فرنسا ودول الساحل... نحو تدويل الحرب على الإرهاب

في ظل المتغيرات الأمنية والاعتبارات السياسية

فرنسا ودول الساحل... نحو تدويل الحرب على الإرهاب
TT

فرنسا ودول الساحل... نحو تدويل الحرب على الإرهاب

فرنسا ودول الساحل... نحو تدويل الحرب على الإرهاب

حاولت «قمة بو»، يوم الاثنين الماضي، فتح صفحة جديدة من التعاون بين فرنسا ودول الساحل الأفريقي، يضمن معها الفرنسيون لقواتهم الموجودة على الأرض (4500 جندي) حماية وشرعية أقوى، في ظل تصاعد موجة الرفض الشعبي للوجود العسكري الأجنبي في مالي وبوركينا فاسو.
وللعلم، هاتان الدولتان هما الأكثر معاناة من تصاعد الهجمات الإرهابية، والصعود القوي لتنظيم «الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى» (داعش الصحراء)، إلا أن القمة التي انعقدت في ظروف أمنية وسياسية استثنائية لم تخرج عن التوقّعات، فظلت حبيسة الاستراتيجيات «التقليدية» لمواجهة خطر الإرهاب، باستثناء محاولتها «تدويل» الحرب على الإرهاب في هذه المنطقة.
ثلاث ساعات من النقاش في اجتماع مغلق، بمدينة بو الواقعة في جنوب غربي فرنسا، بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وقادة دول الساحل الخمس (موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو)، أسفرت عن بيان مشترك، تضمن الاتفاق على «تعزيز التعاون العسكري» بين فرنسا ودول الساحل الخمس. لكن الأهم بالنسبة لفرنسا هو أنها حصلت على «موقف واضح» من قادة دول الساحل بخصوص الوجود العسكري الفرنسي، حين أعربوا عن رغبتهم في استمرار هذا الحضور العسكري، بل وتعزيزه، من خلال تشكيل «ائتلاف من أجل الساحل»، هو عبارة عن تحالف دولي واسع النطاق لمحاربة الإرهاب في الساحل سيصار إلى إطلاقه قريباً.

في حين كان قادة دول «منطقة الساحل» (ساحل الصحراء الكبرى) يحضرون «قمة بو» على الأراضي الفرنسية، كانت مظاهرات تجوب بعض المدن في مالي وبوركينا فاسو، رافعة شعارات مناهضة للوجود العسكري الفرنسي، رافضة بشكل مسبق نتائج هذه القمة التي يعتقدون أن قادة دول الساحل «استدعوا بطريقة مهينة». وهذه نقطة سبق أن أثارت كثيراً من الجدل في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وتسببت في تصريحات غاضبة من روش مارك كابوري، رئيس بوركينا فاسو، الذي يتولى الرئاسة الدورية لمجموعة دول «الساحل» الخمس.
كان المحتجّون وهم يجوبون شوارع العاصمة المالية باماكو، متوجّهين نحو «نصب الحرية» في قلب المدينة، ساعات قبيل انعقاد «قمة بو»، يردّدون شعارات مناهضة للوجود العسكري الفرنسي، من قبيل: «نعم لرحيل القوات الفرنسية!»، و«لترحل فرنسا»، و«نعم لرحيل القوات الأجنبية!»، بينما يرفع أكثر المحتجّين تطرّفاً شعارات تقول: «أوقفوا المجازر الفرنسية في مالي».
بدأ هذا الرفض الشعبي منذ عدة أسابيع في بوركينا فاسو (أعالي الفولتا سابقاً)، الدولة الشيوعية السابقة التي حكمها المناضل الأفريقاني المعروف توماس سانكارا في ثمانينات القرن الماضي، قبل اغتياله في انقلاب عسكري، مخلفاً وراءه حركات سياسية ونقابية «أفريقانية» توصف بأنها مناهضة لفرنسا. وهذه الحركات ما زالت تعتبرها قوة استعمارية، وأن جنودها الموجودين في الساحل مهمتهم الأولى الحفاظ على المصالح الفرنسية، وليس محاربة الإرهاب أو حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة.
ولكن هذا التيار الشعبي الذي أثار وجوده استياء الفرنسيين لا يزال محدود الانتشار في بلدان بلا جيوش. ويدرك معظم سكانها أنهم يعتمدون في أمنهم بشكل شبه كامل على القوات الفرنسية الموجودة في المنطقة (4500 جندي)، وقوات حفظ السلام في دولة مالي (مينوسما)، البالغ قوامها 15 ألف جندي، بالإضافة إلى قوة عسكرية مشتركة شكلتها دول الساحل الخمس منذ سنوات، ويبلغ قوامها 5 آلاف جندي، ما تزال ضعيفة التدريب والتجهيز.
هذا وسبق أن انتقد الفرنسيون بشكل صريح صمت الحكومات في دول الساحل حيال التيار الشعبي الرافض للوجود العسكري الفرنسي في المنطقة، وهو ما دفع ماكرون إلى أن يطلب منهم موقفاً واضحاً في هذه النقطة، مشيراً إلى أنه لن يقبل أن يضحي الجنود الفرنسيون بأرواحهم (قُتل 41 جندياً منذ 2013) في مناطق لا ترحب بهم.
وقال ماكرون في نهاية القمة: «لم يكن من المقبول السماح ببروز مغالطات وأكاذيب وتوهّمات حول الوجود الفرنسي في بلدان الساحل، وترك ذلك من غير رد». وحُسمت هذه النقطة في البيان الختامي للقمة، حين أشارت إحدى الفقرات إلى أن قادة دول الساحل «أعربوا عن تمنيهم استمرار الالتزام العسكري الفرنسي في الساحل».

- منعطف تاريخي!
خلال الجلسة المغلقة، كان ماكرون يجلس إلى طاولة مستديرة، عن يمينه الرئيس التشادي إدريس ديبي، وهو عسكري وقائد سابق لأركان الجيش في تشاد يتولى حكم بلاده منذ 3 عقود، ويسعى للتمديد. أما عن يسار ماكرون، فجلس الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، وهو جنرال متقاعد وقائد سابق لأركان الجيش الموريتاني، تولى الحكم في بلاده قبل 6 أشهر فقط، في حين جلس على بقية مقاعد الطاولة، قبالة الرئيس الفرنسي، رؤساء النيجر ومالي وبوركينا فاسو «المدنيون» الذين لا يحملون وراءهم أي خلفية عسكرية، وتعاني دولهم من عمليات إرهابية تكاد تكون يومية.
وكان واضحاً أن الملف العسكري سيستحوذ على الجزء الأكبر من النقاش، خاصة أن التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل كان من أهم النقاط المدرجة على جدول أعمال القمة التي لم تزد على عدة ساعات فقط؛ ذلك أنه سبق للفرنسيين أن أعربوا عن رغبتهم في مراجعة استراتيجيتهم العسكرية والأمنية لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل، لكنهم كانوا يحتاجون في البداية إلى ضرورة إعادة تحديد قواعد الشراكة مع دول المنطقة.
هذا ما أعلن عنه ماكرون، خلال المؤتمر الصحافي الذي أعقب القمة، حين قال إنها «شكلت منعطفاً تاريخياً مهماً، إنها منعرج في المنهج والمقاربات، إذ تمكنا من أن نعيد تحديد الإطار السياسي، ونعيد بوضوح تحديد الأهداف، وشروط تنظيم تدخلنا المشترك، وتدخل شركائنا».
وأكد ماكرون أن الإشكال المتعلق بالوجود العسكري الفرنسي في المنطقة أمكن تجاوزه، مما يعني أن فرنسا ستبقى اللاعب الأول في تلك المنطقة التي طالما شكلت حديقة خلفية بالنسبة للفرنسيين الذين دخلت جيوشهم هذه المنطقة نهاية القرن التاسع عشر كقوة استعمارية، وخرجت منتصف القرن العشرين، مخلّفة إرثاً ما زال يلقي بظلاله على العلاقة بين فرنسا وهذه المنطقة من العالم.
ومع هذا، كان الفرنسيون بحاجة لإعادة صياغة قواعد التعاون والشراكة العسكرية والأمنية مع دول الساحل، بعد 7 سنوات من التدخل العسكري، وهو ما كان قد بدأ بشكل عاجل في شهر يناير (كانون الثاني) من عام 2013، بدعوة وطلب رسمي من الرئيس المالي السابق ديونكوندا تراوري. وكان وراء الطلب الحاجة لوقف زحف مقاتلي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» نحو العاصمة باماكو، بعد 6 أشهر من سيطرتهم على ثلثي مساحة البلاد في الشمال. آنذاك، أطلق الفرنسيون عملية «سيرفال» التي أرغمت الإرهابيين على الانسحاب من شمال مالي، ثم تحولت عملية «سيرفال» عام 2014 إلى عملية «برخان» التي توسّعت لتشمل محاربة الجماعات الإرهابية في دول الساحل الخمس، بالتعاون والتنسيق مع الجيوش المحلية.

- تعزيز قوة «برخان»
لم تعلن تفاصيل القواعد الجديدة للشراكة بين فرنسا ودول الساحل، فيما أعلن الرئيس الفرنسي أنه سيعزّز قوة «برخان» بقوة عسكرية جديدة، تتشكل من 220 جندياً، وقال: «قررت استخدام قدرات قتالية إضافية؛ 220 جندياً سيعززون قوة (برخان)»، وهو ما يعني ارتفاع عدد الجنود الفرنسيين في الساحل إلى 4720 جندياً، في حين أشار رئيس بوركينا فاسو روش مارك كابوري إلى أنه يجب تركيز العمل العسكري في منطقة المثلث الحدودي الرابط بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الذي بات «الخاصرة الرخوة» لمنطقة الساحل، إذ تنفذ فيه النسبة الأكبر من الهجمات الإرهابية.

- هواجس سياسية
كابوري، الذي يتولى الرئاسة الدورية لمجموعة دول الساحل الخمس، كان يشعر بالخطر المُحدق ببلده الهش بوركينا فاسو، وجيشه العاجز عن مواجهة التنظيمات الإرهابية التي طورت خلال السنوات الأخيرة من أساليب عملها وقدراتها القتالية، إلا أنه في حديثه أمام الصحافيين كان يستحضر الرأي العام المحلي في منطقة الساحل، قائلاً: «خلاصة نقاشاتنا (في القمة) هي أن نصل إلى نتائج ملموسة وبسرعة، لأن مصداقيتنا كدول مرتبطة بذلك».
ولكن الغضب الشعبي من الوجود العسكري الأجنبي، الذي يتنامى في بوركينا فاسو، واتسع ليشمل دولة مالي، قد يتحوّل في أي لحظة إلى غضب شعبي ضد أنظمة الحكم. وللعلم، شهدت الدولتان انتفاضات شعبية دامية نجحت في قلب أنظمة الحكم (2015 في بوركينا فاسو، و1991 في مالي). ولا تسمح الظروف الأمنية الهشة في أي منهما بأي نوع من التأزيم لأنه سيصب الزيت على النار، ويعقد الوضع في منطقة مشتعلة منذ عدة سنوات.
لذا يبحث رئيس بوركينا فاسو عن «صدقية» مبنية على إنجاز ميداني، كضامن لاستقرار نظام الحكم في بلاده وبقية دول الساحل. بيد أن كابوري، وهو يتكلّم باسم قادة دول الساحل، كان صريحاً حين قال إن «النتائج التي تحققت على الأرض لا تسمو إلى مستوى تطلعات السكان» للقضاء على الجماعات الإرهابية. وأضاف أنه من أجل تحقيق نتائج مُرضية «لا بُد من تكثيف مستوى التنسيق الأمني والعسكري بين مختلف القوى العسكرية على الأرض، وتعزيز قدرات الجيوش الوطنية، ومنحها الوسائل التي تمكنها من القيام بمهمات قتالية ناجحة». وخلُص إلى التأكيد على أن «تبادل المعلومات الاستخباراتية هو حجر الزاوية لتحقيق النجاح الميداني».
من جهة أخرى، ناقش القادة الستة المشاركون في القمة قضية تعزيز سيادة دول الساحل، وحضورها في المناطق النائية، وذلك من خلال إعادة توطين السكان في مناطقهم الأصلية، وفتح المدارس والمستشفيات التي أغلقت بسبب الإرهاب، وتوفير الخدمات الضرورية. غير أن هذا لن يتحقق من دون تحقيق الأمن أولاً، وتوفر تمويلات سبق أن تعهد بها المانحون الدوليون خلال مؤتمر بالعاصمة الموريتانية نواكشوط نهاية 2018. ولا تزال دول الساحل غير راضية عن الوفاء بالالتزامات التي وصلت آنذاك إلى أكثر من ملياري يورو من أجل تمويل 40 مشروعاً تنموياً، أغلبها في المناطق الحدودية بين الدول التي تغيب عنها الدولة.

- تدويل الحرب
الأمم المتحدة، في تقرير صدر يوم الأربعاء الماضي، وصفت الوضع في منطقة الساحل بأنه «ينذر بالخطر»، وأعربت عن استعدادها لتنفيذ «حلول أكثر إبداعاً واستباقية» لضمان وصول الدعم اللازم إلى القوة المشتركة لدول الساحل الخمس، مؤكدة أن القوات الدولية والمحلية تبذل جهوداً كبيرة في الحرب على الإرهاب، لكنها جهود يبدو أنها غير كافية.
وأمام تدهور الوضع الأمني في المنطقة، وانفجار الوضع في ليبيا المجاورة، أعلنت دول الساحل وفرنسا عن سعيها نحو تنسيق جهودها في «الائتلاف من أجل الساحل» الذي هو إطار سياسي واستراتيجي وعملياتي جديد، يشمل قوة «برخان» الفرنسية ودول منطقة الساحل، بالإضافة إلى مجموعة دول غرب أفريقيا والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، وعدد من الدول الشريكة، وهو ائتلاف مفتوح أمام كل طرف يرغب في الالتحاق به للمساهمة في الحرب على الإرهاب في هذه المنطقة من العالم، وفق ما أعلنه رئيس بوركينا فاسو.
إن الاتفاق على تشكيل هذا الائتلاف الجديد يؤكد رغبة فرنسا ودول الساحل في تدويل حربها على الإرهاب، كي لا تكون القوات الفرنسية بمفردها في مواجهة الجماعات الإرهابية التي بدا واضحاً أنها اكتسبت الخبرة، وعمقت حضورها على الأرض، وتغلغلت وسط السكان المحليين. ورغم حالة التفاؤل التي هيمنت على القمة بعد القرارات الصادرة عنها، فإن الرئيس ماكرون قال بحزم: «لننتظر ونرى ونقيم في الصيف المقبل ما سيجري على الأرض».
لقد حاولت «قمة بو» أن تعطي إشارة انطلاق جهد دولي ينقل الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي إلى مستويات جديدة، خاصة أن باريس تراهن بشكل كبير على تشكيل قوة خاصة أوروبية (تابوكا) ستكون بعد تشكيلها «قوة تدخل سريع»، مهمتها دعم الجيوش المحلية والقوات الدولية على الأرض في منطقة الساحل الأفريقي، لكن تشكيلها ما زال في مراحله الأولى. ومع أن 10 دول أوروبية عبّرت عن نيتها المشاركة فيها، فإن الأطر القانونية المشكّلة لهذه القوة العسكرية الأوروبية لم توضع بعدُ، وهي أطر يجب عرضها على البرلمان الأوروبي.

- صدمة من واشنطن
وفي حين يتحرّك الأوروبيون ببطء نحو تشكيل قوة «تابوكا»، جاءت الصدمة من الولايات المتحدة التي أعلنت نيتها تقليص حضورها العسكري في أفريقيا، بما في ذلك منطقة الساحل، وهو ما يفسد خطط دول الساحل الخمس وفرنسا نحو رفع وتيرة الحرب على الإرهاب في هذه المنطقة الشاسعة المترامية الأطراف.
وتشير بعض التقارير إلى أن الولايات المتحدة توفر 80 في المائة من الدعم اللوجيستي للقوات الفرنسية الموجودة في منطقة الساحل، خاصة فيما يتعلق بنقل الجنود والمعدات، هذا بالإضافة إلى الدعم الاستخباراتي عبر توفير وتسيير طائرات «الدرون» من قواعد عسكرية شيدها الأميركيون في النيجر، ومكّنتهم من أن يغدوا لاعبين أقوياء في هذه المنطقة الشاسعة التي تنتشر فيها شبكات التهريب والإرهاب، وتغيب عنها السلطة.
ولكن حضور الأميركيين، رغم الدعم اللوجيستي والاستخباراتي الذي يقدمونه لفرنسا ودول الساحل، ما يزال محدوداً جداً على الأرض في منطقة الساحل، وهو يقتصر على بعض وحدات القوات الخاصة التي تدرب قوات مكافحة الإرهاب في النيجر لدعمها في محاربة جماعة «بوكو حرام»، قرب بحيرة حوض تشاد.
وكانت دول الساحل تتطلع لأن يرفع الأميركيون من مستوى حضورهم العسكري الميداني، لدعم الفرنسيين والجيوش المحلية في حربها على الإرهاب، خاصة أن الأشهر الأخيرة شهدت دخول «داعش» على الخط في منطقة الساحل، وهو التنظيم الذي سبق أن ألحق به الأميركيون الهزيمة في العراق وسوريا، وهم أكثر خبرة من الفرنسيين في مواجهة عناصره.
وفي الوقت الذي تدرس فيه واشنطن تقليص عدد جنودها في أفريقيا، البالغ 7 آلاف جندي «أعربت دول المنطقة عن امتنانها للدعم المهم الذي قدمته الولايات المتحدة، وأكدت رغبتها في استمراره». وأعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي أنها ستتوجه إلى العاصمة الأميركية لبحث الدعم الأميركي العسكري للقوات الفرنسية في منطقة الساحل الأفريقي، وسط مخاوف متزايدة من انسحاب الأميركيين من المنطقة.

- الفرع الصحراوي لـ«داعش»... العدو الصاعد في منطقة الساحل
منذ قرابة عقدين من الزمن ومنطقة الساحل الأفريقي، وتحديداً شمال مالي، مرتعاً لتنظيم «القاعدة» والجماعات الإرهابية التابعة له. إلا أن الوضع على ما يبدو قد تغير في ظل الصعود القوي لتنظيم داعش، عبر فرع أسس قبل قرابة 5 سنوات يحمل اسم «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى». ووصفت «قمة بو» الأخيرة هذا التنظيم بأنه بات العدو الأول في منطقة الساحل، ويطرح تحدياً كبيراً على القوات الوطنية والدولية.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال أمام الصحافيين في مدينة بو إن مكافحة هذا التنظيم باتت أولوية، لكونه شنّ خلال الأشهر الأخيرة هجمات إرهابية غير مسبوقة في المنطقة، من حيث الجرأة والقوة والدموية. وحقاً، تركزت هذه الهجمات في المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وهي المنطقة التي يتحرك فيها مقاتلوه الذين تشير بعض التقارير إلى أنهم لا يزيدون على 300 مقاتل.
هجمات التنظيم خلال الشهرين الماضيين تسببت بمقتل أكثر من 300 شخص، جلّهم من أفراد قوات الأمن وجنود الجيوش المحلية. وكان أحدث هجوم له يوم الخميس 9 يناير (كانون الثاني) الحالي، في منطقة شينيغودار بالنيجر، وخلّف 89 قتيلاً في صفوف الجيش النيجري. وقبله، في نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، شن التنظيم هجوماً دامياً على أربيندا في بوركينا فاسو، وخلف 42 قتيلاً، من ضمنهم 35 مدنياً. وفي العاشر من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، شن هجوماً على ثكنة عسكرية في إيناتس بالنيجر، خلف 71 قتيلاً في صفوف الجنود النيجريين. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، استهدف منطقة تبانكورت في مالي، وقتل 43 جندياً من جنود الجيش المالي، وغير بعيد عن المنطقة، في أنديليمان، قتل 49 جندياً مالياً.
ويشير الخبراء إلى أن التنظيم يعتمد أسلوب عمليات شبيه بذلك المعتمد من طرف مقاتلي «بوكو حرام» في نيجيريا، إذ يهاجم العشرات من سائقي الدراجات النارية ثكنات عسكرية معزولة، ويدمرون وسائل الاتصال فيها، ويقصفونها بقذائف الهاوين، ويقتلون الجنود، ثم يهربون إلى الأدغال. ويفسر الخبراء هذا التطور في الأسلوب بوجود اتصالات وتعاون وتنسيق بين الجماعات الإرهابية في القارة الأفريقية، سواء في منطقة الساحل أو منطقة بحيرة تشاد أو جنوب ليبيا.
ثم إن بعض التقارير تتحدث عن وصول مقاتلين فارين من جبهات أخرى هزم فيها تنظيم داعش، وتولوا مناصب قيادية بارزة في «داعش الصحراء»، ونقلوا إليه تجاربهم التي اكتسبوها في الحروب السابقة، كما يستعين التنظيم الإرهابي بمرتزقة ومأجورين ينتمون للمنطقة ولديهم دراية واسعة بمسالك الأرض الوعرة.


مقالات ذات صلة

آسيا مسؤولون أمنيون يتفقدون موقع انفجار خارج مطار جناح الدولي في كراتشي بباكستان 7 أكتوبر 2024 (إ.ب.أ)

أعمال العنف بين السنة والشيعة في باكستان عابرة للحدود والعقود

مرة أخرى وقف علي غلام يتلقى التعازي، فبعد مقتل شقيقه عام 1987 في أعمال عنف بين السنة والشيعة، سقط ابن شقيقه بدوره في شمال باكستان الذي «لم يعرف يوماً السلام».

«الشرق الأوسط» (باراشينار (باكستان))
المشرق العربي إردوغان وإلى جانبه وزير الخارجية هاكان فيدان خلال المباحثات مع بيلنكن مساء الخميس (الرئاسة التركية)

إردوغان أبلغ بلينكن باستمرار العمليات ضد «الوحدات الكردية»

أكدت تركيا أنها ستتخذ إجراءات وقائية لحماية أمنها القومي ولن تسمح بالإضرار بعمليات التحالف الدولي ضد «داعش» في سوريا. وأعلنت تعيين قائم بالأعمال مؤقت في دمشق.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا نيجيريا: نزع سلاح نحو 130 ألفاً من أعضاء جماعة «بوكو حرام»

نيجيريا: نزع سلاح نحو 130 ألفاً من أعضاء جماعة «بوكو حرام»

قال رئيس هيئة أركان وزارة الدفاع النيجيرية الجنرال كريستوفر موسى، في مؤتمر عسكري، الخميس، إن نحو 130 ألف عضو من جماعة «بوكو حرام» الإرهابية ألقوا أسلحتهم.

«الشرق الأوسط» (لاغوس)
المشرق العربي مئات السوريين حول كالين والوفد التركي لدى دخوله المسجد الأموي في دمشق الخميس (من البثّ الحرّ للقنوات التركية)

رئيس مخابرات تركيا استبق زيارة بلينكن لأنقرة بمباحثات في دمشق

قام رئيس المخابرات التركية، إبراهيم فيدان، على رأس وفد تركي، بأول زيارة لدمشق بعد تشكيل الحكومة السورية، برئاسة محمد البشير.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.