كاترينا ساكيلاروبولو... كسرت التقاليد في اليونان

أول امرأة تتربع على رأس هرم السلطة في البلاد

كاترينا ساكيلاروبولو... كسرت التقاليد في اليونان
TT

كاترينا ساكيلاروبولو... كسرت التقاليد في اليونان

كاترينا ساكيلاروبولو... كسرت التقاليد في اليونان

تؤكد اليونان، في مستهل العقد الثالث من القرن الـ21، موقعها الصحيح الحاسم في العالم المتقدم الحديث، من خلال صعود امرأة إلى رأس هرم السلطة في البلاد لأول مرة في تاريخ بلاد الإغريق الحديث.
هذا الحدث يتجسد بتولي القاضية كاترينا ساكيلاروبولو منصب رئاسة الجمهورية اعتباراً من 13 مارس (آذار) المقبل، وهو التاريخ الرسمي لانتهاء فترة الرئيس الحالي بروكوبيس بافلوبولوس. ولقد علّق مراقبون لـ«الشرق الأوسط» معتبرين التوافق على تعيين الرئيسة الجديدة «نصراً للمرأة اليونانية»، في حين رأى آخرون أن التركيز على مسألة الصراع بين الجنسين يقلل من قيمة الاختيار ومزايا الرئيسة.

لم تكن القاضية اليونانية كاترينا (اسمها الرسمي إيكاتيريني) ساكيلاروبولو (62 سنة) قبل يوم 15 يناير (كانون الثاني) المنصرم تعلم أنها ستغدو «حديث الساعة»، سواء داخل اليونان أو خارجها، في أعقاب اختيارها لتكون رئيسة للجمهورية اليونانية. ولكن تجدر الإشارة إلى أنه لم تكن فكرة تعيين امرأة لهذا المنصب الفخري الرفيع وليدة اللحظة، لا سيما عند رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس الذي كان وراء ترشيحها، إذ تردد خلال السنوات العشر الأخيرة تقريباً في وسائل الإعلام كلام كثير عن احتمال ترشيح دورا باكوياني، وزيرة الخارجية السابقة شقيقة ميتسوتاكيس الكبرى، أو يانا أنجيلوبولو رئيسة اللجنة الأوليمبية اليونانية 2004، للمنصب.

- بطاقة هوية
ولدت إيكاتيريني ساكيلاروبولو في مدينة ثيسالونيكي (سلانيك) الساحلية، عاصمة شمال اليونان، يوم 30 مايو (أيار) 1956، لعائلة من بلدو ستافروبولي بإقليم كزانثي (أقصى شمال البلاد). وهي أم لولد واحد، ثم إنها سليلة عائلة عملت في السلك القضائي، وابنة قاض، هو نيكولاوس ساكيلاروبولوس الذي شغل منصب نائب رئيس المحكمة العليا.
تلقت تعليمها الجامعي في جامعة أثينا الكابوديسترية العريقة، كبرى جامعات اليونان، وحازت فيها الإجازة في الحقوق، وتابعت دراساتها القانونية العليا في جامعة باريس 2 (بانثيون - أساس) الفرنسية متخصصة في القانون الدستوري وقانون البيئة، وهي تجيد بجانب اليونانية اللغتين الإنجليزية والفرنسية.
انضمت إلى السلك القضائي كمقرّر في نوفمبر (تشرين الثاني) 1982، ولاحقاً انتخبت نائباً لرئيس المحكمة العليا في أكتوبر (تشرين الأول) 2015. وأصبحت أول امرأة ترأس هذه الجهة القضائية في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، بعد ترشيحها من قبل الحكومة السابقة، برئاسة أليكسيس تسيبراس.

- «تقدمية» رشحها «محافظ»
ساكيلاروبولو التي تعد «تقدمية» في اهتماماتها وهويتها السياسية، بعكس توجهات رئيس الحكومة المحافظ، تميزت بشكل خاص في ملفات حماية البيئة، مع الحرص في الوقت نفسه على الحفاظ على الاستثمار في البلاد التي شهدت أزمة مالية استغرقت عقداً من الزمن. ومن ثم، فإنها واجهت في هذا السياق انتقادات لأنها دافعت عن مشروع استثمار مثير للجدل لشركة مناجم كندية في شمال اليونان. وبناءً عليه، جاء وصولها إلى رأس السلطة في اليونان ورقة رابحة في يد الحكومة المحافظة التي تراهن على الطاقة المراعية للبيئة من أجل إنهاض البلاد.
ومن ناحية ثانية، يصف عدد من المراقبين اختيار ميتسوتاكيس «المحافظ» لساكيلاروبولو «التقدمية» أكثر من انتصار رمزي للنساء. ويذهبون إلى حد القول إنه شيء أعمق من النصر على مستوى الرمزية، أو النصر في معركة الجنسين؛ ذلك أنه في صباح اليوم التالي لاختيار ساكيلاروبولو، صدم مواطنو أثينا من الملصقات ضد الإجهاض في محطات المترو وسط العاصمة. وعلى عجل، في غضون ساعات قليلة، جُمعت اللافتات، ونُظمت حملة تهدف إلى الإشارة إلى الإرادة الحرة للمرأة. ومن ثم، يرى عدد من المراقبين أن اختيار ساكيلاروبولو ربما جاء عمداً ليمثل تعايش النزعتين «المحافظة» و«التقدمية» في اليونان.
وفي اتصال هاتفي لـ«الشرق الأوسط» مع مواطنة يونانية اسمها ديميترا، هي جارة للرئيسة الجديدة التي تسكن في حي ميتاكسورجيو الشعبي، وسط العاصمة أثينا، قالت ديميترا إن «ساكيلاروبولو ولدت لتكون زعيمة، وهذا واضح من شخصيتها»، وتابعت: «جاء اختيارها أيضاً في الوقت المناسب، عندما آن أوان التغيير»، ثم قالت: «... الحقيقة أن ساكيلاروبولو امرأة ذات قيمة، وتتمتع بـ(كاريزما) تمكّنها من كسر جميع الحواجز، والوصول إلى المراكز العليا، وإلا ما كانت لتصل إلى مركز رئيس مجلس الدولة».

- شخصية عادية بسيطة
ومع هذا، يقول مقربون من الرئيسة الجديدة إنها شخصية عادية بسيطة، تفضل أن يطلق عليها اسم «كاترينا»، بدلاً من إيكاتيريني. وفي لقاءات مع «الشرق الأوسط»، اعتبر بعض المواطنين أن اختيار ساكيلاروبولو لا يرمز إلى أي شيء، وحتماً لا يرسل رسالة المساواة والتقدم، كما يدعي البعض، بل يرى هؤلاء أن التركيز على مسألة الصراع بين الجنسين يقلل من قيمة الاختيار.
ويرى آخرون أن ساكيلاروبولو ليست مجرد صورة بجوار تعليق «المفاجأة، اختيار أول امرأة رئيسة للجمهورية»، بل هي شخصية ذات تاريخ وقيمة وعمل، تتفوق بكثير على الأسماء الأخرى التي كانت تتردد أسمائها كمرشحين للمنصب، ويشيرون إلى أنها رائدة في مجال العدالة، وقائدة في المسائل البيئية، وأن النضالات التي خاضتها وانتصرت فيها ستجنبها الضربات والتحديات. ويشدد أصحاب هذا الرأي على أن المسألة أكبر من أنها امرأة فقط... بينما يدور النقاش عن الاستدامة وتغير المناخ، وهما في صميم دراساتها وأعمالها، وبالتالي ريادتها.
المحلل السياسي بيتروس زوماس -وهو من أصل عربي- قال في لقاء مع «الشرق الأوسط» إن ترشيح رئيس وزراء اليونان القاضية ساكيلاروبولو لمنصب رئاسة الجمهورية سابقة فريدة من نوعها، وتابع أن الرئيس ميتسوتاكيس ضرب بهذا الاختيار عصفورين بحجر واحد، لأنه كان قد تعرض إلى انتقادات خاصة من حزب المعارضة، وذلك لأن الحكومة الحالية لحزب الديمقراطية الجديدة المحافظ الحاكم لا تضم عدداً كافياً من النساء، ولا ينسجم ذلك مع الطروحات الحكومية عن المساواة، وإعطاء المرأة مكانة توازي مكانة الرجل. وبالتالي من خلال هذا القرار، استطاع رئيس الوزراء المحافظة على التوازن، والرد على الانتقادات التي وجهت له ولحكومته.
أيضاً أشار زوماس إلى أن رغبة رئيس الوزراء وحكومته كانت اختيار شخصية يتفق عليها الجميع، خاصة حزب المعارضة اليساري الرئيسي «سيريزا»، بحيث يلتف الجميع حول الرئيس الجديد، فيغدو عامل توحيد لا عامل فرقة. وهكذا، جاء اختيار ساكيلاروبولو ليضع أحزاب البرلمان الصغيرة الأخرى في موقع لا يُحسد عليه، فما كان باستطاعتهم رفض هذا الترشيح، لأنهم كانوا إذ ذاك سيتهمون بالتعصب.

- يوم الاختيار التاريخي
يوم الأربعاء 22 من يناير (كانون الثاني)، بموافقة 261 نائباً من أصل 300 نائب، انتخب البرلمان اليوناني القاضية خبيرة القانون الدستوري وقانون البيئة لتكون أول امرأة في تاريخ اليونان ترأس الجمهورية. وجاء التصويت بالموافقة على الرئيسة الجديدة من قبل الأحزاب الثلاثة الكبيرة في البرلمان اليوناني، وفق ما أعلنه رئيس البرلمان كوستاس تاسولاس، وهي: حزب الديمقراطية الجديدة الحاكم و«سيريزا» وحركة التغيير.
وحقاً، انتخبت ساكيلاروبولو في الدورة الأولى للاقتراع بعد تسميتها من قبل رئيس الحكومة ميتسوتاكيس، وهو أمر غير مسبوق في انتخابات رئاسية يونانية. ويذكر أن رئيس الحكومة وصفها في تصريحات سابقة بمرشحة «الوحدة» و«التقدم»، وقال إنه اختارها لأنها بعيدة عن الانقسامات الحزبية التقليدية في البلاد.
وبعد الانتخاب في الاقتراع الأول، بما يتجاوز بكثير الثلثين المطلوبة من مجلس النواب، أعلن انتخاب الرئيسة الجديدة رسمياً. وجاء في رد ساكيلاروبولو قولها: «أنا مدركه تماماً للمسؤولية التي سأتحملها»، ثم تعهدت «بالعمل مع البرلمان والحكومة والمعارضة»، قائلة: «سنعمل من أجل تحقيق أعلى توافق ممكن في الآراء، وأرسل رسالة بصوت عالٍ إلى جميع الأطراف بأن الحفاظ على السلامة الإقليمية شرط أساسي... إنني أتطلع إلى مجتمع يشفي جراح الماضي، ويتطلع إلى المستقبل بتفاؤل، وسأبذل قصارى جهدي لأداء دوري الدستوري».
وفي استطلاع للرأي فيما يتعلق باختيار ساكيلاروبولو رئيسة للجمهورية، أجاب 58 في المائة من المستفتين بأنهم يعتبرون الخيار إيجابياً إلى حد ما، مقابل31 في المائة اعتبروه سلبياً إلى حد ما، وامتنع 11 في المائة عن التأييد أو الرفض. أما على الصعيد الحزبي، فقد نال اختيارها نسبة تأييد بلغت 73 في المائة من ناخبي حزب الديمقراطية الجديدة (محافظ)، و53 في المائة من ناخبي «سيريزا» (يسار)، و66 في المائة من ناخبي حركة التغيير.
وأخيراً، فانتخاب كاترينا ساكيلاروبولو رئيسة للجمهورية اليونانية سيجعل منها واحدة ضمن مجموعة صغيرة من النساء اللواتي يشغلن أرفع المناصب السياسية في الاتحاد الأوروبي، ومن هؤلاء النساء أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا التي تتولي هذا المنصب منذ عام 2005، وصوفي ويلمز (44 سنة) البلجيكية الليبرالية التي عينت رئيس وزراء مؤقتاً في أكتوبر (تشرين الثاني) الماضي، وشارل ميشيل التي أصبحت أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة في بلجيكا.
جدير بالذكر أن الرئيسة الجديدة ستمثل اليونان في الاحتفال الكبير الذي يجري العمل عليه منذ فترة طويلة، وهو الاحتفال بمرور قرنين على الثورة اليونانية التي انطلقت عام 1821.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.