوى أكبر من الجدية في التعامل مع مهمة المبعوث الدولي». ولفت الشاعر إلى أن بين أهداف الزيارة إيصال رسالة إلى دمشق بأن تفعيل عمل الأمم المتحدة يسهّل إيجاد آليات لتخفيف معاناة الشعب السوري، لافتاً إلى أن الأزمة الاقتصادية والمعيشية لا يمكن مواجهتها من دون دفع عمل الأمم المتحدة وحشد التأييد للجهد الدولي في هذا الاتجاه». وتابع: «ما زالت هناك أطراف داخل النظام تحاول عرقلة عمل المبعوث الدولي وتحاول استخدام آليات غير جدية ما يفاقم من المشكلات الاجتماعية والمعيشية للسوريين». وأشار إلى تحذير روسي من أن استمرار الوضع الحالي قد يدفع المجتمع الدولي إلى طرح ملف شرعية النظام مجدّداً على طاولة البحث.

التدخل في ليبيا
في سياق موازٍ، يتفّق خبراء في روسيا على أن التدخل المباشر لموسكو في الأزمة الليبية، الذي بدأت ملامحه تتضح وتزيد في الفترة الأخيرة، أعاد قلب الأوراق وتغيير موازين القوى، وبالأخص، أنه جاء هذه المرة من خلال اتفاق روسي - تركي لضمان وقف النار وإطلاق آلية للحوار بين الأطراف المتنازعة. وصحيحٌ أن موسكو وأنقرة فشلتا في إطلاق الحوار المنتظر خلال جولة مباحثات مطولة عقدت في موسكو أخيراً، إلا أن دخول «اللاعب الروسي» على خط الأزمة الليبية بات أكثر وضوحاً وثقة من السابق.
ثمة تحليلات تقول إن روسيا وتركيا استغلتا فشل الغرب في الأزمة الليبية لتضعا آلية خاصة بهما ضامناً لقرار سياسي في المستقبل. وهذا، في إشارة إلى تشكيل «تحالف براغماتي» جديد بين البلدين، رغم تعارض وجهات نظرهما حول الأزمة وتباين أهدافهما النهائية منها.
وحقاً، بعد 9 أشهر من بدء معركة «تحرير العاصمة الليبية»، أظهر الروس والأتراك أنهم قادرون على التأثير بشكل مباشر على الأحداث على هذه الجبهة، بل وقادرون أيضاً على التناوب في لعب الأدوار بين التصعيد والهدوء. هذا يشكل تغييراً أساسياً في قواعد اللعبة الخاصة بالأزمة الليبية. ودفع هذا التغيير إلى عقد مقارنات مع سيناريو «مسار آستانة» السورية، وتوقع بروز «محور آستانة جديد خاص بالأزمة الليبية»، مع أن لدى الطرفين مداخل متباينة في التعامل مع الأزمة، ومع أطرافها الأساسيين. ففي حين لا تخفي أنقرة دعمها «حكومة الوفاق» وتواصل إرسال السلاح والعتاد و«المرتزقة»، في مخالفة صريحة لمُخرجات «مؤتمر برلين» وللقرارات الدولية السابقة، فإن موسكو متهمة بأنها تقف على الطرف النقيض وتقدم كل أنواع المساعدات لقائد «الجيش الوطني» المشير خليفة حفتر، بما في ذلك على صعيد إرسال «مرتزقة روس» للقتال إلى جانبه. لكن، مع كل هذا، وجد الطرفان نقطة انطلاق لـ«عمل مشترك».
في هذا الصدد، تشير تقديرات خبراء روس إلى أنه بالنسبة لأنقرة، تمثل ليبيا بشكل أساسي نقطة انطلاق لخطة استراتيجية تغطي آفاقاً أوسع نطاقاً. والمشاركة العسكرية في طرابلس تمنح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان القدرة على تعزيز أوراقه التفاوضية، بما في ذلك مع روسيا. ووجهة النظر هذه تقوم على أساس أن إردوغان يرى في روسيا «شريكاً ضرورياً» لاستعادة التوازن في علاقاته المتآكلة مع الغرب. وهو يدرك أن موسكو انطلقت في موقفها المندفع في سوريا من شعور بالخيبة لأن الغرب استخدم قرار مجلس الأمن عام 2011 للإطاحة بالنظام الليبي من دون استشارة موسكو في هذا التطوّر. وهذا يعني أن «عودة موسكو إلى الملف الليبي ضرورة أساسية للكرملين الذي كان قد تكلم مراراً عن خطأ التدخل الغربي في هذا البلد»، كما أنها توفر لبوتين مجالاً جديداً لتوسيع الحضور الإقليمي لبلاده.
بيد أن الرهان على أن «المحور التركي - الروسي» الذي يعمل بشكل جيد في سوريا، ليس كافياً من وجهة نظر بعض الخبراء، الذين يلاحظون أن «مسار آستانة» السوري غدا ممكناً فقط عندما أدرك الأتراك أنهم خسروا بشكل رئيسي بعد التدخل الروسي المباشر في سوريا.
في كل الأحوال، يرى خبراء أنه ليس هناك أدنى شك في أن روسيا أدركت منذ وقت طويل الموقف الحساس لتركيا تجاه مناطقها الحدودية وقلقها المتزايد إزاء ضعف مواقفها. لذلك، قرّرت موسكو «بشكل معقول» إشراك أنقرة في تسوية النزاع، بدلاً من العمل على عزلها. وكنتيجة لذلك، تمكن الجانبان من التفاهم على أولوياتهما في سوريا.
على صعيد آخر، مع الإقرار بحقيقة أن ليبيا توفر منصة جديدة للاندفاعة الإقليمية لروسيا، فإن أسئلة كثيرة برزت حول مدى قدرة موسكو وأنقرة على العمل بشكل مشترك في هذا البلد، لأن «فكرة روسيا الثأرية القائمة على دعم الجيش الوطني تتطلب مقاربة أكثر دقة»، ووفقاً لكثير من الخبراء الروس، فإن موقف موسكو من القضية الليبية ما زال غامضاً، إذ يقول أندريه شوبريغين، الأستاذ في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو - الذي أمضى 10 سنوات في ليبيا في عهد معمّر القذافي: «ليست لدى روسيا استراتيجية ليبية واضحة. ومثلها مثل الجهات الفاعلة الدولية الأخرى، تسعى روسيا إلى تنويع قنواتها ووسائل التأثير فيها حتى لا تسيء إلى ما هو مُعد للمستقبل. بالإضافة إلى ذلك، من الواضح للجميع أنه لا يمكن لأي من اللاعبين - الحاليين السراج أو حفتر - أن يحكم البلاد بطريقة مستدامة».
هذا الأمر ركز عليه أيضاً الدبلوماسي السابق فلاديمير فرولوف في إشارته إلى الاستراتيجية الروسية الحالية في ليبيا، إذ قال: «رأى بوتين فراغاً في السلطة يمكن ملؤه بسهولة، لكن هذا لا يعني أن موسكو استكملت بناء استراتيجيتها هناك». وتابع: «كما الحال في الحقبة السوفياتية، فإن روسيا لا تملك الوسائل لتكون اللاعب المهيمن أو الحاسم في ليبيا. فبعض الأطراف ترى أن اللعبة الروسية هي وسيلة لموازنة التأثيرات الأخرى. وموسكو تتصرّف بذكاء فقط عندما توافق على هذا الدور». ثم يوضح فرولوف أكثر: «لقد سمحت تصرفات روسيا في ليبيا بتعزيز موقعها في المفاوضات مع أوروبا. وفي ضوء ذلك، يمكن لموسكو أن تأمل في تقديم تنازلات بشأن أهم قضاياها، بدءاً بأوكرانيا».
يبقى أن الاستخلاص الأهم من الدخول الروسي القوي على الملف الليبي هو ما خرج به بعض المحللين أخيراً، من أنه على ما يبدو، لن تقتصر خطوات روسيا على ليبيا وسوريا. يبدو أن موسكو، التي تعلن من الآن فصاعداً مشاركتها في الصراع الإقليمي والعالمي من أجل النفوذ، تمدد نشاطها لتشمل مناطق أخرى... على الأقل في الشرق الأوسط وأفريقيا ووسط وجنوب آسيا.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.