كاترينا ساكيلاروبولو... كسرت التقاليد في اليونان

أول امرأة تتربع على رأس هرم السلطة في البلاد

كاترينا ساكيلاروبولو... كسرت التقاليد في اليونان
TT

كاترينا ساكيلاروبولو... كسرت التقاليد في اليونان

كاترينا ساكيلاروبولو... كسرت التقاليد في اليونان

تؤكد اليونان، في مستهل العقد الثالث من القرن الـ21، موقعها الصحيح الحاسم في العالم المتقدم الحديث، من خلال صعود امرأة إلى رأس هرم السلطة في البلاد لأول مرة في تاريخ بلاد الإغريق الحديث.
هذا الحدث يتجسد بتولي القاضية كاترينا ساكيلاروبولو منصب رئاسة الجمهورية اعتباراً من 13 مارس (آذار) المقبل، وهو التاريخ الرسمي لانتهاء فترة الرئيس الحالي بروكوبيس بافلوبولوس. ولقد علّق مراقبون لـ«الشرق الأوسط» معتبرين التوافق على تعيين الرئيسة الجديدة «نصراً للمرأة اليونانية»، في حين رأى آخرون أن التركيز على مسألة الصراع بين الجنسين يقلل من قيمة الاختيار ومزايا الرئيسة.

لم تكن القاضية اليونانية كاترينا (اسمها الرسمي إيكاتيريني) ساكيلاروبولو (62 سنة) قبل يوم 15 يناير (كانون الثاني) المنصرم تعلم أنها ستغدو «حديث الساعة»، سواء داخل اليونان أو خارجها، في أعقاب اختيارها لتكون رئيسة للجمهورية اليونانية. ولكن تجدر الإشارة إلى أنه لم تكن فكرة تعيين امرأة لهذا المنصب الفخري الرفيع وليدة اللحظة، لا سيما عند رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس الذي كان وراء ترشيحها، إذ تردد خلال السنوات العشر الأخيرة تقريباً في وسائل الإعلام كلام كثير عن احتمال ترشيح دورا باكوياني، وزيرة الخارجية السابقة شقيقة ميتسوتاكيس الكبرى، أو يانا أنجيلوبولو رئيسة اللجنة الأوليمبية اليونانية 2004، للمنصب.

- بطاقة هوية
ولدت إيكاتيريني ساكيلاروبولو في مدينة ثيسالونيكي (سلانيك) الساحلية، عاصمة شمال اليونان، يوم 30 مايو (أيار) 1956، لعائلة من بلدو ستافروبولي بإقليم كزانثي (أقصى شمال البلاد). وهي أم لولد واحد، ثم إنها سليلة عائلة عملت في السلك القضائي، وابنة قاض، هو نيكولاوس ساكيلاروبولوس الذي شغل منصب نائب رئيس المحكمة العليا.
تلقت تعليمها الجامعي في جامعة أثينا الكابوديسترية العريقة، كبرى جامعات اليونان، وحازت فيها الإجازة في الحقوق، وتابعت دراساتها القانونية العليا في جامعة باريس 2 (بانثيون - أساس) الفرنسية متخصصة في القانون الدستوري وقانون البيئة، وهي تجيد بجانب اليونانية اللغتين الإنجليزية والفرنسية.
انضمت إلى السلك القضائي كمقرّر في نوفمبر (تشرين الثاني) 1982، ولاحقاً انتخبت نائباً لرئيس المحكمة العليا في أكتوبر (تشرين الأول) 2015. وأصبحت أول امرأة ترأس هذه الجهة القضائية في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، بعد ترشيحها من قبل الحكومة السابقة، برئاسة أليكسيس تسيبراس.

- «تقدمية» رشحها «محافظ»
ساكيلاروبولو التي تعد «تقدمية» في اهتماماتها وهويتها السياسية، بعكس توجهات رئيس الحكومة المحافظ، تميزت بشكل خاص في ملفات حماية البيئة، مع الحرص في الوقت نفسه على الحفاظ على الاستثمار في البلاد التي شهدت أزمة مالية استغرقت عقداً من الزمن. ومن ثم، فإنها واجهت في هذا السياق انتقادات لأنها دافعت عن مشروع استثمار مثير للجدل لشركة مناجم كندية في شمال اليونان. وبناءً عليه، جاء وصولها إلى رأس السلطة في اليونان ورقة رابحة في يد الحكومة المحافظة التي تراهن على الطاقة المراعية للبيئة من أجل إنهاض البلاد.
ومن ناحية ثانية، يصف عدد من المراقبين اختيار ميتسوتاكيس «المحافظ» لساكيلاروبولو «التقدمية» أكثر من انتصار رمزي للنساء. ويذهبون إلى حد القول إنه شيء أعمق من النصر على مستوى الرمزية، أو النصر في معركة الجنسين؛ ذلك أنه في صباح اليوم التالي لاختيار ساكيلاروبولو، صدم مواطنو أثينا من الملصقات ضد الإجهاض في محطات المترو وسط العاصمة. وعلى عجل، في غضون ساعات قليلة، جُمعت اللافتات، ونُظمت حملة تهدف إلى الإشارة إلى الإرادة الحرة للمرأة. ومن ثم، يرى عدد من المراقبين أن اختيار ساكيلاروبولو ربما جاء عمداً ليمثل تعايش النزعتين «المحافظة» و«التقدمية» في اليونان.
وفي اتصال هاتفي لـ«الشرق الأوسط» مع مواطنة يونانية اسمها ديميترا، هي جارة للرئيسة الجديدة التي تسكن في حي ميتاكسورجيو الشعبي، وسط العاصمة أثينا، قالت ديميترا إن «ساكيلاروبولو ولدت لتكون زعيمة، وهذا واضح من شخصيتها»، وتابعت: «جاء اختيارها أيضاً في الوقت المناسب، عندما آن أوان التغيير»، ثم قالت: «... الحقيقة أن ساكيلاروبولو امرأة ذات قيمة، وتتمتع بـ(كاريزما) تمكّنها من كسر جميع الحواجز، والوصول إلى المراكز العليا، وإلا ما كانت لتصل إلى مركز رئيس مجلس الدولة».

- شخصية عادية بسيطة
ومع هذا، يقول مقربون من الرئيسة الجديدة إنها شخصية عادية بسيطة، تفضل أن يطلق عليها اسم «كاترينا»، بدلاً من إيكاتيريني. وفي لقاءات مع «الشرق الأوسط»، اعتبر بعض المواطنين أن اختيار ساكيلاروبولو لا يرمز إلى أي شيء، وحتماً لا يرسل رسالة المساواة والتقدم، كما يدعي البعض، بل يرى هؤلاء أن التركيز على مسألة الصراع بين الجنسين يقلل من قيمة الاختيار.
ويرى آخرون أن ساكيلاروبولو ليست مجرد صورة بجوار تعليق «المفاجأة، اختيار أول امرأة رئيسة للجمهورية»، بل هي شخصية ذات تاريخ وقيمة وعمل، تتفوق بكثير على الأسماء الأخرى التي كانت تتردد أسمائها كمرشحين للمنصب، ويشيرون إلى أنها رائدة في مجال العدالة، وقائدة في المسائل البيئية، وأن النضالات التي خاضتها وانتصرت فيها ستجنبها الضربات والتحديات. ويشدد أصحاب هذا الرأي على أن المسألة أكبر من أنها امرأة فقط... بينما يدور النقاش عن الاستدامة وتغير المناخ، وهما في صميم دراساتها وأعمالها، وبالتالي ريادتها.
المحلل السياسي بيتروس زوماس -وهو من أصل عربي- قال في لقاء مع «الشرق الأوسط» إن ترشيح رئيس وزراء اليونان القاضية ساكيلاروبولو لمنصب رئاسة الجمهورية سابقة فريدة من نوعها، وتابع أن الرئيس ميتسوتاكيس ضرب بهذا الاختيار عصفورين بحجر واحد، لأنه كان قد تعرض إلى انتقادات خاصة من حزب المعارضة، وذلك لأن الحكومة الحالية لحزب الديمقراطية الجديدة المحافظ الحاكم لا تضم عدداً كافياً من النساء، ولا ينسجم ذلك مع الطروحات الحكومية عن المساواة، وإعطاء المرأة مكانة توازي مكانة الرجل. وبالتالي من خلال هذا القرار، استطاع رئيس الوزراء المحافظة على التوازن، والرد على الانتقادات التي وجهت له ولحكومته.
أيضاً أشار زوماس إلى أن رغبة رئيس الوزراء وحكومته كانت اختيار شخصية يتفق عليها الجميع، خاصة حزب المعارضة اليساري الرئيسي «سيريزا»، بحيث يلتف الجميع حول الرئيس الجديد، فيغدو عامل توحيد لا عامل فرقة. وهكذا، جاء اختيار ساكيلاروبولو ليضع أحزاب البرلمان الصغيرة الأخرى في موقع لا يُحسد عليه، فما كان باستطاعتهم رفض هذا الترشيح، لأنهم كانوا إذ ذاك سيتهمون بالتعصب.

- يوم الاختيار التاريخي
يوم الأربعاء 22 من يناير (كانون الثاني)، بموافقة 261 نائباً من أصل 300 نائب، انتخب البرلمان اليوناني القاضية خبيرة القانون الدستوري وقانون البيئة لتكون أول امرأة في تاريخ اليونان ترأس الجمهورية. وجاء التصويت بالموافقة على الرئيسة الجديدة من قبل الأحزاب الثلاثة الكبيرة في البرلمان اليوناني، وفق ما أعلنه رئيس البرلمان كوستاس تاسولاس، وهي: حزب الديمقراطية الجديدة الحاكم و«سيريزا» وحركة التغيير.
وحقاً، انتخبت ساكيلاروبولو في الدورة الأولى للاقتراع بعد تسميتها من قبل رئيس الحكومة ميتسوتاكيس، وهو أمر غير مسبوق في انتخابات رئاسية يونانية. ويذكر أن رئيس الحكومة وصفها في تصريحات سابقة بمرشحة «الوحدة» و«التقدم»، وقال إنه اختارها لأنها بعيدة عن الانقسامات الحزبية التقليدية في البلاد.
وبعد الانتخاب في الاقتراع الأول، بما يتجاوز بكثير الثلثين المطلوبة من مجلس النواب، أعلن انتخاب الرئيسة الجديدة رسمياً. وجاء في رد ساكيلاروبولو قولها: «أنا مدركه تماماً للمسؤولية التي سأتحملها»، ثم تعهدت «بالعمل مع البرلمان والحكومة والمعارضة»، قائلة: «سنعمل من أجل تحقيق أعلى توافق ممكن في الآراء، وأرسل رسالة بصوت عالٍ إلى جميع الأطراف بأن الحفاظ على السلامة الإقليمية شرط أساسي... إنني أتطلع إلى مجتمع يشفي جراح الماضي، ويتطلع إلى المستقبل بتفاؤل، وسأبذل قصارى جهدي لأداء دوري الدستوري».
وفي استطلاع للرأي فيما يتعلق باختيار ساكيلاروبولو رئيسة للجمهورية، أجاب 58 في المائة من المستفتين بأنهم يعتبرون الخيار إيجابياً إلى حد ما، مقابل31 في المائة اعتبروه سلبياً إلى حد ما، وامتنع 11 في المائة عن التأييد أو الرفض. أما على الصعيد الحزبي، فقد نال اختيارها نسبة تأييد بلغت 73 في المائة من ناخبي حزب الديمقراطية الجديدة (محافظ)، و53 في المائة من ناخبي «سيريزا» (يسار)، و66 في المائة من ناخبي حركة التغيير.
وأخيراً، فانتخاب كاترينا ساكيلاروبولو رئيسة للجمهورية اليونانية سيجعل منها واحدة ضمن مجموعة صغيرة من النساء اللواتي يشغلن أرفع المناصب السياسية في الاتحاد الأوروبي، ومن هؤلاء النساء أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا التي تتولي هذا المنصب منذ عام 2005، وصوفي ويلمز (44 سنة) البلجيكية الليبرالية التي عينت رئيس وزراء مؤقتاً في أكتوبر (تشرين الثاني) الماضي، وشارل ميشيل التي أصبحت أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة في بلجيكا.
جدير بالذكر أن الرئيسة الجديدة ستمثل اليونان في الاحتفال الكبير الذي يجري العمل عليه منذ فترة طويلة، وهو الاحتفال بمرور قرنين على الثورة اليونانية التي انطلقت عام 1821.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.