كاترينا ساكيلاروبولو... كسرت التقاليد في اليونان

أول امرأة تتربع على رأس هرم السلطة في البلاد

كاترينا ساكيلاروبولو... كسرت التقاليد في اليونان
TT

كاترينا ساكيلاروبولو... كسرت التقاليد في اليونان

كاترينا ساكيلاروبولو... كسرت التقاليد في اليونان

تؤكد اليونان، في مستهل العقد الثالث من القرن الـ21، موقعها الصحيح الحاسم في العالم المتقدم الحديث، من خلال صعود امرأة إلى رأس هرم السلطة في البلاد لأول مرة في تاريخ بلاد الإغريق الحديث.
هذا الحدث يتجسد بتولي القاضية كاترينا ساكيلاروبولو منصب رئاسة الجمهورية اعتباراً من 13 مارس (آذار) المقبل، وهو التاريخ الرسمي لانتهاء فترة الرئيس الحالي بروكوبيس بافلوبولوس. ولقد علّق مراقبون لـ«الشرق الأوسط» معتبرين التوافق على تعيين الرئيسة الجديدة «نصراً للمرأة اليونانية»، في حين رأى آخرون أن التركيز على مسألة الصراع بين الجنسين يقلل من قيمة الاختيار ومزايا الرئيسة.

لم تكن القاضية اليونانية كاترينا (اسمها الرسمي إيكاتيريني) ساكيلاروبولو (62 سنة) قبل يوم 15 يناير (كانون الثاني) المنصرم تعلم أنها ستغدو «حديث الساعة»، سواء داخل اليونان أو خارجها، في أعقاب اختيارها لتكون رئيسة للجمهورية اليونانية. ولكن تجدر الإشارة إلى أنه لم تكن فكرة تعيين امرأة لهذا المنصب الفخري الرفيع وليدة اللحظة، لا سيما عند رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس الذي كان وراء ترشيحها، إذ تردد خلال السنوات العشر الأخيرة تقريباً في وسائل الإعلام كلام كثير عن احتمال ترشيح دورا باكوياني، وزيرة الخارجية السابقة شقيقة ميتسوتاكيس الكبرى، أو يانا أنجيلوبولو رئيسة اللجنة الأوليمبية اليونانية 2004، للمنصب.

- بطاقة هوية
ولدت إيكاتيريني ساكيلاروبولو في مدينة ثيسالونيكي (سلانيك) الساحلية، عاصمة شمال اليونان، يوم 30 مايو (أيار) 1956، لعائلة من بلدو ستافروبولي بإقليم كزانثي (أقصى شمال البلاد). وهي أم لولد واحد، ثم إنها سليلة عائلة عملت في السلك القضائي، وابنة قاض، هو نيكولاوس ساكيلاروبولوس الذي شغل منصب نائب رئيس المحكمة العليا.
تلقت تعليمها الجامعي في جامعة أثينا الكابوديسترية العريقة، كبرى جامعات اليونان، وحازت فيها الإجازة في الحقوق، وتابعت دراساتها القانونية العليا في جامعة باريس 2 (بانثيون - أساس) الفرنسية متخصصة في القانون الدستوري وقانون البيئة، وهي تجيد بجانب اليونانية اللغتين الإنجليزية والفرنسية.
انضمت إلى السلك القضائي كمقرّر في نوفمبر (تشرين الثاني) 1982، ولاحقاً انتخبت نائباً لرئيس المحكمة العليا في أكتوبر (تشرين الأول) 2015. وأصبحت أول امرأة ترأس هذه الجهة القضائية في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، بعد ترشيحها من قبل الحكومة السابقة، برئاسة أليكسيس تسيبراس.

- «تقدمية» رشحها «محافظ»
ساكيلاروبولو التي تعد «تقدمية» في اهتماماتها وهويتها السياسية، بعكس توجهات رئيس الحكومة المحافظ، تميزت بشكل خاص في ملفات حماية البيئة، مع الحرص في الوقت نفسه على الحفاظ على الاستثمار في البلاد التي شهدت أزمة مالية استغرقت عقداً من الزمن. ومن ثم، فإنها واجهت في هذا السياق انتقادات لأنها دافعت عن مشروع استثمار مثير للجدل لشركة مناجم كندية في شمال اليونان. وبناءً عليه، جاء وصولها إلى رأس السلطة في اليونان ورقة رابحة في يد الحكومة المحافظة التي تراهن على الطاقة المراعية للبيئة من أجل إنهاض البلاد.
ومن ناحية ثانية، يصف عدد من المراقبين اختيار ميتسوتاكيس «المحافظ» لساكيلاروبولو «التقدمية» أكثر من انتصار رمزي للنساء. ويذهبون إلى حد القول إنه شيء أعمق من النصر على مستوى الرمزية، أو النصر في معركة الجنسين؛ ذلك أنه في صباح اليوم التالي لاختيار ساكيلاروبولو، صدم مواطنو أثينا من الملصقات ضد الإجهاض في محطات المترو وسط العاصمة. وعلى عجل، في غضون ساعات قليلة، جُمعت اللافتات، ونُظمت حملة تهدف إلى الإشارة إلى الإرادة الحرة للمرأة. ومن ثم، يرى عدد من المراقبين أن اختيار ساكيلاروبولو ربما جاء عمداً ليمثل تعايش النزعتين «المحافظة» و«التقدمية» في اليونان.
وفي اتصال هاتفي لـ«الشرق الأوسط» مع مواطنة يونانية اسمها ديميترا، هي جارة للرئيسة الجديدة التي تسكن في حي ميتاكسورجيو الشعبي، وسط العاصمة أثينا، قالت ديميترا إن «ساكيلاروبولو ولدت لتكون زعيمة، وهذا واضح من شخصيتها»، وتابعت: «جاء اختيارها أيضاً في الوقت المناسب، عندما آن أوان التغيير»، ثم قالت: «... الحقيقة أن ساكيلاروبولو امرأة ذات قيمة، وتتمتع بـ(كاريزما) تمكّنها من كسر جميع الحواجز، والوصول إلى المراكز العليا، وإلا ما كانت لتصل إلى مركز رئيس مجلس الدولة».

- شخصية عادية بسيطة
ومع هذا، يقول مقربون من الرئيسة الجديدة إنها شخصية عادية بسيطة، تفضل أن يطلق عليها اسم «كاترينا»، بدلاً من إيكاتيريني. وفي لقاءات مع «الشرق الأوسط»، اعتبر بعض المواطنين أن اختيار ساكيلاروبولو لا يرمز إلى أي شيء، وحتماً لا يرسل رسالة المساواة والتقدم، كما يدعي البعض، بل يرى هؤلاء أن التركيز على مسألة الصراع بين الجنسين يقلل من قيمة الاختيار.
ويرى آخرون أن ساكيلاروبولو ليست مجرد صورة بجوار تعليق «المفاجأة، اختيار أول امرأة رئيسة للجمهورية»، بل هي شخصية ذات تاريخ وقيمة وعمل، تتفوق بكثير على الأسماء الأخرى التي كانت تتردد أسمائها كمرشحين للمنصب، ويشيرون إلى أنها رائدة في مجال العدالة، وقائدة في المسائل البيئية، وأن النضالات التي خاضتها وانتصرت فيها ستجنبها الضربات والتحديات. ويشدد أصحاب هذا الرأي على أن المسألة أكبر من أنها امرأة فقط... بينما يدور النقاش عن الاستدامة وتغير المناخ، وهما في صميم دراساتها وأعمالها، وبالتالي ريادتها.
المحلل السياسي بيتروس زوماس -وهو من أصل عربي- قال في لقاء مع «الشرق الأوسط» إن ترشيح رئيس وزراء اليونان القاضية ساكيلاروبولو لمنصب رئاسة الجمهورية سابقة فريدة من نوعها، وتابع أن الرئيس ميتسوتاكيس ضرب بهذا الاختيار عصفورين بحجر واحد، لأنه كان قد تعرض إلى انتقادات خاصة من حزب المعارضة، وذلك لأن الحكومة الحالية لحزب الديمقراطية الجديدة المحافظ الحاكم لا تضم عدداً كافياً من النساء، ولا ينسجم ذلك مع الطروحات الحكومية عن المساواة، وإعطاء المرأة مكانة توازي مكانة الرجل. وبالتالي من خلال هذا القرار، استطاع رئيس الوزراء المحافظة على التوازن، والرد على الانتقادات التي وجهت له ولحكومته.
أيضاً أشار زوماس إلى أن رغبة رئيس الوزراء وحكومته كانت اختيار شخصية يتفق عليها الجميع، خاصة حزب المعارضة اليساري الرئيسي «سيريزا»، بحيث يلتف الجميع حول الرئيس الجديد، فيغدو عامل توحيد لا عامل فرقة. وهكذا، جاء اختيار ساكيلاروبولو ليضع أحزاب البرلمان الصغيرة الأخرى في موقع لا يُحسد عليه، فما كان باستطاعتهم رفض هذا الترشيح، لأنهم كانوا إذ ذاك سيتهمون بالتعصب.

- يوم الاختيار التاريخي
يوم الأربعاء 22 من يناير (كانون الثاني)، بموافقة 261 نائباً من أصل 300 نائب، انتخب البرلمان اليوناني القاضية خبيرة القانون الدستوري وقانون البيئة لتكون أول امرأة في تاريخ اليونان ترأس الجمهورية. وجاء التصويت بالموافقة على الرئيسة الجديدة من قبل الأحزاب الثلاثة الكبيرة في البرلمان اليوناني، وفق ما أعلنه رئيس البرلمان كوستاس تاسولاس، وهي: حزب الديمقراطية الجديدة الحاكم و«سيريزا» وحركة التغيير.
وحقاً، انتخبت ساكيلاروبولو في الدورة الأولى للاقتراع بعد تسميتها من قبل رئيس الحكومة ميتسوتاكيس، وهو أمر غير مسبوق في انتخابات رئاسية يونانية. ويذكر أن رئيس الحكومة وصفها في تصريحات سابقة بمرشحة «الوحدة» و«التقدم»، وقال إنه اختارها لأنها بعيدة عن الانقسامات الحزبية التقليدية في البلاد.
وبعد الانتخاب في الاقتراع الأول، بما يتجاوز بكثير الثلثين المطلوبة من مجلس النواب، أعلن انتخاب الرئيسة الجديدة رسمياً. وجاء في رد ساكيلاروبولو قولها: «أنا مدركه تماماً للمسؤولية التي سأتحملها»، ثم تعهدت «بالعمل مع البرلمان والحكومة والمعارضة»، قائلة: «سنعمل من أجل تحقيق أعلى توافق ممكن في الآراء، وأرسل رسالة بصوت عالٍ إلى جميع الأطراف بأن الحفاظ على السلامة الإقليمية شرط أساسي... إنني أتطلع إلى مجتمع يشفي جراح الماضي، ويتطلع إلى المستقبل بتفاؤل، وسأبذل قصارى جهدي لأداء دوري الدستوري».
وفي استطلاع للرأي فيما يتعلق باختيار ساكيلاروبولو رئيسة للجمهورية، أجاب 58 في المائة من المستفتين بأنهم يعتبرون الخيار إيجابياً إلى حد ما، مقابل31 في المائة اعتبروه سلبياً إلى حد ما، وامتنع 11 في المائة عن التأييد أو الرفض. أما على الصعيد الحزبي، فقد نال اختيارها نسبة تأييد بلغت 73 في المائة من ناخبي حزب الديمقراطية الجديدة (محافظ)، و53 في المائة من ناخبي «سيريزا» (يسار)، و66 في المائة من ناخبي حركة التغيير.
وأخيراً، فانتخاب كاترينا ساكيلاروبولو رئيسة للجمهورية اليونانية سيجعل منها واحدة ضمن مجموعة صغيرة من النساء اللواتي يشغلن أرفع المناصب السياسية في الاتحاد الأوروبي، ومن هؤلاء النساء أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا التي تتولي هذا المنصب منذ عام 2005، وصوفي ويلمز (44 سنة) البلجيكية الليبرالية التي عينت رئيس وزراء مؤقتاً في أكتوبر (تشرين الثاني) الماضي، وشارل ميشيل التي أصبحت أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة في بلجيكا.
جدير بالذكر أن الرئيسة الجديدة ستمثل اليونان في الاحتفال الكبير الذي يجري العمل عليه منذ فترة طويلة، وهو الاحتفال بمرور قرنين على الثورة اليونانية التي انطلقت عام 1821.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.