الكرملين يُعدّ لتوسيع حضوره في المنطقة بعد سوريا

سياسة بوتين في الشرق الأوسط... «كل الطرق يجب أن تؤدي إلى موسكو»

الكرملين يُعدّ لتوسيع حضوره في المنطقة بعد سوريا
TT

الكرملين يُعدّ لتوسيع حضوره في المنطقة بعد سوريا

الكرملين يُعدّ لتوسيع حضوره في المنطقة بعد سوريا

«الحدث في واشنطن والأنظار تتجه إلى موسكو»... تبدو هذا العبارة مُرضية للكرملين، بعدما ردّدها بعضهم معلقاً على مسارعة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى زيارة موسكو للحصول على دعم من الرئيس فلاديمير بوتين في اليوم التالي من الإعلان عن خطة الرئيس دونالد ترمب للسلام في الشرق الأوسط. أيضاً تصب العبارة في الاتجاه ذاته الذي تكرّس خلال الفترة الأخيرة، وبرز في أكثر من تعليق لخبراء مقربين من الكرملين: «كل الطرق تؤدي إلى موسكو، ولم يعد ممكناً العمل على تسوية أي ملف، إقليمياً كان أو دولياً، من دون أن يؤخذ رأي الكرملين في الاعتبار»!
هذا، برأي خبراء روس، ما أظهرته نتائج العام الماضي، والشهر الأول من العام الجديد الذي كان حافلاً بالأحداث على المستوى الإقليمي في الشرق الأوسط، وعلى المستوى الدولي أيضاً. ومن تطوّرات الموقف المتسارعة ميدانياً في سوريا... واقتراب ساعة «الحسم العسكري» في إدلب، إلى النشاط المتزايد حول الملف الليبي... وتصاعد الدور الروسي بقوة في محطات المفاوضات المتنقلة بين أنقرة وموسكو وبرلين، وانتهاءً بـ«الغموض» المتعمّد في موقف الكرملين حيال خطة السلام الأميركية، الذي رأى فيه كثيرون تحضيراً للعب دور أنشط في هذا الملف.
إزاء كل الملفات الشرق أوسطية الساخنة، يتعمّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الظهور بصفته الزعيم الذي يستقبل في موسكو عدداً كبيراً من اللاعبين المتعارضين وممثلي الأطراف الإقليمية والدولية، الذين يأتون مقرين بالدور الجديد الذي تلعبه موسكو.
ما عادت نادرة بيانات الكرملين التي تتحدّث عن إجراء اتصالات مع القيادة الفرنسية أو الألمانية لـ«بحث ملفات سوريا وليبيا والتسوية في الشرق الأوسط»، بعدما كانت هذه الاتصالات حتى وقت قريب تكاد تكون محصورة بالوضع في سوريا، وتطوّرات الموقف في أوكرانيا المجاورة.
وفي سوريا، أوحت تطورات الأسبوع الأخير، بأن موسكو اتخذت القرار النهائي بدعم الحسم العسكري في إدلب، مع ما يمكن أن يتبع ذلك من إعادة ترتيب «التوازنات» التي أقامتها موسكو في هذا البلد، وفقاً لمعايير جديدة. في هذا الإطار لم تخفّف الاعتراضات التركية التي وصلت إلى درجة اتهام موسكو بالنكوص عن التزاماتها في «اتفاق سوتشي» للتهدئة في إدلب، من اندفاعة الروس نحو دعم العملية العسكرية الجارية.
وكرّر الكرملين الرد على الاتهامات التركية بالحديث عن «التهديد المتزايد من جانب المسلحين في إدلب على المناطق المجاورة وعلى العسكريين الروس ما يستوجب مواجهة هذا الخطر». كما أعلن الوزير سيرغي لافروف أنه «لا تهاون مع الإرهابيين»، مشيراً إلى أن الطريق الوحيدة المتاحة هي أن «يستسلموا»... بينما على الأطراف الأكثر اعتدالاً في المعارضة السورية أن تختار «إما التراجع عن تحالفها مع جبهة النصرة أو تلقى المصير ذاته».
هكذا وضعت موسكو «معادلة» تطورات الموقف حول إدلب رغم الاعتراضات التركية، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن موسكو تنوي التراجع عن «شراكتها» مع أنقرة، أو تقويض الجهد المشترك الذي قاد إلى المشهد الحالي. لقد حملت تطورات الأسبوع الأخير بعد «المواجهة المحدودة» بين الجيشين السوري والتركي في محيط إدلب، أوضح اختبار لمتانة التنسيق الروسي - التركي، ومدى إمكان أن ينهار هذا «التحالف» بسبب التطوّرات الميدانية المتصاعدة. وبرز خلال الأيام الماضية الجهد الروسي لمحاصرة الموقف وتعزيز قنوات الاتصال بين الجانبين.

اهتزاز الشراكة
تعكس تصريحات خبراء مقرّبين من الكرملين، قناعة بأن الشراكة الروسية - التركية قد تتعرض لبعض الهزّات، لكنها لن تشهد تراجعاً كبيراً، خصوصاً أن «ما يجمع البلدين أوسع بكثير من العناصر الخلافية». وهنا إشارة واضحة إلى أن المحافظة على اتفاقات ترتيبات الوضع في الشمال السوري، و«المنطقة التركية الآمنة» على الحدود، فضلاً عن التفاهمات على آليات التعامل مع طموحات المكوّن الكردي، والاتفاق حيال مسألة الوجود الأميركي في منطقة شرق الفرات... عناصر مشتركة لا تسمح لموسكو وأنقرة لتوسيع هوّة الخلاف كثيراً حول إدلب.
خبراء تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» رأوا أن موسكو تعمل على «تثبيت خرائط نفوذ جديدة، يجب أن تكون الحكومة السورية بموجبها أحكمت سيطرتها فعلاً على الجزء الأكبر من أراضي البلاد، وعلى المناطق الحدودية مع العراق وتركيا والأردن».
إلا أن هذا «السيناريو» يستدعي، من وجهة نظر خبراء، إيجاد «اتفاق سوتشي» جديد، يأخذ في الاعتبار التطورات الميدانية، ويحافظ في الوقت ذاته على مراعاة الهواجس الأمنية لتركيا. ثم إن الحاجة قد تظهر أيضاً لوضع ترتيبات جديدة للتعامل في إطار «محور آستانة» بعدما أدّت تحولات كثيرة إلى تغيير المشهدين الميداني والسياسي.
ميدانياً، لا يخفي محلِّلون روس أن إزاحة قاسم سليماني ستسفر عن تقليص التأثير الإيراني في سوريا لصالح تصاعد أكبر للتأثير الروسي. والتطوّرات الجارية حول إدلب ستقلّص التأثير التركي المرتبط بالمعارضة السورية إلى درجة كبيرة، ما يعني أن الوجود التركي سيكون مرتبطاً أكثر بالحاجة إلى ترتيبات أمنية في الشمال تستجيب للقلق الأمني من جانب أنقرة، وهذا أمر لا تعارضه موسكو بل تميل إلى تثبيته أكثر.
على هذه الخلفية، فإن موسكو قد تكون أمام استحقاق إعادة النظر في توازن المصالح الذي بنته في وقت سابق بين الأطراف المختلفة من طهران إلى أنقرة إلى تل أبيب على أساس الواقع الجديد. في المقابل، يبقى الوجود العسكري الأميركي في منطقة شرق الفرات، رغم محدوديته، مؤثراً جداً على الخطط الروسية، ويظلّ العنصر الأبرز المقلق لروسيا لأنه يسفر عن الحد من قدرة روسيا على الترويج لخططها وبرامجها، لا سيما على صعيدي إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين، لأن هذا يتطلب دعماً دولياً واسعاً لا يمكن توفيره مع المواجهة الروسية - الأميركية القائمة حالياً. وهذا يفسّر تشديد الخارجية الروسية على القول قبل يومين إن «واشنطن تعرقل تطبيع الوضع في سوريا».

تعنّت نظام دمشق
من ناحية أخرى، تواجه موسكو في سوريا مع الوقائع الجديدة مشكلة جدية أخرى، برزت بقوة في الفترة الأخيرة... وهي تتمثل في مواقف النظام «المتعنتة» التي غدت بدورها عاملاً معرقلاً للخطط الروسية.
لقد برزت خلال الأسابيع الماضية رسائل وجّهتها موسكو، بوسائل مباشرة حيناً أو غير مباشرة أحياناً أخرى، عكست تزايد الضيق الروسي من أداء سلطات دمشق. وبين ذلك، آليات التعامل مع الأزمة الاقتصادية المعيشية على خلفية امتناع دمشق عن الإصغاء لـ«نصائح» موسكو حول ضرورة تعزيز التعاون مع الجهات الدولية المختصة، فضلاً عن العرقلة المتواصلة لعمل «اللجنة الدستورية» التي ترى فيها موسكو «المدخل الصحيح وبداية التسوية السياسية».
وفي أعقاب بروز عدد كبير من العناصر التي دفعت أوساطاً روسية إلى انتقاد «قلة النظام في إطلاق إصلاحات جدية على المستوى الداخلي، ما يعرقل جهود موسكو في تعزيز آليات المصالحات وتطبيع الموقف على الأرض»، اضطرت موسكو خلال الأسبوع الماضي إلى إيفاد المبعوث الرئاسي ألكسندر لافرنتييف، يرافقه نائب وزير الخارجية سيرغي فيرشينين وعدد من العسكريين الروس، إلى دمشق للقاء الرئيس بشار الأسد، وحمله على إنجاح زيارة المبعوث الدولي غير بيدرسن إلى دمشق.
ولفتت مصادر تحدثت إليها «الشرق الأوسط» إلى أن الزيارة «جرى ترتيبها على جناح السرعة بهدف إبلاغ رسالة روسية إلى القيادة السورية بضرورة إنجاح مهمة المبعوث الدولي». وهذا، خصوصاً، على خلفية بروز استياء روسي من «مماطلة الحكومة في دفع نشاط اللجنة الدستورية وتقديم الدعم الكافي للمبعوث الدولي».
رامي الشاعر، الدبلوماسي السابق والخبير المطلع على ملفات العلاقة الروسية - السورية، «يتفق تماماً بأن هدف الزيارة التأثير على دمشق لحملها على إبداء مستوى أكبر من الجدية في التعامل مع مهمة المبعوث الدولي». ولفت الشاعر إلى أن بين أهداف الزيارة إيصال رسالة إلى دمشق بأن تفعيل عمل الأمم المتحدة يسهّل إيجاد آليات لتخفيف معاناة الشعب السوري، لافتاً إلى أن الأزمة الاقتصادية والمعيشية لا يمكن مواجهتها من دون دفع عمل الأمم المتحدة وحشد التأييد للجهد الدولي في هذا الاتجاه». وتابع: «ما زالت هناك أطراف داخل النظام تحاول عرقلة عمل المبعوث الدولي وتحاول استخدام آليات غير جدية ما يفاقم من المشكلات الاجتماعية والمعيشية للسوريين». وأشار إلى تحذير روسي من أن استمرار الوضع الحالي قد يدفع المجتمع الدولي إلى طرح ملف شرعية النظام مجدّداً على طاولة البحث.

التدخل في ليبيا
في سياق موازٍ، يتفّق خبراء في روسيا على أن التدخل المباشر لموسكو في الأزمة الليبية، الذي بدأت ملامحه تتضح وتزيد في الفترة الأخيرة، أعاد قلب الأوراق وتغيير موازين القوى، وبالأخص، أنه جاء هذه المرة من خلال اتفاق روسي - تركي لضمان وقف النار وإطلاق آلية للحوار بين الأطراف المتنازعة. وصحيحٌ أن موسكو وأنقرة فشلتا في إطلاق الحوار المنتظر خلال جولة مباحثات مطولة عقدت في موسكو أخيراً، إلا أن دخول «اللاعب الروسي» على خط الأزمة الليبية بات أكثر وضوحاً وثقة من السابق.
ثمة تحليلات تقول إن روسيا وتركيا استغلتا فشل الغرب في الأزمة الليبية لتضعا آلية خاصة بهما ضامناً لقرار سياسي في المستقبل. وهذا، في إشارة إلى تشكيل «تحالف براغماتي» جديد بين البلدين، رغم تعارض وجهات نظرهما حول الأزمة وتباين أهدافهما النهائية منها.
وحقاً، بعد 9 أشهر من بدء معركة «تحرير العاصمة الليبية»، أظهر الروس والأتراك أنهم قادرون على التأثير بشكل مباشر على الأحداث على هذه الجبهة، بل وقادرون أيضاً على التناوب في لعب الأدوار بين التصعيد والهدوء. هذا يشكل تغييراً أساسياً في قواعد اللعبة الخاصة بالأزمة الليبية. ودفع هذا التغيير إلى عقد مقارنات مع سيناريو «مسار آستانة» السورية، وتوقع بروز «محور آستانة جديد خاص بالأزمة الليبية»، مع أن لدى الطرفين مداخل متباينة في التعامل مع الأزمة، ومع أطرافها الأساسيين. ففي حين لا تخفي أنقرة دعمها «حكومة الوفاق» وتواصل إرسال السلاح والعتاد و«المرتزقة»، في مخالفة صريحة لمُخرجات «مؤتمر برلين» وللقرارات الدولية السابقة، فإن موسكو متهمة بأنها تقف على الطرف النقيض وتقدم كل أنواع المساعدات لقائد «الجيش الوطني» المشير خليفة حفتر، بما في ذلك على صعيد إرسال «مرتزقة روس» للقتال إلى جانبه. لكن، مع كل هذا، وجد الطرفان نقطة انطلاق لـ«عمل مشترك».
في هذا الصدد، تشير تقديرات خبراء روس إلى أنه بالنسبة لأنقرة، تمثل ليبيا بشكل أساسي نقطة انطلاق لخطة استراتيجية تغطي آفاقاً أوسع نطاقاً. والمشاركة العسكرية في طرابلس تمنح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان القدرة على تعزيز أوراقه التفاوضية، بما في ذلك مع روسيا. ووجهة النظر هذه تقوم على أساس أن إردوغان يرى في روسيا «شريكاً ضرورياً» لاستعادة التوازن في علاقاته المتآكلة مع الغرب. وهو يدرك أن موسكو انطلقت في موقفها المندفع في سوريا من شعور بالخيبة لأن الغرب استخدم قرار مجلس الأمن عام 2011 للإطاحة بالنظام الليبي من دون استشارة موسكو في هذا التطوّر. وهذا يعني أن «عودة موسكو إلى الملف الليبي ضرورة أساسية للكرملين الذي كان قد تكلم مراراً عن خطأ التدخل الغربي في هذا البلد»، كما أنها توفر لبوتين مجالاً جديداً لتوسيع الحضور الإقليمي لبلاده.
بيد أن الرهان على أن «المحور التركي - الروسي» الذي يعمل بشكل جيد في سوريا، ليس كافياً من وجهة نظر بعض الخبراء، الذين يلاحظون أن «مسار آستانة» السوري غدا ممكناً فقط عندما أدرك الأتراك أنهم خسروا بشكل رئيسي بعد التدخل الروسي المباشر في سوريا.
في كل الأحوال، يرى خبراء أنه ليس هناك أدنى شك في أن روسيا أدركت منذ وقت طويل الموقف الحساس لتركيا تجاه مناطقها الحدودية وقلقها المتزايد إزاء ضعف مواقفها. لذلك، قرّرت موسكو «بشكل معقول» إشراك أنقرة في تسوية النزاع، بدلاً من العمل على عزلها. وكنتيجة لذلك، تمكن الجانبان من التفاهم على أولوياتهما في سوريا.
على صعيد آخر، مع الإقرار بحقيقة أن ليبيا توفر منصة جديدة للاندفاعة الإقليمية لروسيا، فإن أسئلة كثيرة برزت حول مدى قدرة موسكو وأنقرة على العمل بشكل مشترك في هذا البلد، لأن «فكرة روسيا الثأرية القائمة على دعم الجيش الوطني تتطلب مقاربة أكثر دقة»، ووفقاً لكثير من الخبراء الروس، فإن موقف موسكو من القضية الليبية ما زال غامضاً، إذ يقول أندريه شوبريغين، الأستاذ في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو - الذي أمضى 10 سنوات في ليبيا في عهد معمّر القذافي: «ليست لدى روسيا استراتيجية ليبية واضحة. ومثلها مثل الجهات الفاعلة الدولية الأخرى، تسعى روسيا إلى تنويع قنواتها ووسائل التأثير فيها حتى لا تسيء إلى ما هو مُعد للمستقبل. بالإضافة إلى ذلك، من الواضح للجميع أنه لا يمكن لأي من اللاعبين - الحاليين السراج أو حفتر - أن يحكم البلاد بطريقة مستدامة».
هذا الأمر ركز عليه أيضاً الدبلوماسي السابق فلاديمير فرولوف في إشارته إلى الاستراتيجية الروسية الحالية في ليبيا، إذ قال: «رأى بوتين فراغاً في السلطة يمكن ملؤه بسهولة، لكن هذا لا يعني أن موسكو استكملت بناء استراتيجيتها هناك». وتابع: «كما الحال في الحقبة السوفياتية، فإن روسيا لا تملك الوسائل لتكون اللاعب المهيمن أو الحاسم في ليبيا. فبعض الأطراف ترى أن اللعبة الروسية هي وسيلة لموازنة التأثيرات الأخرى. وموسكو تتصرّف بذكاء فقط عندما توافق على هذا الدور». ثم يوضح فرولوف أكثر: «لقد سمحت تصرفات روسيا في ليبيا بتعزيز موقعها في المفاوضات مع أوروبا. وفي ضوء ذلك، يمكن لموسكو أن تأمل في تقديم تنازلات بشأن أهم قضاياها، بدءاً بأوكرانيا».
يبقى أن الاستخلاص الأهم من الدخول الروسي القوي على الملف الليبي هو ما خرج به بعض المحللين أخيراً، من أنه على ما يبدو، لن تقتصر خطوات روسيا على ليبيا وسوريا. يبدو أن موسكو، التي تعلن من الآن فصاعداً مشاركتها في الصراع الإقليمي والعالمي من أجل النفوذ، تمدد نشاطها لتشمل مناطق أخرى... على الأقل في الشرق الأوسط وأفريقيا ووسط وجنوب آسيا.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.