300 ألف صوت إضافية يحلم بها كل من نتنياهو وغانتس

الناخبون العرب يريدون دوراً مؤثراً على السياسة الإسرائيلية عبر «القائمة المشتركة»

300 ألف صوت إضافية يحلم بها كل من نتنياهو وغانتس
TT

300 ألف صوت إضافية يحلم بها كل من نتنياهو وغانتس

300 ألف صوت إضافية يحلم بها كل من نتنياهو وغانتس

لقد فشل بنيامين نتنياهو في الفوز برئاسة الحكومة الإسرائيلية مرتين، لكنه نجح في البقاء رئيس حكومة 11 شهراً زيادة على المدة التي منحها له الناخبون عام 2015. نتنياهو لم يصبح فقط رئيس حكومة لأطول مدة، أكثر حتى من زعيم الحركة الصهيونية ومؤسس الدولة العبرية، ديفيد بن غوريون، بل بات رئيس الحكومة الوحيد الذي تمكّن من تمديد دورة حكمه من أربع إلى خمس سنوات. وعلى الرغم من وعود خصومه بأنهم لن يسمحوا بانتخابات رابعة هذه المرة، فإن الزعيم الليكودي المتشدد يخطط لرقم قياسي جديد: فإما يفوز بالحكم لأربع سنوات أخرى، وإما يحقق مكسباً أشد تواضعاً فيحافظ على النتيجة المتوازنة الحالية وعلى استمرار أزمة الحكم ويمدد سلطته بأشهر أخرى عدة، ويجرّ إسرائيل لانتخابات رابعة.
كل هذا، يحدث رغم الأزمة الشديدة التي يعانيها جهاز التعليم تحت قيادته، والأزمة الأشد التي يعانيها الجهاز الصحي، ومع أن خصومه يتهمونه بتقوية حركة «حماس» ودفع «الخاوة» لها حتى تخفف من إطلاق الصواريخ... والأنكى من ذلك، وجود ثلاث لوائح اتهام بالفساد جاهزة لدى النيابة ضده، في بنود خطيرة تشتمل على تلقي رشى، وممارسة الاحتيال، وخيانة الأمانة.

لكي يفوز بالجائزة الأكبر، أي الانتصار في الانتخابات والفوز برئاسة الحكومة الإسرائيلية، يحتاج بنيامين نتنياهو إلى زيادة عدد الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات الأخيرة بثلاثمائة ألف صوت، من 1.113 مليون إلى 1.4 مليون.
الأرقام نفسها تنطبق على منافس نتنياهو، بيني غانتس. فحزب الجنرالات «كحول لفان» (أزرق أبيض) الذي يقوده حصل في الانتخابات الأخيرة على 1.15 مليون صوت. وهكذا، فهو أيضاً يحتاج إلى 300 ألف صوت إضافية حتى ينهي عهد نتنياهو.
من إدارة نتنياهو وغانتس للمعركة، حتى الآن، يتضح أن كلاً منهما يسعى لسحب الأصوات من المعسكر الآخر. الأول يحاول مهاجمة غانتس على أنه يسار يتخفى بشكل يميني ليبرالي، ويحاول سحب أصوات من قوى اليمين التي انتقلت إليه. وغانتس يحاول إطلاق خطاب يميني ليجتذب الأصوات من معسكر الليكود. الخبراء يؤكدون أن كليهما يخطئ الهدف ويبتعد عنه. فالمخزون الحقيقي الذي يمكن لكل واحد منهما تحصيل الأصوات هو في مجموعة الناخبين التي تمتنع عن التصويت. ففي الانتخابات الأخيرة، التي أجرت يوم 17 سبتمبر (أيلول) 2019 بلغت نسبة التصويت عموماً في إسرائيل 69.8 في المائة، في حين بلغت في 2015 نحو 72 في المائة. وعليه، إذا تمكن أي منهما أن يرفع النسبة ويعيدها إلى ما كانت عليه في العقود الماضية، فإن عدد الناخبين سيرتفع بأكثر من 300 ألف صوت. وللعلم، في السنوات الخمسين الأولى لإسرائيل تراوحت نسبة التصويت ما بين 78.7 في المائة في سنة 1999 و86.9 في المائة عام 1949.

- فرصة نتنياهو
هل يستطيع بنيامين نتنياهو حقاً أن يزيد عدد أصوات حزبه (الليكود) بثلاثمائة ألف صوت؟
على هذا السؤال توجد إجابة واضحة وقاطعة في حزبه، هي: نعم يستطيع، رغم وقوف قسم كبير من الصحافة ضده ورغم وجود حزب منافس من الوزن الثقيل، في مواجهته. فالليكود حصل على 1.14 مليون صوت فقط في الانتخابات قبل الأخيرة، يوم 9 أبريل (نيسان) 2019، ولقد خسر في انتخابات سبتمبر 300 ألف صوت وما عليه سوى أن يستعيدها.
في محيط نتنياهو واثقون من أنه إذا تحرك بشكل جدي ووصل إلى جمهور الناخبين في البيوت والساحات، بخطاباته الشهيرة ومهاراته العالية، فسيستطيع ذلك. السبب أن جمهور اليمين يحبه لدرجة التبجيل. وسكان الأرياف يعشقونه. واليهود الشرقيون يرون فيه بطلاً قومياً. واليهود الروس يمنحونه أكثر من ثلث قوتهم. والشرائح الوسطى من المجتمع يعطونه نصف أصواتهم. وإذا كانت قضية الفساد عقبة أمام المثقفين، فإن الشرائح الضعيفة، التي تبغض الشرطة وتكره المحاكم وتعتبر الجهاز القضائي الإسرائيلي بعيداً عن النزاهة، يرون فيه ضحية للمؤسسة وينسون أنه منذ 11 سنة كان نتنياهو هو نفسه المؤسسة. إنهم يتفرجون عليه وهو يخطب في الأمم المتحدة أو أمام الكونغرس الأميركي ويُسحرون. يشاهدونه يلتقي مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويرونه كيف يستطيع أن يجلب إلى إسرائيل زعماء 46 دولة بينهم 4 ملوك و26 رئيساً وينبهرون.
لكن منافسي نتنياهو ليسوا خصماً سهلاً. حزبهم هو «حزب جنرالات»؛ إذ يضم أربعة رؤساء أركان سابقين للجيش وجنرالات آخرين عدة. يحظى بأصوات الأثرياء والمثقفين ومعظم أولئك الذين يفتشون عن تغيير جذري للسياسة الإسرائيلية. وقد أثبت أنه قادر على جلب كمية هائلة من الناخبين. عمره سنة واحدة، خاض خلالها معركتي انتخابات وتحول إلى أكبر حزب في إسرائيل.
صحيح أن قائده لا يتمتع بـ«الكاريزما» التي يتمتع بها نتنياهو، ولا يجيد الخطابة مثل نتنياهو، ولا يتقن الألاعيب الحزبية ولا يتسم بالحرارة الشعبية، لكنه رغم ذلك يتعلم الدروس ويحسن الأداء ويقلّص الهوة مع رئيس الحكومة اليميني. وفي آخر استطلاع للرأي، لأول مرة منذ سنة، قال 40 في المائة من الإسرائيليين، إن غانتس هو رئيس حكومتهم المفضل، وهو الرقم نفسه الذي حصل عليه نتنياهو.
هذا يعني أن غانتس يستطيع، موضوعياً أن يتغلب على غريمه؛ إذا أفلح في فك سر المجتمع الإسرائيلي والضرب على الوتر الصحيح. ومن ثم، فالمعركة الانتخابية الثالثة ينبغي أن تكون حاسمة.

- ما بين الأصل والتقليد
مع هذا، مشكلة غانتس، وفقاً لعشرات الخبراء، أنه يؤمن بأنه يستطيع سحب أصوات من اليمين. هذا خطأ فاحش، وقع فيه كثير من قادة الوسط واليسار، الذين حاولوا إسقاط حكم اليمين منذ عام 1977 وفشلوا. فلقد تبنوا خطاب اليمين وراحوا ينافسونه في ملعبه... بينما جمهور اليمين يفضل «اليمين الأصلي» على «اليمين المُقلد».
آخر مثل على ذلك حصل هذا الأسبوع، عندما نصب نتنياهو فخاً لغانتس فوقع هذا فيه بسهولة هو وجنرالاته الآخرون. إذ لاحظ نتنياهو أن غانتس يركّز حملته الانتخابية على موضوع الفساد، ويصرّ على دعوة الهيئة العامة للكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، الذي حلّ نفسه، من أجل البحث في طلب نتنياهو الحصول على حصانة برلمانية. هذا الموضوع محرج له ويضعفه لأنه يبرز كونه فاسداً جانياً يحاول التهرّب من المحكمة. ولذا قرّر حرف النقاش إلى موضوع آخر. وطرح اقتراحاً بأن يبحث الكنيست، ليس فقط الحصانة، بل أيضاً مشروع قانون لضم غور الأردن وشمالي البحر الميت إلى إسرائيل.
ماذا فعل غانتس؟ أخذ قادة حزبه الجنرالات في جولة في غور الأردن وأعلن من هناك أن «غور الأردن هو السور الواقي الشرقي لدولة إسرائيل في كل (سيناريو) مستقبلي. وسنعمل على تطبيق السيادة في غور الأردن، بعملية وطنية متفق عليها، وبالتنسيق مع المجتمع الدولي».
هنا، انقض نتنياهو على تصريحات غانتس هذه، مدركاً أن خصمه وقع في الفخ الذي نصبه له. فصرح بأنه يحيي غانتس على تصريحه وسيدخله في امتحان ليرى إن كان صادقاً. وقال له: «تعال نترجم هذه الأقوال إلى فعل عملي ونقرّر معاً بأكثرية 100 عضو كنيست ضم غور الأردن والبحر الميت».
هنا انتبه غانتس إلى المطب وراح يصحّح تصريحه، وخرج رفاقه في قيادة «كحول لفان» يرقّعون وراءه: «نتنياهو يحكم منذ 11 سنة وكانت لديه حكومة يمين ذات أكثرية، فلماذا لم يقرّر ضم غور الأردن؟»، و«نحن لم نقل إننا نريد ضم غور الأردن فوراً... بل أكدنا أن الأمر سيتم بالتنسيق مع المجتمع الدولي». لكن الضرر كان قد حصل، وبدا فيه غانتس بائساً ضعيفاً وفاشلاً في تقليد نتنياهو.

- الصحافة تنتقد سذاجة غانتس
وحقاً، حفلت الصحافة الإسرائيلية بالتعليقات التي سخرت من تصرّفه. وكتب بن درور يميني، المعلق السياسي في «يديعوت أحرونوت» معلقاً: «منذ أكثر من عقد وبنيامين نتنياهو رئيس للوزراء. ومنذ عشرات كثيرة من السنين واليمين في الحكم. وحتى اليوم، ويا للعجب، لم يكبّد اليمين نفسه عناء ضم غور الأردن. اليمين يعرف لماذا. وقد طرأ التغيير قبل بضعة أيام من الانتخابات السابقة. في مؤتمر صحافي غريب، أعلن نتنياهو فجأة عن أنه ينوي ضم الغور. قبل بضعة أيام بالذات من الانتخابات؟ فجأة تذكر؟ كان واضحاً أن هذه حيلة انتخابية. مرت أشهر، ولم يتم الضم. لأن الضم سيئ لإسرائيل. سيئ جداً. حتى اليوم كان يمكن لإسرائيل أن تدّعي بأن السيطرة في الضفة الغربية ليست إلى الأبد. فقد تلقى الفلسطينيون المزيد فالمزيد من عروض السلام، التي تضمنت إقامة دولة فلسطينية على نحو 95 في المائة من المناطق، بما في ذلك تبادل الأراضي؛ ما كان سيمنحهم 100 في المائة، بما في ذلك تقسيم القدس. لكنهم قالوا لا. هذه الـ«لا» الدائمة، منحت إسرائيل مبرراً مهماً لمواصلة السيطرة في الضفة. لقد فهم نتنياهو على نحو ممتاز لماذا لم يرغب أي واحد من أسلافه في الضم، وهو لأنه بدلاً من اتهام الفلسطينيين، سيقع الذنب على إسرائيل. لكن يوجد نتنياهو جديد، يحرص أكثر على نتنياهو مما على إسرائيل. هذه حيلة سياسية. نتنياهو يعرف بأن هذا سيئ. لكن إلى الجحيم بإسرائيل. المهم أن يكون ممكناً إحراج «كحول لفان». ويتبين أن الحزب الذي يدعي بأنه بديل لحكومة اليمين دخل في رأس مفتوح إلى الفخ. لماذا يحتاج غانتس إلى أن يعلن بأنه يؤيد الضم، حتى وإن كان بعد الانتخابات؟ فهل هو الآخر يحتاج إلى أن ينضم إلى هذه السخافة؟ لدى رؤساء هذا الحزب بضعة أيام كي يصحوا. لا حاجة إلى الدخول إلى الفخ. لا حاجة إلى السير في درب نتنياهو. هناك حاجة إلى قول لا واضحة وحازمة للضم. لقد فهم اليمين هذا لسنوات طويلة جداً. ويفترض بغانتس أيضاً أن يفهم هذا».

- سقطة... ومناسبة تاريخية
جاءت هذه السقطة عند غانتس في وقت كان نتنياهو يحتفل باستقبال زعماء العالم، في حدث سياسي ضخم وغير مسبوق في تاريخ إسرائيل والدول عموماً. ذلك؛ فجمع مثل هذا العدد الضخم في بلد صغير مثل إسرائيل ليس بالحدث العادي. ولقد استغله نتنياهو حتى النهاية لمصلحته الحزبية. وهو يخطّط لمزيد من هذه الحركات، التي تعتبر في السوق السياسية «ضربات معلم»، لا يستهان بها. وإذا كان غانتس يريد أن يخرج من هذه المعركة فائزاً، ولا يخسر ما حقّقه من أصوات، لا بد أن يفتّش عن طرح سياسي مغاير، يأخذ المعركة الانتخابية إلى مكانها الحقيقي. والمسألة ليست صعبة. تحتاج فقط إلى أن يتذكر غانتس لماذا جاء إلى السياسة. لماذا تأسس حزبه «كحول لفان». ولماذا دخل هذا الحشد الكبير من الجنرالات إلى عالم السياسة بواسطة حزب واحد.
النائب أيمن عودة، رئيس «القائمة المشتركة»، قال إن «على غانتس أن يأتي بخطاب سياسي مختلف يحمل فيه الأمل للشعب في إسرائيل وليس الأوهام». وصحيفة «هآرتس» أنشأت مقالاً افتتاحياً قالت فيه، إن «أيمن عودة أصاب كبد الحقيقة في انتقاده لغانتس». والمناصرون لإحداث تغيير في إسرائيل، يقولون إن «حكومة نتنياهو تضيع على إسرائيل فرصة تاريخية لتثبيت وجودها في الشرق الأوسط وتقيم سلاماً مع جميع الدول العربية، بعد التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين يقوم على أساس حل الدولتين». ويعتبرون ذلك بمثابة مساس بالمصالح الاستراتيجية لإسرائيل. ويقولون إن المواجهة مع إيران مهمة، لكنها ستبدو أقوى وأفضل إذا تمت في إطار تحالف إقليمي، وربما يستطيع تحالف إقليمي كهذا أن يجعل الإيرانيين يستيقظون ويوقفون مشاريع الهيمنة والتوسع. وعندما يطرح خطاباً كهذا، يستطيع توشيحه بالكثير من بوارق الأمل للمواطن الإسرائيلي، فيتعهد بتوفير ميزانيات أكبر للتعليم وللصحة وللعلوم وللثقافة، إضافة إلى محاربة الفساد.

> العرب نحو إنجاز آخر؟

- لقد وضع قادة «القائمة المشتركة»، التي تضم الأحزاب العربية، هدفاً لهم في هذه المعركة الانتخابية هو أن يرفعوا عدد ممثليهم في الكنيست من 13 إلى 15 نائباً، وبذا يزيدون من تأثيرهم.
ثمة أكثر من استطلاع رأي يشير إلى احتمال جيد للارتفاع مقعداً واحداً على الأقل. لكن المسألة ليست هيّنة. فمن أجل الارتفاع إلى هذا العدد من النواب، يجب رفع نسبة التصويت بين الناخبين العرب، على الأقل لتصبح بنسبة التصويت نفسها لدى اليهود. والحال، أن نسبة الناخبين العرب كانت دائماً منخفضة عن نسبة اليهود. في انتخابات أبريل الماضي صوّت فقط 49 في المائة منهم، وكان ذلك تعبيراً عن احتجاج الجمهور على تفكيك «القائمة المشتركة». ففي حينه خاض العرب الانتخابات بقائمتين منفصلتين، واحدة تحالفت فيها «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» برئاسة أيمن عودة مع «الحركة العربية للتغيير» برئاسة أحمد الطيبي، والأخرى تحالفت فيها «الحركة الإسلامية» برئاسة منصور عباس مع «التجمع الوطني» برئاسة امطانس شحادة. ورد الجمهور على ذلك بضربتين: الامتناع عن التصويت جزئياً، فمن نسبة تصويت بلغت 62 في المائة في 2015 إلى 49 في المائة هذه المرة. ثم إن مَن صوّتوا منحوا 30 في المائة من أصواتهم للأحزاب اليهودية. وهكذا، هبط تمثيل العرب من 13 إلى 10 نواب.
لكن، في انتخابات سبتمبر صحّحت الأحزاب الموقف وعادت لتشكيل «القائمة المشتركة» من جديد. فارتفعت النسبة إلى 60 في المائة. وصوّت 80 في المائة منهم لها، و20 في المائة للأحزاب اليهودية. وارتفع عدد ممثلي العرب إلى 13 مقعداً من جديد. وهكذا، لزيادة هذا التمثيل، ينبغي أولاً أن يصوّت العرب بنسبة التصويت نفسها عند اليهود، وفي حالة كهذه يمكنهم الوصول إلى ما هو أكثر من 15 مقعداً.

- التأثير على الحلبة السياسية
لكن القضية التي تشغل بال المواطنين العرب في إسرائيل (فلسطينيي 48)، هي التأثير على الحلبة السياسية. فعام 1993، كان عدد ممثليهم في الكنيست خمسة نواب فقط، هم: نواب «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة»: الشاعر الوطني توفيق زياد، رئيس بلدية الناصرة، ومعه هاشم محاميد، رئيس بلدية أم الفحم سابقاً، والكاتبة الشيوعية تمار غوجانسكي، وممثلان عن «الحزب الديمقراطي العربي» عبد الوهاب دراوشة وطلب الصانع. لكن ظروف الأزمة السياسية يومها، جعلت رئيس الحكومة إسحق رابين يلجأ إليهم لتشكيل تحالف خارج الائتلاف. فاتفقوا معه على أن يقيموا «جسماً سياسياً مانعاً» يمنع اليمين من إسقاط حكومته، مقابل تعهده بتقليص هوة التمييز، والشروع بتحقيق المساواة للمواطنين العرب، مع تعهد آخر بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً يدير معها رابين مفاوضات السلام. وهكذا نشأت المفاوضات لاتفاق أوسلو.
اليوم، وبعد نقاشات داخلية طاحنة في «القائمة المشتركة»، يطرح النواب العرب مشروعاً مماثلاً مع بيني غانتس. وقد أوصوا عليه ليكون رئيساً للحكومة مقابل خطة مساواة أخرى. ووافق غانتس على قسم كبير من مطالبهم، ووضعها ضمن برنامج حزبه السياسي قبيل الانتخابات. وهم وضعوا أنفسهم في المعسكر الذي يمنع نتنياهو من تشكيل حكومة.
حصلت «القائمة المشتركة» على 470611 صوتاً تشكل 80 في المائة من أصوات العرب، إضافة إلى نحو 10 آلاف صوت من الوسط اليهودي في الانتخابات الأخيرة. ومنح العرب فقط 20 في المائة من أصواتهم للأحزاب اليهودية. وكان أكبر الخاسرين من هذه النتيجة حزب ميرتس اليساري، الذي حصل في انتخابات أبريل على 40 ألف صوّت من العرب، وبفضلها حافظ على بقائه، لكنه تراجع إلى 15 ألف صوت في الانتخابات الأخيرة. لذا؛ فإنه وضع مرشحه العربي، عيساوي فريج، في مكان غير مضمون هذه المرة (المرتبة الـ11)، فرد الأخير بغضب متهماً القيادة بالعنصرية.
في المقابل، حصل «كحول لفان» بقيادة غانتس على أكبر عدد من الأصوات العربية في انتخابات سبتمبر (35 ألفاً)، أي ما يعادل مقعداً واحداً. وحصل حزب العمل على 9787 صوتاً في البلدات العربية، وحزب اليهود الروس «يسرائيل بيتينو» بقيادة أفيغدور ليبرمان على 9785 صوتاً (وهو يفرد مقعداً ثابتاً للعرب يشغله النائب حمد عمّار)، والليكود 6803 أصوات (هو أيضاً يفرد مكاناً لمرشح عربي في المرتبة الـ33 ويشغله فطين ملاّ)، وحزب «شاس» على 6133 صوتاً.
هذه النتائج تعني أن العرب ما زالوا يؤمنون بأن تأثيرهم على السياسة الإسرائيلية يأتي من خلال قائمة خاصة بهم، هي «القائمة المشتركة»، ولا يثقون بالتأثير من خلال الأحزاب اليهودية. وحسب استطلاعات الرأي يريد 82 في المائة من المواطنين العرب إيجاد شكل من أشكال التعاون مع الائتلاف الحاكم ليحدث التأثير. ويقول 72 في المائة إنهم يؤيدون بناء جسم مانع ضد حكم اليمين. ويقول 64 في المائة من العرب إنهم يؤيدون الدخول في الحكومة إذا كانت تلك حكومة وسط ويسار.
ولقد استجاب النائب أيمن عودة، رئيس «المشتركة»، لرغبة المواطنين عندما أبدى الاستعداد للدخول في تعاون ما مع الائتلاف. لكن هذه المسألة لم تنضج بعد في الأحزاب اليهودية، كما يجب، وتحدث خلافاً داخل «القائمة المشتركة» نفسها. فتصريحات عودة تنسجم مع قسم فقط من «الجبهة» التي يمثلها، وتلقى تجاوباً من «الحركة العربية للتغيير» ومن «الحركة الإسلامية»، بينما يعارضها غالبية حزب «التجمع» وقسم من «الجبهة»... لذلك؛ فإن التقدم فيها يبدو بطيئاً.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.