عشق الصورة... من صائغ «ألف ليلة» إلى «سيد أبو سباق»

الفضيلة الكبرى للسفر أنه يصالحنا مع أماكن عيشنا الأصلية

من منمنمات الواسطي
من منمنمات الواسطي
TT

عشق الصورة... من صائغ «ألف ليلة» إلى «سيد أبو سباق»

من منمنمات الواسطي
من منمنمات الواسطي

أفكر الآن بالريف الإنجليزي الذي طالما سكن أحلام طفولتي. هل جاءني كهاتف غامضٍ يدعوني إلى هناك دون غاية محددة؟ هل كان وشوشة حلمية بأن كنزاً ينتظرني هناك، أم أن حلمي بالعيش في ذلك المكان جاء من إغواء صورة؟
في «ألف ليلة وليلة»، لا يحتاج السفر إلى أسباب منطقية دائماً، يكفي حلم بشخص أو بكنز في البعيد، ويكفي مجرد هاجس أو إحساس مجهول، أو صورة فاتنة تدفع أحدهم لتتبع أثر صاحبة الصورة.
في الليلة التاسعة والثمانين بعد التسعمائة، تروي شهرزاد حكاية الصايغ الذي أحب جارية من صورتها. دخل ذلك الصائغ إلى بيت صديق له ولمح على حائط صورة لجارية مغنية، أطال التطلع إليها واشتغل بحبها حتى مرض مرضاً عظيماً. واستنقص أصدقاؤه عقله «كيف يتصور له عشق مصورة في حائط؟»، فأجابهم مريض الحب «ما صورها مصورها إلا على مثال رآه». ولم يكن أمام أصحابه من بد عن مساعدته في البحث عن الرسام لسؤاله عن «الموديل» فعرفوا أنه سافر إلى بلاد بعيدة؛ فكتبوا إليه ورد عليهم بأن «الصورة» تُشبه جارية مغنية لدى وزير في مدينة صهناج الهند، فتجهز الصائغ وسار من بلاد فارس ووصل بعد مشقة إلى بلاد الهند، وكانت له مغامرات في التسلل إلى مخدع الجارية ببيت الوزير، ثم الاحتيال على الملك ورشوة حارس، إلى أن تمكن من العودة بها.
وفي رواية محمد علي إبراهيم «حجر بيت خلاَّف»، يغادر سيد أبو سباق، مهرب الآثار، قريته في الصعيد للقاء الباشا الكبير في القاهرة، وفي الفندق يرى لوحة «الموناليزا» في مجلة فتفتنه، ويقصها النادل من المجلة ويضعها له في مغلف، ولكنه يسافر إلى الأصل في «اللوفر» بباريس، ويعود أكثر هوساً. استغنى بها عن النساء، وأخذ يختلي بها في هذيانات عشق طويلة!
هل كانت لسيد أبو سباق حياة أخرى عاصر فيها ليزا جيرارديني؟ المجهول بالنسبة لنا ليس مجرد لغز، بل حياة كان من الممكن أن تكون لنا، ونسافر كي نملكها.
عندما نثرثر مع أصدقائنا حول السفر، نتكلم عن المدن التي نرغب في زيارتها، لا التي زرناها. نعبر عن أمنياتنا بصيغة الحلم؛ أحلم بزيارة براغ، أحلم برؤية التبت؛ فإذا ما فكرنا فيما زرناه من قبل كنوع من التأكيد على صواب قراراتنا بالسفر، فإننا نحلم باسترداد ما حصلنا عليه يوماً ثم ابتعد: أحلم بعشاء في فيرونا في ذلك المطعم المفعم بالسكينة على ضفة نهر أديجي الوديع، أو أحلم بأن أجلس مجدداً في القاعدة الرحبة لنافذة المتحف الوطني ببودابست، بينما تمضي تحت نظري العبَّارات السياحية بالدانوب.
نحلم كذلك بالمدن التي لم نعرفها، لكن هبت علينا منها نسائم حب.لم تكن «ميا» في رواية جوخة الحارثي «سيدات القمر» قد رأت لندن، لكنها رأت علي بن خلف العائد من لندن بلا شهادة بعد سنوات من الدراسة. نظرة واحدة أسقطت عليها حُبَّه كالصاعقة. حب من طرف واحد وضعت فيه كل قوة روحها، لكن روحه لم تستلم الرسالة، ولم تأخذ ميا فرصتها حتى لرؤيته مرة واحدة إضافية، رغم ضراعتها: «والله العظيم يا رب لا أريد شيئاً... فقط أن أراه... والله العظيم يا رب لا أريده أن يلتفت لي، فقط أن أراه»، لكنها لم تره مرة أخرى.
مجنون ليلى سبق ميا بالدعاء أمام الكعبة، وعاش محروماً، وكذلك ميا كان عليها قبول الزواج من عبد الله ولد التاجر سليمان. بعد حملها طلبت أن تلد في مستشفى الإرسالية بمسقط.
واستنكر الزوج أن ينزل مولودهما على أيدي النصارى، لكنها تمسكت بطلبها. أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ أنها تريد ولادة عصرية آمنة على يدي طبيب، وليس القابلة في البلدة الصغيرة، لكننا لاحقاً سنعرف لماذا اختارت المستشفى الإنجليزي، عندما تُصرُّ على تسمية ابنتها «لندن». لقد تعلقت بالمكان الذي هبَّت منه رياح الحلم بحب لم يتحقق!
سواء كانت حياتنا حقيقية أو مجرد حلم نستيقظ منه بالموت؛ فالسفر والعودة هما مجاز الحياة والموت.
كل سفر هو حلم، وبعض الأحلام جميل، وبعضها كوابيس بسبب خبرات قاسية نتعرض لها خلال الرحلة؛ من سوء الصحبة أو سوء الخدمة واستغلال البائعين والسرقة حتى ألم الضرس!
واحدة من أجمل رحلاتي إلى رومانيا تبددت تحت ذاك الألم، لا أتذكر من تلك الرحلة الآن سوى عينين زرقاوين في وجه يُحلِّق فوقي، شباب وجمال طبيبة الأسنان شفعا عندي لقلة خبرتها. كنت أتمنى أن تسمع مني الطبيبة أي شيء إلا توسلاتي، وأن ترى مني وجهاً غير ذلك المهزوم تحت الألم.
مثل ذلك الألم، وغيره من الآلام، لا يمنعنا من معاودة الترحال، بحثاً عن شيء نتوهم أنه يخصنا هنا أو هناك، وليس مهماً أن نجده؛ إذ تبقى الفضيلة الكبرى للسفر أنه يصالحنا على أماكن عيشنا الأصلية، لأننا نعود منه مشتاقين إلى كل من وما فارقناه: الأحباب، عملنا الذي نستمد منه المعنى، سريرنا الأصلي، خبزنا، وطعم قهوتنا المعتادة.

- كاتب وروائي مصري



«هيئة المكتبات» السعودية تنظم معرضاً لمجموعة نادرة من المخطوطات التاريخية

يتضمن المعرض مجموعة فريدة ونادرة من المخطوطات التاريخية التي تُعرض لعموم الجمهور والمهتمين للمرة الأولى (واس)
يتضمن المعرض مجموعة فريدة ونادرة من المخطوطات التاريخية التي تُعرض لعموم الجمهور والمهتمين للمرة الأولى (واس)
TT

«هيئة المكتبات» السعودية تنظم معرضاً لمجموعة نادرة من المخطوطات التاريخية

يتضمن المعرض مجموعة فريدة ونادرة من المخطوطات التاريخية التي تُعرض لعموم الجمهور والمهتمين للمرة الأولى (واس)
يتضمن المعرض مجموعة فريدة ونادرة من المخطوطات التاريخية التي تُعرض لعموم الجمهور والمهتمين للمرة الأولى (واس)

تنظم هيئة المكتبات «معرض المخطوطات السعودي» في العاصمة الرياض خلال الفترة من 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي إلى 7 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، تحت شعار «حكايات تُروى لإرث يبقى»، الذي يتضمن مجموعة فريدة ونادرة من المخطوطات التاريخية التي تُعرض لعموم الجمهور والمهتمين للمرة الأولى، التي تغطي مجالات معرفية متعددة.

ويضمُّ المعرض باقة متنوعة من الفعاليات المصاحبة، تشمل ورش عمل يقدمها نُخبةٌ من العلماء والباحثين، وتحظى بمشاركة المهتمين بالتراث المخطوط؛ لمعرفة أهمية المخطوطات، وتقنيات حفظها وترميمها، ورقمنتها وأرشفتها، إلى جانب دراستها وتحليلها.

كما يُقدم المعرض تجربةً إثرائية فريدة للزائر عبر أقسامه المختلفة، وعبر التجارب الرقمية وصناعة المحتوى، والاطلاع على جدارية المخطوطات.

ويسعى «معرض المخطوطات السعودي» إلى استضافة كثير من الزوار والمهتمين بالمخطوطات على مستوى محلي وإقليمي ودوليّ، سواءً كانوا من القُرّاء والباحثين، أو مُلّاك المخطوطات من الأفراد والمؤسسات، أو صناع المحتوى الذي يتناسب مع هذا المجال، بالإضافة إلى منسوبي المكتبات السعودية والعالمية، والجهات ذات العلاقة، وذلك لتوسيع دائرة التركيز على هذا المجال الفريد، وإضفاء مزيد من التواصل للإبقاء على رونقه والاهتمام به.

يأتي تنظيم هيئة المكتبات للمعرض بهدف إبراز دور السعودية في الاهتمام بحفظ التراث الثقافي المخطوط محلياً ودولياً، وعكس أهمية حفظ التراث المخطوط، وتيسيره، ونشره محلياً وعربياً، والإسهام في النمو الثقافي والاقتصادي للقطاع في مجال المخطوطات، وتسليط الضوء على الخبرات الوطنية في علم المخطوطات وترميمها، وتعزيز الوعي المعلوماتي حول قيمة المخطوطات وتاريخها الثقافي بوصفها إرثاً ثقافياً مُمتداً.