دائماً كتب المذكرات لها تشويقها الخاص والمثير... دائماً تقرأها من دون كلل أو ملل حتى تصل إلى نهايتها. نقول ذلك خصوصاً إذا كانت صادرة عن شخصيات مهمة. من بين هذه الشخصيات يقف حتماً مؤلف هذا الكتاب ماريك هالتير. وهو يهودي فرنسي من أصل بولوني وصل إلى باريس مع عائلته وهو في سن الرابعة عشرة فقط. ومع ذلك؛ فقد أتقن لغتها وبرع فيها إلى حد أنه أصبح كاتباً مشهوراً رغم أنه لا يحمل شهادات عليا. ولكنه ظل يتكلم الفرنسية بلكنة خاصة تكاد تضحك الفرنسيين. وهو شخصية نافذة جداً في الأوساط الفرنسية؛ بل وحتى العربية، ناهيك بالدولية. إنه يستطيع أن يهاتف القادة والزعماء والرؤساء على تليفوناتهم الجوالة الخاصة؛ ومن بينهم زعماء عرب. ويستطيع أن يتحاور مع جاك شيراك أو بيل كلينتون أو فلاديمير بوتين أو سواهم كأنه صديق شخصي وليس فقط مجرد صحافي. وقد اشتريت مذكراته الصادرة مؤخراً في العاصمة الفرنسية لأني كنت أتوقع أنها تحتوي أسراراً عربية وإسرائيلية وفلسطينية شديدة الخطورة والأهمية. ولم يخِب ظني.
قبل الدخول في صلب الموضوع، ينبغي القول إنه كان قد انخرط سابقاً في كتابة سلسلة من الروايات التاريخية التي تهدف إلى تمجيد ذكرى نساء الإسلام العظيمات: مثل السيدة خديجة بنت خويلد، والسيدة فاطمة بنت النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، والسيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق. وهذا شيء مدهش؛ إذ يصدر عن كاتب ذي أصول يهودية ويفترض أنه بعيد جداً عن الموضوع. ولكنه مهووس بتحقيق التقارب بين العرب واليهود، أو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أو بين أبناء إسماعيل وأبناء إسحاق. فكلهم في نهاية المطاف من أحفاد إبراهيم الخليل. إنهم أبناء عمومة؛ كما يقال عادة. ولذلك فهو يهتم بكل شيء يخص تاريخنا وتراثنا. إنه يريد أن يتقرب منا، أن يلتصق بنا بأي شكل، لأنه يعرف أن إسرائيل العزيزة جداً على قلبه لا يمكن أن تندمج في المنطقة إن لم نقبل بها يوماً ما. الكلمة الأخيرة تبقى للعرب لأنهم أصحاب المنطقة الأساسيين من المحيط إلى الخليج. إنهم كالبحر الهادر بأعدادهم التي ستتجاوز نحو 500 مليون نسمة. وبالتالي فإسرائيل عبارة عن قطرة في بحر من العرب والفلسطينيين، وموازين القوى لصالحهم رغم كل المظاهر المعاكسة حالياً. ولهذا السبب؛ فهو مهتم جداً بإحداث التقارب بين الأديان التوحيدية الإبراهيمية الثلاثة: اليهودية، والمسيحية، والإسلام. وقد أمضى حياته كلها في النضال من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط. ولكنه يبقى متحيزاً للطرف الإسرائيلي بطبيعة الحال. وهو لا يخفي ذلك أصلاً وإن كان يحاول جاهداً احترام موقف الفلسطينيين وآلامهم التي تفوق الوصف. وأنا هنا لا أريد الترويج لهذا الكتاب؛ وإنما فقط استعراض آرائه التي تهم كل المثقفين وأصحاب القرار في العالم العربي؛ إذ لا يكفي أن تعرف رأيك في الآخر، وإنما ينبغي أن تعرف رأي الآخر فيك أيضاً.
ما كان يهمني في مذكراته هو معرفة الدور الذي لعبه بوصفه همزة وصل بين القيادة الإسرائيلية والقيادة الفلسطينية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: كيف كان لقاؤه الأول مع ياسر عرفات؟ وأين؟ وما الصورة أو البورتريه الذي يقدمه عنه؟ سوف نتحدث عن ذلك قبل أن ننتقل إلى لقائه الأول مع أنور السادات. وهنا أيضاً نجد أنفسنا أمام بورتريهات عدة أو صور شخصية لقادة عرب كبار، وكلها مرسومة من قبل مثقف يهودي عالمي مؤيد لحق إسرائيل في الوجود ومتحرق لتحقيق رغبة واحدة: أن يقبل بها العرب يوماً ما. وسواء اتفقنا معه أم اختلفنا، فإن ذلك لا يغير في الأمر شيئاً. فالشيء المؤكد هو أن هذا الرجل لعب دوراً مهماً جداً طيلة الخمسين سنة الماضية، وقام بمهام سرية كثيرة وحساسة للغاية. فلماذا لا نطّلع على ما يقول؟ لماذا لا نحاول أن نعرف كيف يفكر قادة الرأي العام اليهودي فينا؟
- لقاؤه الأول مع ياسر عرفات
قبل أن يلتقي عرفات كان ينبغي عليه أن يأخذ إذناً من أعلى رأس في القيادة الإسرائيلية: أي رئيسة الوزراء غولدا مائير شخصياً. ولذلك طلب مقابلتها، فاستقبلته في مكتبها الرسمي بالقدس بعد طول انتظار. وقد استقبلته في المطبخ وأمامها علبة سجائر ومنفضة فقط. وعندما قال لها إنه ينوي مقابلة عرفات؛ بل وأخذ موعداً معه في بيروت، تغيّر لونها وامتقع وجهها وضربت بيدها بكل عنف على الطاولة إلى درجة أن السجائر تطايرت والمنفضة سقطت أرضاً. وصرخت في وجهه: تريد أن تقابل عدو إسرائيل الأول وعلى يديه دماء أطفال إسرائيل؟ هل أصابك مسٌ من جنون؟ فأجابها: ولكن النبي موسى قابل الفرعون قاتل الآلاف المؤلفة من أطفال اليهود الرضع! فلماذا لا يحق لي أن أقابل عرفات؟ فأجابته: ولكنك لست النبيّ موسى! فأجابها: بالطبع لست النبي موسى، ولكن إذا ما مسّ كلامي ضمير عرفات وجعله يقبل بالسلام وتوفير حياة آلاف الأطفال اليهود والفلسطينيين معاً؛ فلماذا لا أقابله؟ فأجابته: ولكن الله هو الذي أمر سيدنا موسى بالذهاب لمقابلة الفرعون، فهل كلمك الله يا ترى دون أن نعلم؟ فأجاب: بالطبع لا، ولكن كلمني ضميري، وسوف أفعل كل شيء من أجل السلام بين العرب واليهود. وعندئذ نهضت فجأة بكل غضب علامةً على إنهاء المقابلة فوراً، فخرج بعد أن حياها بالعبرية: «شالوم»؛ أي «سلام»، فلم ترد. ثم خرج الرجل من عندها مذهولاً دائخاً، وفي الشارع نادى على تاكسي جماعي وذهب إلى فندقه في تل أبيب. وفي الصباح الباكر؛ الساعة السادسة فجراً، أيقظه صوت التليفون وهو يغطّ في نوم عميق، وسمع صوتها يهدر ويقول له كلمة واحدة: اذهب! ثم وضعت السماعة. وعندئذ عرف أنه نال موافقتها أو مباركتها لمقابلة ياسر عرفات.
كان اللقاء الأول مع عرفات قد حدث في بيروت عام 1969، وفي ذلك الوقت لم يكن عرفات يعرف كلمة واحدة في الإنجليزية، ولم يكن هو يعرف إلا بضع كلمات نادرة في العربية. وبالتالي فقد كان هناك مترجم، وهذا شيء مزعج دائماً. ثم لم يكن عرفات وحده في المكتب؛ وإنما عشرات الآخرين من المساعدين والمقربين والحراس الشخصيين. وبعضهم كان يضع الكلاشنيكوف على ركبتيه، والبعض الآخر كان يسبّح بالمسبحة... إلخ. لم يفهم عرفات لماذا يلح هذا الرجل على مقابلته. وعندما حيّاه ماريك هالتير بكلمتين عبرية وعربية: «شالوم. سلام»، انزعج عرفات ولم يرد عليه؛ بل رأى فيه جاسوساً ماكراً ليس إلا. في ذلك الوقت؛ لم تكن فكرة السلام تخطر على بال عرفات على الإطلاق. كان يفكر فقط في محو إسرائيل عن الخريطة بمعونة العالم العربي. ولهذا السبب اختصر عرفات المقابلة، فقال له هالتير وهو يودّعه: إلى اللقاء يا فخامة الرئيس. فأجابه عرفات: نلتقي العام القادم في تل أبيب المحررة! ولكن على عتبة الباب وقبل أن يخرج التفت إليه ماريك هالتير مستديراً بكل جسده الضخم وقال له: إذا كان ذلك صحيحاً فإني سأكون قد قتلتك قبل يوم واحد من حصول ذلك! يقول هالتير: ما إن انتهى المترجم من ترجمة عبارتي حتى انتفض حرس عرفات ويدهم على الزناد، وسمعت قعقعة السلاح وهموا بالبطش بي. ولكن عرفات طلب منهم الجلوس والهدوء، ثم اقترب من ماريك هالتير وقال له بعد أن وضع يده على كتفه قائلاً: لا أعرف من الذي سيكون قد قتل الآخر قبل ذلك، ولكن قبل أن نموت معاً دعنا نلتقِ مرة أخرى. فوافق هالتير بطبيعة الحال... ثم اقترب مني، وقبّلني، وتلاقت لحيتي الكثّة مع لحيته الخفيفة. ونفهم من ذلك أن عرفات قائد حقيقي لأنه يعرف كيف يتحكم بعواطفه ولا يجعلها تتحكم به.
ثم يختتم ماريك هالتير كلامه قائلاً: لم نقتل بعضنا بعضاً بعدئذ. أبداً أبداً. وإنما أصبحنا صديقين عزيزين، والتقينا مرات كثيرة لاحقاً في الأردن، وبيروت، وتونس حيث حضّرنا لاتفاقيات أوسلو معاً، وهي الاتفاقيات الوحيدة التي كادت تنجح. ثم يفتخر هالتير قائلاً إنه هو الذي قدم سهى الطويل إلى ياسر عرفات في تونس صحافيةً تريد إجراء مقابلة معه. فوقع في حبها من أول نظرة وأصبحت زوجته ووالدة طفلته الوحيدة التي دعاها «زهوة» على اسم أمه العزيزة الغالية...
- ماريك هالتير يستدعي عرفات وبيريز إلى شقته
بعد ذلك بسنوات طويلة؛ وبالتحديد عام 1992، ابتدأت المناورات الكبرى التي ستؤدي إلى «اتفاقيات أوسلو» واعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل. وقد لعب مؤلف الكتاب دوراً كبيراً فيها نظراً لعلاقاته الوثيقة مع كلا الطرفين؛ العربي والإسرائيلي. ولهذا السبب سافر ماريك هالتير مع زوجته كلارا إلى تونس لإقناع عرفات بالفكرة. وعندما عرفت صديقتهما سهى بمجيئهما أرسلت لهما سيارة خاصة إلى مطار قرطاج وحجزت لهما غرفة في فندق «هيلتون». وتعشّى الأربعة في شقة عرفات، ودار الحديث التالي: قال له عرفات وهو يشير إلى بطن سهى الحامل: انظر يا صديقي؛ هذا هو الكتاب الذي وعدتك به! وكان قد وعده بكتابة مذكراته وإرسالها إلى ناشر فرنسي، ولكنه لم يفعل، وإنما اكتفى فقط بالإنجاب! وفي نهاية العشاء سأله عرفات: هل هناك من سبب خاص لزيارتكم؟ فأجابه: نعم. إني أدعوك إلى زيارتي في شقتي الباريسية لكي تلتقي بشخصية إسرائيلية كبيرة. ومن هي؟ شمعون بيريز. وكان هذا اللقاء السري حاسماً في نجاح مؤتمر أوسلو. وكان عرفات أول الواصلين، ثم تبعه بيريز، وتصافحا لأول مرة أمام ماريك هالتير وزوجته كلارا. قال له بيريز: السيد الرئيس: رجالنا يتفاوضون في أوسلو كما تعلم، ونأمل أن ينجحوا. ولكن لا نستطيع أنا وأنت أن نحل في نصف ساعة مشكلة ضخمة عمرها نصف قرن على الأقل. وبعد خروج بيريز وسفره إلى لندن التفت عرفات إلى ماريك هالتير وقال له: صديقك بيريز شخص جيد، ولكن أنا بحاجة إلى جنرال لكي أتفاوض معه. وعندئذ فرض إسحاق رابين نفسه.
- لقاؤه مع أنور السادات
نفهم من كلام المؤلف أن زوجته كلارا هي التي اقترحت على السادات زيارة إسرائيل وإلقاء خطابه التاريخي الشهير في الكنيست. وهي فكرة جنونية في ذلك الوقت. كيف حدث اللقاء؟ القصة وما فيها جرت على النحو التالي: كان المؤلف وزوجته قد وصلا إلى مطار القاهرة حيث استقبلهما لطفي الخولي وزوجته، وكلاهما يتقن الفرنسية تماماً. ثم حجز لهما غرفة في «شيراتون» على ضفاف النيل. وبعدئذ قادهما للعشاء في منزل الممثل حسين فهمي صديق السادات. وقد حضر العشاء مراد غالب سفير مصر في موسكو. وبعد منتصف الليل فوجئ حسين فهمي بسيارة رسمية تتوقف أمام البيت القريب من الأهرامات. فخرج لمعرفة السبب، فإذا به وجهاً لوجه مع الرئيس السادات شخصياً. وهذا يعني أن الرئيس كان يعرف مدى أهمية ماريك هالتير وزوجته ومدى قربهما من القادة الإسرائيليين والعالميين. وعندئذ اقترحت عليه كلارا الفكرة. فرد عليها السادات حرفياً: شكراً على اقتراحك ليدي كلارا. سوف أفكر في الموضوع. وبالفعل؛ فهي الفكرة التي نفذها لاحقاً تحت أنظار العالم كله ولا أحد يكاد يصدق! وعندما سلّم على الشخصيات الرسمية في «مطار بن غوريون» لمح السادات شبح كلارا وزوجها وراء موشي دايان فقال لهما: هكذا تلاحظين مدام كلارا: لقد نفذت فكرتك حرفياً... إلخ.
لا أعرف ما إذا كان الرجل يريد أن يضخم مكانته أو يعطي لنفسه قيمة أكبر منه. ولكن يبقى الكتاب ممتعاً جداً ومليئاً بالمفاجآت والأسرار اليهودية والعربية والعالمية... كنت أتمنى لو كنت أمتلك الوقت الكافي للتحدث عن لقاءاته بمشاهير العرب؛ من أمثال: إدوارد سعيد، ومحمود درويش، وأمين معلوف... هذا ناهيك بمشاهير العالم من أمثال: تشومسكي، وهربرت ماركيوز، وجارودي... إلخ. ولكن الوقت ضاق والمكان لا يتسع...
ماريك هالتير في مذكراته: كنت أحلم بتغيير العالم
تحتوي تفاصيل عن دوره في اتفاقية أوسلو ولقاءاته مع السادات وعرفات وبيريز
ماريك هالتير في مذكراته: كنت أحلم بتغيير العالم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة