بروفايل: ميخائيل ميشوستين... رجل المهمات الصعبة الذي يواجه تحدي إنقاذ فقراء روسيا

من مصلحة الضرائب إلى رئاسة الوزراء لقيادة مرحلة انتقالية حافلة بالأحداث

بروفايل: ميخائيل ميشوستين... رجل المهمات الصعبة الذي يواجه تحدي إنقاذ فقراء روسيا
TT

بروفايل: ميخائيل ميشوستين... رجل المهمات الصعبة الذي يواجه تحدي إنقاذ فقراء روسيا

بروفايل: ميخائيل ميشوستين... رجل المهمات الصعبة الذي يواجه تحدي إنقاذ فقراء روسيا

لم يكن اسم ميخائيل ميشوستين معروفاً للغالبية الكبرى من الروس، قبل أن يعلن الرئيس فلاديمير بوتين ترشيحه بشكل مفاجئ لتولي منصب رئاسة الوزراء.
كان اسم الرجل يتردد في أوساط المال والأعمال والشركات الكبرى في روسيا، التي ترتبط مصالحها مباشرة بهيئة الضرائب، لكنه «البطل» المجهول بالنسبة إلى ملايين المواطنين الذين يتذمر كثيرون منهم بسبب تكاليف الحياة الباهظة. لذا؛ أحيط قرار التعيين بكثير من الدهشة الممزوجة بالفضول، وبأسئلة من نوع: لماذا فضّل الرئيس أن يبتعد في خياراته عن الأسماء الكبيرة اللامعة التي رافقته منذ أن وصل إلى السلطة في عام 2000؟
لكن تلك الدهشة، التي تباينت التحليلات والتوقّعات في شأن ما قد يأتي بعدها، أعادت إلى الذاكرة مشهداً سياسياً مماثلاً؛ إذ ما زال كثيرون يذكرون مشهداً مفاجئاً مماثلاً عندما قرّر الرئيس السابق بوريس يلتسين في العام أن يقدم لروسيا والعالم فلاديمير بوتين، رجل المخابرات السابق، الذي انتقل مرة واحدة إلى رأس هرم السلطة.

لا تحمل المقارنات التي يعقدها البعض تأويلات بعيدة المدى... فقط، طريقة تعيين ميخائيل ميشوستين رئيساً لحكومة روسيا، دفعت إلى طرح التساؤلات، مع قناعة بأن ميشوستين لن يغدو بوتين الجديد.
ثم أن الرئيس المتربع على عرش الكرملين منذ عقدين لم يمنح أي سبب للتكهن بأنه ينوي مغادرة مقعده، بل على العكس من ذلك، تبدو التغييرات الجارية حالياً في هياكل السلطة وكأنها ترسم ملامح بقائه لفترة طويلة مقبلة، صانعاً أساسياً للقرار في البلاد.
لذا؛ انطلقت كل التحليلات والتكهنات حول شخصية ميشوستين وطريقة اختياره المفاجئة... من التساؤل عن جوهر «السيناريو» الذي وضعه طاقم الكرملين لرسم توازن جديد في العلاقة بين دوائر صنع القرار وهياكل إدارة الدولة.
هنا يبرز اسم ميشوستين عند البعض بصفته «رجل المرحلة» القادر على تنفيذ المهمة الصعبة على أكمل وجه. فالخبير في شؤون الإدارة المالية، الذي تنقل على مدى عقدين بين وظائف حكومية عدة أثبت كفاءة عالية في كل منها، يبدو الشخص المناسب لإدارة دفة الأمور في البلاد في ظروف اقتصادية ومعيشية بالغة التعقيد، وعلى خلفية برنامج طموح وضعه بوتين للنهوض بالأحوال المعيشية للمواطنين في فترة زمنية قياسية.

- بطاقة هوية
ولد ميخائيل ميشوستين في عام 1966 لأب روسي يهودي كان يعمل ضابطاً في جهاز أمني، وأكمل دراساته العليا في 1992، وكان طالباً متفوقاً ما ساعده على تجاوز مراحل مهمة بنجاح، كما أنه تمكن من تجنب الخدمة العسكرية الإلزامية؛ لأنه اختار جامعة موسكو الحكومية التكنولوجية، التي كانت بين المؤسسات التعليمية القليلة التي تقدّم إعفاءات لطلابها من الخدمة الإلزامية. ومثلما سار خطواته الأولى بشكل مدروس ومنظم، فقد طبع هذا النهج كل مراحل حياته اللاحقة، التي كانت مليئة دائماً بالأرقام والإحصاءات والجداول المالية، لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون مولعاً بممارسة الرياضة ولعب هوكي الجليد، فضلاً عن أنه عضو في مجلس الإشراف على النادي الرياضي المركزي للجيش في موسكو.
حصل ميشوستين في 2010 على درجة الدكتوراه في الاقتصاد عن أطروحة بعنوان «آلية الإدارة المالية للدولة الروسية» من أكاديمية الاقتصاد الوطني التابعة لحكومة الاتحاد الروسي.
كما عمل في عام 1994 مع فريق وزير المال السابق في الاتحاد الروسي بوريس فيدوروف الذي قدّم المشورة لحكومة سانت بطرسبرغ بشأن الخصخصة في تسعينات القرن الماضي. وقد يكون تعرّف إلى فلاديمير بوتين في تلك الفترة تحديداً؛ إذ عمل بوتين خلالها مساعداً لحاكم سان بطرسبورغ وكان مسؤولاً عن ملف الشركات والاستثمارات المالية.

- خبير إداري وضريبي
وانتقل ميشوستين في عام 1998 مع فيدوروف إلى مصلحة الضرائب، مساعداً لنظم المعلومات للمحاسبة والتحكم في تسلّم مدفوعات الضرائب. وشكّل هذا المنصب نقطة التحوّل الأساسية التي ربطت مصيره لاحقاً بهذه المؤسسة وتفرّعاتها الكثيرة. إذ عمل نائباً لوزير الاتحاد الروسي للضرائب والرسوم، ورئيساً لوكالة العقارات الفيدرالية كجزء من وزارة التنمية الاقتصادية في الاتحاد الروسي. واحتفظ بمنصبه نائباً لرؤساء مصلحة الضرائب الثلاثة الذين توالوا على المنصب بعد ذلك. ولمع اسمه عند الأوساط المختصة بالنظم المالية والإدارية؛ إذ غدا بين الكفاءات الأكثر تميزاً فيها، وشارك في تطوير مجمع تكنولوجيا المعلومات التابع لوزارة الضرائب والرسوم.
أيضاً يرتبط اسم ميشوستين بمبادرات مثل إدخال تحسينات جوهرية على آليات تحصيل الضرائب، فهو الذي أطلق نظام الرقم الإلكتروني ورقم التعريف الضريبي للمواطن، ويعود إليه الفضل في تنظيم العمل وفق مبدأ «نافذة واحدة» بعدما كانت البيروقراطية السوفياتية مستفحلة في مؤسسات الدولة. ومن ثم، قاد عملية تحديث باستخدام الابتكارات التكنولوجية. وتحت قيادته، أنشئت مراكز البيانات، ودمجت السلطات الضريبية الإقليمية في شبكة واحدة للمعلومات والاتصالات.
وفي نهاية عام 2002، جرى تقييم وزارة الضرائب بأنها واحدة من أكثر المؤسسات الروسية تطوراً من حيث استخدام تكنولوجيا المعلومات. وكما لعب ميشوستين أدواراً مهمة في هذا المجال، فإنه ترك بصمات مهمة في الوكالة الفيدرالية للعقارات التي ترأسها في عام 2004. وكانت واجهت ميشوستين مهمة تطوير السجل العقاري وخلال مدة سنتين أنجز إعادة تقييم شاملة للأراضي في الاتحاد الروسي؛ ما سمح بتطبيق ضريبة الأراضي منذ عام 2006 على أساس القيمة المساحية.
منذ ديسمبر (كانون الأول) 2006، شغل ميشوستين منصب رئيس الوكالة الفيدرالية لإدارة المناطق الاقتصادية الخاصة، وهو مشروع طموح أطلقه الكرملين لجذب استثمارات أجنبية. وافتتحت تحت رئاسته أول منطقتين اقتصاديتين خاصتين بالإنتاج الصناعي في تتارستان وليبيتسك، وكذلك أولى المناطق الاقتصادية الخاصة المبتكرة في مدينة دوبنا ومنطقة موسكو وتومسك وزيلينوغراد.

- إنجازات... فاستقالات
اللافت أن الرجل استقال من هذا المنصب بعد إنجاز المهمة مباشرة، ووفقاً لمسؤولين في الحكومة آنذاك، فإن «الاتفاق معه كان أن ينجز مهمته في أسرع وقت ثم يغادر وظيفته» وهذه العبارة لها أهمية خاصة لأنها طبعت أداء ميشوستين في كل المراكز التي تولاها قبل أن يستقر لعشر سنوات متوالية في رئاسة مصلحة الضرائب. لكن الأهم من ذلك أنها تعكس فهم الكرملين لقدرة الرجل على القيام بخطوات تنفيذية دقيقة مع استخدام الابتكارات والتقنيات اللازمة لتلبية المهام الملقاة على عاتقه.
وهو منذ عُيّن في عام 2010 رئيساً لدائرة الضرائب الفيدرالية فتح جبهة واسعة عبر إطلاق ما عُرف باسم «حرب البيانات القذرة». الإشارة هنا إلى البيانات الضريبية المزوّرة التي كانت تقدّمها الشركات الكبرى والمتوسطة لاسترداد قيمة ضرائب القيمة المضافة بشكل غير مبرّر؛ ما كان يكبّد خزينة الدولة أموالاً طائلة.

- مأمور ضرائب ودود
وشكل هذا «الاستهلال» نقطة تحول في وضع آليات جديدة للتعامل مع المؤسسة التي كانت تعد الأكثر بغضاً من جانب المواطنين ومن جانب قطاع المال والأعمال، وخصوصاً بفئتيه الصغيرة والمتوسطة. لقد كانت المهمة المطروحة جعل مصلحة الضرائب الفيدرالية «أكثر ودّية» وقرباً إلى رجال الأعمال الروس وإلى دافعي الضرائب البسطاء. لذلك؛ قاد ميشوستين سلسلة إجراءات لتبسيط التفاعل بين رجال الأعمال والمواطنين مع السلطات الضريبية، وأطلق الخدمة الإلكترونية «من أجل راحة الناس ومحاربة الفساد».
وفعلاً، أدخلت دائرة الضرائب الفيدرالية، بقيادة ميشوستين، معايير جديدة لخدمة دافعي الضرائب. ومثلاً، من أجل راحة المواطنين، مددت ساعات عمل مفتشي الضرائب وفي عام 2015، بدأ بالعمل مركز الاتصال الفيدرالي الموحّد الذي يتلقى الشكاوى ويتعامل معها على الفور.
خلال هذه الفترة بدأت تظهر تغييرات جدية، لم تقتصر على موارد خزينة الدولة التي شهدت تزايداً غير مسبوق، بل شملت أيضاً على تخفيف النهج القاسي المفرط في العمل، من خلال تقليص كبير في عدد عمليات التفتيش العشوائي على المؤسسات. إذ انتقلت المصلحة عام 2010 لتنظيم التدابير الرقابية، من أسلوب التفتيش الميداني المتواصل الذي ميز مرحلة تسعينات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الجديد إلى التركيز على العمل التحليلي. ونتيجة لذلك؛ انخفض عدد عمليات تدقيق الضريبة الميدانية بشكل حاد، مقابل ازدياد فعاليتها. ومقابل عمليات التفتيش التي كانت تصل إلى واحدة من كل عشر شركات صغيرة، وصل الوضع عام 2018 إلى فحص مفتشي الضرائب شركة تجارية صغيرة واحدة فقط من أصل 4000، كذلك انخفض عدد عمليات التفتيش للشركات الكبيرة والمتوسطة بشكل كبير.

- نجاحات باتجاه القمة
قد تكون لهذه اللمحة من مراحل تطور عمل ميشوستين في هياكل الدولة، أهمية خاصة للإجابة عن أسئلة حول التعيين المفاجئ للرجل، ولا سيما، أنه في مقابل كل المعطيات حول «نجاحات ميشوستين» و«فاعلية أدائه» - التي رُكّز عليها كثيراً في وسائل الإعلام خلال الأيام الماضية - يورد كثيرون انتقادات لرئيس الوزراء الروسي المُقال دميتري ميدفيديف الذي اتهم بالفشل في تنفيذ برامج بوتين الاقتصادية الموجهة للنهوض بالوضع المعيشي للمواطنين.
وفقاً لإلياس أوماخانوف، نائب رئيس مجلس الاتحاد للجمعية الفيدرالية لروسيا الاتحادية، فإن «الترشيح كان أمراً غير متوقع على الإطلاق، لكن هذا لا يعني أنه شخصية مكروهة، بل ربما العكس صحيح. وعموماً، فإن كل المسؤولين الماليين ليسوا محبوبين ومقبولين، لكن عامة الشعب ينظرون إلى ميشوستين إلى حد كبير على أنه الشخص المناسب لهذا المنصب».
وحقاً، يشير الخبراء إلى أن هذا الترشيح «دليل آخر على أن بوتين يعتمد على المهنيين في هذه اللحظة الصعبة والحرجة التي تحتاج فيها البلاد إلى قفزة نوعية».
ولقد رأت صحيفة «فيدوموستي»، القريبة من أوساط المال والأعمال، أنه على الرغم من أن اختيار بوتين كان مفاجئاً، فإنه جيد في الوقت ذاته، مشيرة إلى أن قطاع الضرائب هو الوحيد الذي شهد طفرة في إدارة الدولة الروسية. كذلك ركزت تقارير إعلامية، على القول إن ميشوستين قدّم «خدمات جليلة أسهمت في إنقاذ البلاد خلال أزمتها العاصفة».

- خارج حلقة السياسيين
بهذه الأجواء، تسلم ميشوستين مهامه ليكون أول رئيس وزراء في روسيا يأتي من خارج حلقة صنع القرار السياسي على مدار سنوات طويلة. لذلك؛ بدا وهو يتكلّم أمام فريقه الوزاري في أول اجتماع بعد تعيينه، وكأنه أمام امتحان جدّي لحقيقة السمعة التي حملها في كل الوظائف التي تنقل فيها، موظفاً كفؤاً... وقادراً على حل أعقد المشكلات والصمود أمام التحديات الأبرز التي تواجهه. وبطبيعة الحال، المهمة هذه المرة ستكون أعقد، وأخطر، على الأقل لأنه لن يكون مسؤولاً أمام الرئيس فقط، بل وأمام عشرات الملايين من الروس الذين وعدهم بـ«أنه لن يخفق هذه المرة أيضاً».
قال ميشوستين في أول اجتماع حكومي «علينا أن نباشر في أسرع وقت ممكن العمل على تنفيذ المهام التي حدّدها الرئيس بوتين في رسالته إلى البرلمان، بمجالات تحسين الوضع الديموغرافي ودعم الأسر الكبيرة، وزيادة دخل المواطن، ورعاية الشرائح المعوزة، إضافة إلى تحسين جودة الرعاية الصحية والتعليم».
وأضاف: «كل ذلك يندرج في ملف تحسين مستوى المعيشة لمواطنينا... أعتقد أن هذه هي مهمتنا الأكثر إلحاحاً وهذا ما يتوقع الناس منا إنجازه».
ثم شدد ميشوستين على ضرورة إطلاق دورة استثمارية جديدة وخلق ظروف مواتية للنمو الاقتصادي... فقال موجزاً مهمته ببلاغة «علينا تحسين معدلات النمو الاقتصادي لأنه يستحيل بمعزل عن ذلك تحقيق أي نتائج في المجال الاجتماعي».


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».