لم يكن اسم ميخائيل ميشوستين معروفاً للغالبية الكبرى من الروس، قبل أن يعلن الرئيس فلاديمير بوتين ترشيحه بشكل مفاجئ لتولي منصب رئاسة الوزراء.
كان اسم الرجل يتردد في أوساط المال والأعمال والشركات الكبرى في روسيا، التي ترتبط مصالحها مباشرة بهيئة الضرائب، لكنه «البطل» المجهول بالنسبة إلى ملايين المواطنين الذين يتذمر كثيرون منهم بسبب تكاليف الحياة الباهظة. لذا؛ أحيط قرار التعيين بكثير من الدهشة الممزوجة بالفضول، وبأسئلة من نوع: لماذا فضّل الرئيس أن يبتعد في خياراته عن الأسماء الكبيرة اللامعة التي رافقته منذ أن وصل إلى السلطة في عام 2000؟
لكن تلك الدهشة، التي تباينت التحليلات والتوقّعات في شأن ما قد يأتي بعدها، أعادت إلى الذاكرة مشهداً سياسياً مماثلاً؛ إذ ما زال كثيرون يذكرون مشهداً مفاجئاً مماثلاً عندما قرّر الرئيس السابق بوريس يلتسين في العام أن يقدم لروسيا والعالم فلاديمير بوتين، رجل المخابرات السابق، الذي انتقل مرة واحدة إلى رأس هرم السلطة.
لا تحمل المقارنات التي يعقدها البعض تأويلات بعيدة المدى... فقط، طريقة تعيين ميخائيل ميشوستين رئيساً لحكومة روسيا، دفعت إلى طرح التساؤلات، مع قناعة بأن ميشوستين لن يغدو بوتين الجديد.
ثم أن الرئيس المتربع على عرش الكرملين منذ عقدين لم يمنح أي سبب للتكهن بأنه ينوي مغادرة مقعده، بل على العكس من ذلك، تبدو التغييرات الجارية حالياً في هياكل السلطة وكأنها ترسم ملامح بقائه لفترة طويلة مقبلة، صانعاً أساسياً للقرار في البلاد.
لذا؛ انطلقت كل التحليلات والتكهنات حول شخصية ميشوستين وطريقة اختياره المفاجئة... من التساؤل عن جوهر «السيناريو» الذي وضعه طاقم الكرملين لرسم توازن جديد في العلاقة بين دوائر صنع القرار وهياكل إدارة الدولة.
هنا يبرز اسم ميشوستين عند البعض بصفته «رجل المرحلة» القادر على تنفيذ المهمة الصعبة على أكمل وجه. فالخبير في شؤون الإدارة المالية، الذي تنقل على مدى عقدين بين وظائف حكومية عدة أثبت كفاءة عالية في كل منها، يبدو الشخص المناسب لإدارة دفة الأمور في البلاد في ظروف اقتصادية ومعيشية بالغة التعقيد، وعلى خلفية برنامج طموح وضعه بوتين للنهوض بالأحوال المعيشية للمواطنين في فترة زمنية قياسية.
- بطاقة هوية
ولد ميخائيل ميشوستين في عام 1966 لأب روسي يهودي كان يعمل ضابطاً في جهاز أمني، وأكمل دراساته العليا في 1992، وكان طالباً متفوقاً ما ساعده على تجاوز مراحل مهمة بنجاح، كما أنه تمكن من تجنب الخدمة العسكرية الإلزامية؛ لأنه اختار جامعة موسكو الحكومية التكنولوجية، التي كانت بين المؤسسات التعليمية القليلة التي تقدّم إعفاءات لطلابها من الخدمة الإلزامية. ومثلما سار خطواته الأولى بشكل مدروس ومنظم، فقد طبع هذا النهج كل مراحل حياته اللاحقة، التي كانت مليئة دائماً بالأرقام والإحصاءات والجداول المالية، لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون مولعاً بممارسة الرياضة ولعب هوكي الجليد، فضلاً عن أنه عضو في مجلس الإشراف على النادي الرياضي المركزي للجيش في موسكو.
حصل ميشوستين في 2010 على درجة الدكتوراه في الاقتصاد عن أطروحة بعنوان «آلية الإدارة المالية للدولة الروسية» من أكاديمية الاقتصاد الوطني التابعة لحكومة الاتحاد الروسي.
كما عمل في عام 1994 مع فريق وزير المال السابق في الاتحاد الروسي بوريس فيدوروف الذي قدّم المشورة لحكومة سانت بطرسبرغ بشأن الخصخصة في تسعينات القرن الماضي. وقد يكون تعرّف إلى فلاديمير بوتين في تلك الفترة تحديداً؛ إذ عمل بوتين خلالها مساعداً لحاكم سان بطرسبورغ وكان مسؤولاً عن ملف الشركات والاستثمارات المالية.
- خبير إداري وضريبي
وانتقل ميشوستين في عام 1998 مع فيدوروف إلى مصلحة الضرائب، مساعداً لنظم المعلومات للمحاسبة والتحكم في تسلّم مدفوعات الضرائب. وشكّل هذا المنصب نقطة التحوّل الأساسية التي ربطت مصيره لاحقاً بهذه المؤسسة وتفرّعاتها الكثيرة. إذ عمل نائباً لوزير الاتحاد الروسي للضرائب والرسوم، ورئيساً لوكالة العقارات الفيدرالية كجزء من وزارة التنمية الاقتصادية في الاتحاد الروسي. واحتفظ بمنصبه نائباً لرؤساء مصلحة الضرائب الثلاثة الذين توالوا على المنصب بعد ذلك. ولمع اسمه عند الأوساط المختصة بالنظم المالية والإدارية؛ إذ غدا بين الكفاءات الأكثر تميزاً فيها، وشارك في تطوير مجمع تكنولوجيا المعلومات التابع لوزارة الضرائب والرسوم.
أيضاً يرتبط اسم ميشوستين بمبادرات مثل إدخال تحسينات جوهرية على آليات تحصيل الضرائب، فهو الذي أطلق نظام الرقم الإلكتروني ورقم التعريف الضريبي للمواطن، ويعود إليه الفضل في تنظيم العمل وفق مبدأ «نافذة واحدة» بعدما كانت البيروقراطية السوفياتية مستفحلة في مؤسسات الدولة. ومن ثم، قاد عملية تحديث باستخدام الابتكارات التكنولوجية. وتحت قيادته، أنشئت مراكز البيانات، ودمجت السلطات الضريبية الإقليمية في شبكة واحدة للمعلومات والاتصالات.
وفي نهاية عام 2002، جرى تقييم وزارة الضرائب بأنها واحدة من أكثر المؤسسات الروسية تطوراً من حيث استخدام تكنولوجيا المعلومات. وكما لعب ميشوستين أدواراً مهمة في هذا المجال، فإنه ترك بصمات مهمة في الوكالة الفيدرالية للعقارات التي ترأسها في عام 2004. وكانت واجهت ميشوستين مهمة تطوير السجل العقاري وخلال مدة سنتين أنجز إعادة تقييم شاملة للأراضي في الاتحاد الروسي؛ ما سمح بتطبيق ضريبة الأراضي منذ عام 2006 على أساس القيمة المساحية.
منذ ديسمبر (كانون الأول) 2006، شغل ميشوستين منصب رئيس الوكالة الفيدرالية لإدارة المناطق الاقتصادية الخاصة، وهو مشروع طموح أطلقه الكرملين لجذب استثمارات أجنبية. وافتتحت تحت رئاسته أول منطقتين اقتصاديتين خاصتين بالإنتاج الصناعي في تتارستان وليبيتسك، وكذلك أولى المناطق الاقتصادية الخاصة المبتكرة في مدينة دوبنا ومنطقة موسكو وتومسك وزيلينوغراد.
- إنجازات... فاستقالات
اللافت أن الرجل استقال من هذا المنصب بعد إنجاز المهمة مباشرة، ووفقاً لمسؤولين في الحكومة آنذاك، فإن «الاتفاق معه كان أن ينجز مهمته في أسرع وقت ثم يغادر وظيفته» وهذه العبارة لها أهمية خاصة لأنها طبعت أداء ميشوستين في كل المراكز التي تولاها قبل أن يستقر لعشر سنوات متوالية في رئاسة مصلحة الضرائب. لكن الأهم من ذلك أنها تعكس فهم الكرملين لقدرة الرجل على القيام بخطوات تنفيذية دقيقة مع استخدام الابتكارات والتقنيات اللازمة لتلبية المهام الملقاة على عاتقه.
وهو منذ عُيّن في عام 2010 رئيساً لدائرة الضرائب الفيدرالية فتح جبهة واسعة عبر إطلاق ما عُرف باسم «حرب البيانات القذرة». الإشارة هنا إلى البيانات الضريبية المزوّرة التي كانت تقدّمها الشركات الكبرى والمتوسطة لاسترداد قيمة ضرائب القيمة المضافة بشكل غير مبرّر؛ ما كان يكبّد خزينة الدولة أموالاً طائلة.
- مأمور ضرائب ودود
وشكل هذا «الاستهلال» نقطة تحول في وضع آليات جديدة للتعامل مع المؤسسة التي كانت تعد الأكثر بغضاً من جانب المواطنين ومن جانب قطاع المال والأعمال، وخصوصاً بفئتيه الصغيرة والمتوسطة. لقد كانت المهمة المطروحة جعل مصلحة الضرائب الفيدرالية «أكثر ودّية» وقرباً إلى رجال الأعمال الروس وإلى دافعي الضرائب البسطاء. لذلك؛ قاد ميشوستين سلسلة إجراءات لتبسيط التفاعل بين رجال الأعمال والمواطنين مع السلطات الضريبية، وأطلق الخدمة الإلكترونية «من أجل راحة الناس ومحاربة الفساد».
وفعلاً، أدخلت دائرة الضرائب الفيدرالية، بقيادة ميشوستين، معايير جديدة لخدمة دافعي الضرائب. ومثلاً، من أجل راحة المواطنين، مددت ساعات عمل مفتشي الضرائب وفي عام 2015، بدأ بالعمل مركز الاتصال الفيدرالي الموحّد الذي يتلقى الشكاوى ويتعامل معها على الفور.
خلال هذه الفترة بدأت تظهر تغييرات جدية، لم تقتصر على موارد خزينة الدولة التي شهدت تزايداً غير مسبوق، بل شملت أيضاً على تخفيف النهج القاسي المفرط في العمل، من خلال تقليص كبير في عدد عمليات التفتيش العشوائي على المؤسسات. إذ انتقلت المصلحة عام 2010 لتنظيم التدابير الرقابية، من أسلوب التفتيش الميداني المتواصل الذي ميز مرحلة تسعينات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الجديد إلى التركيز على العمل التحليلي. ونتيجة لذلك؛ انخفض عدد عمليات تدقيق الضريبة الميدانية بشكل حاد، مقابل ازدياد فعاليتها. ومقابل عمليات التفتيش التي كانت تصل إلى واحدة من كل عشر شركات صغيرة، وصل الوضع عام 2018 إلى فحص مفتشي الضرائب شركة تجارية صغيرة واحدة فقط من أصل 4000، كذلك انخفض عدد عمليات التفتيش للشركات الكبيرة والمتوسطة بشكل كبير.
- نجاحات باتجاه القمة
قد تكون لهذه اللمحة من مراحل تطور عمل ميشوستين في هياكل الدولة، أهمية خاصة للإجابة عن أسئلة حول التعيين المفاجئ للرجل، ولا سيما، أنه في مقابل كل المعطيات حول «نجاحات ميشوستين» و«فاعلية أدائه» - التي رُكّز عليها كثيراً في وسائل الإعلام خلال الأيام الماضية - يورد كثيرون انتقادات لرئيس الوزراء الروسي المُقال دميتري ميدفيديف الذي اتهم بالفشل في تنفيذ برامج بوتين الاقتصادية الموجهة للنهوض بالوضع المعيشي للمواطنين.
وفقاً لإلياس أوماخانوف، نائب رئيس مجلس الاتحاد للجمعية الفيدرالية لروسيا الاتحادية، فإن «الترشيح كان أمراً غير متوقع على الإطلاق، لكن هذا لا يعني أنه شخصية مكروهة، بل ربما العكس صحيح. وعموماً، فإن كل المسؤولين الماليين ليسوا محبوبين ومقبولين، لكن عامة الشعب ينظرون إلى ميشوستين إلى حد كبير على أنه الشخص المناسب لهذا المنصب».
وحقاً، يشير الخبراء إلى أن هذا الترشيح «دليل آخر على أن بوتين يعتمد على المهنيين في هذه اللحظة الصعبة والحرجة التي تحتاج فيها البلاد إلى قفزة نوعية».
ولقد رأت صحيفة «فيدوموستي»، القريبة من أوساط المال والأعمال، أنه على الرغم من أن اختيار بوتين كان مفاجئاً، فإنه جيد في الوقت ذاته، مشيرة إلى أن قطاع الضرائب هو الوحيد الذي شهد طفرة في إدارة الدولة الروسية. كذلك ركزت تقارير إعلامية، على القول إن ميشوستين قدّم «خدمات جليلة أسهمت في إنقاذ البلاد خلال أزمتها العاصفة».
- خارج حلقة السياسيين
بهذه الأجواء، تسلم ميشوستين مهامه ليكون أول رئيس وزراء في روسيا يأتي من خارج حلقة صنع القرار السياسي على مدار سنوات طويلة. لذلك؛ بدا وهو يتكلّم أمام فريقه الوزاري في أول اجتماع بعد تعيينه، وكأنه أمام امتحان جدّي لحقيقة السمعة التي حملها في كل الوظائف التي تنقل فيها، موظفاً كفؤاً... وقادراً على حل أعقد المشكلات والصمود أمام التحديات الأبرز التي تواجهه. وبطبيعة الحال، المهمة هذه المرة ستكون أعقد، وأخطر، على الأقل لأنه لن يكون مسؤولاً أمام الرئيس فقط، بل وأمام عشرات الملايين من الروس الذين وعدهم بـ«أنه لن يخفق هذه المرة أيضاً».
قال ميشوستين في أول اجتماع حكومي «علينا أن نباشر في أسرع وقت ممكن العمل على تنفيذ المهام التي حدّدها الرئيس بوتين في رسالته إلى البرلمان، بمجالات تحسين الوضع الديموغرافي ودعم الأسر الكبيرة، وزيادة دخل المواطن، ورعاية الشرائح المعوزة، إضافة إلى تحسين جودة الرعاية الصحية والتعليم».
وأضاف: «كل ذلك يندرج في ملف تحسين مستوى المعيشة لمواطنينا... أعتقد أن هذه هي مهمتنا الأكثر إلحاحاً وهذا ما يتوقع الناس منا إنجازه».
ثم شدد ميشوستين على ضرورة إطلاق دورة استثمارية جديدة وخلق ظروف مواتية للنمو الاقتصادي... فقال موجزاً مهمته ببلاغة «علينا تحسين معدلات النمو الاقتصادي لأنه يستحيل بمعزل عن ذلك تحقيق أي نتائج في المجال الاجتماعي».