نيوزيلندا قد لا تستقبل حيوان «الكوالا» على أراضيها

بعد توقيع 6500 شخص التماساً بإدخاله

جراح بيطري يعالج الكوالا في جزيرة الكنغر (د.ب.أ)
جراح بيطري يعالج الكوالا في جزيرة الكنغر (د.ب.أ)
TT

نيوزيلندا قد لا تستقبل حيوان «الكوالا» على أراضيها

جراح بيطري يعالج الكوالا في جزيرة الكنغر (د.ب.أ)
جراح بيطري يعالج الكوالا في جزيرة الكنغر (د.ب.أ)

وقّع آلاف الأشخاص التماساً يطالبون فيه بإدخال حيوان الكوالا، الذي تشتهر به أستراليا، إلى نيوزيلندا، وذلك بعد أن دمرت حرائق الغابات الشرسة في أستراليا، مناطق واسعة من موائل ذلك الحيوان، ولكن أحد خبراء الكوالا قال إنه خيار غير قابل للتطبيق.
وجاء في الالتماس - الذي وقعه أكثر من 6500 شخص - بعد ظهر أمس، أنّ «الكوالا انقرضت من الناحية العملية في أستراليا، وأنّها من الممكن أن تنمو في نيوزيلندا، مثلما تنمو الكثير من الأنواع الأسترالية الأخرى».
وأضاف الالتماس أنّ حيوان الكوالا المرغوب في إدخاله إلى نيوزيلندا «لن يعرّض نظامنا البيئي المحلي للخطر، لأنّه عادة ما يعيش في غابات الأوكاليبتوس المفتوحة، وتشكل أوراق أشجار تلك الغابات أغلب نظامه الغذائي».
وقال الالتماس إنّ البلاد لديها ما يقرب من 30 ألف هكتار من مثل هذه الغابات، على غرار الغابات الأسترالية. وقد حُرق أكثر من 10 ملايين هكتار من الأراضي في أنحاء أستراليا، منذ بدء موسم حرائق الغابات مبكرا في سبتمبر (أيلول) الماضي.
وتشير التقديرات إلى أنّ هناك أكثر من مليار من الحيوانات التي قد لقت حتفها بسبب حرائق أستراليا، حسب ما ذكره «الصندوق العالمي للحياة البرية».
ومن جانبها، قالت وزيرة البيئة الأسترالية، سوسان لي، إنّه من السابق لأوانه معرفة شدّة الأضرار الناجمة عن حرائق الغابات، ولكنّها وصفت الأمر بأنّه «مأساة بيئية»، وأشارت إلى أنّ حيوانات الكوالا قد تعرضت «لضربة ساحقة». وأفادت في تصريحات أدلت بها في مستشفى «بورت ماكواري كوالا»، أمس، بأنّه من المقرر أن تُشكّل لجنة لوضع خطة لاستعادة الحيوان الذي ينتمي للفصيلة الجرابية، مضيفة أنّه «سوف يتم عمل كل ما يمكن القيام به من أجل إنقاذ واستعادة موائل الكوالا... التي تتضمن وضع أساليب تبحث فيما إذا كان يمكن بالفعل وضع الكوالا في منطقة لا ينحدر منها».
ويشار إلى أنّ الكوالا يعتبر من الأنواع المعرضة للخطر، التي تواجه الكثير من التهديدات المختلفة، وقد يكون للتأثير الإضافي الناتج عن الحرائق «آثار كارثية» على أعداد الكوالا، حسب الدكتورة فالنتينا ميلا، الأستاذة بكلية العلوم في جامعة سيدني. ولكن من الممكن أن يكون لإدخال أنواع غريبة إلى مكان جديد، أثر على كل من الحيوانات الأخرى الموجودة في ذلك المكان بالفعل من جهة، وعلى البيئة بشكل عام من جهة أخرى، حسب ما قالته ميلا لوكالة الأنباء الألمانية، عبر البريد الإلكتروني. موضحة أنّ «أستراليا ونيوزيلندا قد تطورتا بصورة فردية على مدار ملايين السنين، وقد طورت الحيوانات التي تعيش في هاتين الدولتين، أوجه تكيف مختلفة من أجل البقاء في بيئتها الخاصة». والكوالا هي حيوانات من آكلات العشب، مما يعني أنّها لا تأكل إلا عددا محدودا من أنواع الأشجار.
وتوضح ميلا: «ومن بين هذه الأنواع من الأشجار، قد تختار حيوانات الكوالا عدداً قليلا من الأشجار المفضلة، وحتى أوراق محددة من تلك الأشجار، بناء على مستوى السّموم والمواد الغذائية التي تحتوي عليها».
ويشار إلى أنّ الحيوانات لها احتياجات غذائية صارمة للغاية، وميكروبيوم (أنواع من الميكروبات المتعايشة مع الإنسان وغيره من الكائنات الحية)، متخصص للغاية في القناة الهضمية، يساعدها على هضم أوراق أنواع الأشجار المفضلة المحددة. وقالت إنه حتى حيوانات الكوالا التي تعيش في مناطق قريبة داخل نفس الموائل، تفضل أنواعا مختلفة من الأشجار.
وأوضحت ميلا أنّ نقل حيوانات الكوالا بشكل فردي، هو أمر صعب داخل أستراليا، حيث تطورت بشكل طبيعي، وسيكون الأمر «كارثيا بكل تأكيد في نيوزيلندا». وأضافت أنّ «وجود أشجار الأوكاليبتوس (المعروفة أيضا باسم -الكينا-)، لا يعني أن تلك الأشجار قادرة على الحفاظ على الكوالا الفردية، ناهيك عن أعداد الكوالا (الضخمة)». وتابعت موضحة، أنّ «لهذه الأسباب، يعتبر إدخال الكوالا إلى نيوزيلندا غير قابل للتطبيق».
وكان قد تم تجربة إدخال أنواع من الكائنات الأسترالية إلى نيوزيلندا من قبل. فبعد إدخال حيوان «الأبسوم» (أو - الفأر الجرابي -) في خمسينات القرن التاسع عشر لإطلاق تجارة الفراء، ارتفعت أعداده بصورة سريعة جدا، ولا يزال يعتبر من الآفات حتى اليوم، مما تسبب في حالة من الدمار في الغابات المحلية.
وأوضحت ميلا أنّ «نيوزيلندا تنفق ملايين الدولارات كل عام، في محاولة للقضاء على حيوانات أدخلها البشر»، مضيفة أنّه «يجب أن نتعلّم من أخطائنا وأن نستمع إلى الخبراء عند اتخاذ القرارات البيئية المهمة».
وكانت حكومة ولاية كوينزلاند الأسترالية قد أعلنت الشهر الماضي خططاً لتخصيص أكثر من نصف مليون هكتار من الأراضي للحفاظ على حيوان «الكوالا»، بعدما دمرت حرائق الغابات الأخيرة في البلاد موائل هذا الحيوان.
وكانت موائل «الكوالا» قد تعرضت للدمار بسبب تطهير الأراضي على نطاق واسع من أجل تطوير الزراعة والتنمية الحضرية، من ثمّ بسبب حرائق الغابات الضخمة في ولايتي «كوينزلاند» و«نيو ساوث ويلز» على مدار الأشهر الأخيرة.
وكشفت حكومة ولاية «كوينزلاند» عن خطط لإعلان أكثر من 570 ألف هكتار من الأراضي «منطقة ذات أولوية للكوالا»، في إطار استراتيجية «الكوالا» الجديدة. وتبلغ مساحة المنطقة المخصصة لحيوان «الكوالا» أكثر من ضعف مساحة مدينة باريس الفرنسية.


مقالات ذات صلة

تناولتها جزئياً... امرأة أميركية تُقتل على يد خنازير جارها

يوميات الشرق الحادث أصبح أكثر تعقيداً بسبب حقيقة أن المهاجمين كانوا من الماشية وليسوا حيوانات أليفة (رويترز)

تناولتها جزئياً... امرأة أميركية تُقتل على يد خنازير جارها

تعرَّضت امرأة من ولاية أوهايو الأميركية للهجوم والقتل والأكل الجزئي في منزلها من قبل خنازير جارها في يوم عيد الميلاد، وفقاً للشرطة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق فيل يرعى في حديقة حيوان في برلين - ألمانيا 3 يناير 2025 (أ.ب)

فيل مذعور يقتل سائحة إسبانية في محمية تايلاندية

أعلنت الشرطة التايلاندية، الاثنين، أن فيلاً «مذعوراً» قتل سائحة إسبانية أثناء وجودها بجانبه خلال استحمامه في مياه محمية في جنوب تايلاند.

«الشرق الأوسط» (بانكوك)
يوميات الشرق أنواع من الخفافيش تهاجر لمسافات طويلة (معهد ماكس بلانك لدراسة سلوك الحيوانات)

الخفافيش تقطع 400 كيلومتر في ليلة واحدة

الخفافيش تعتمد على استراتيجيات طيران ذكية لتوفير الطاقة وزيادة مدى رحلاتها خلال هجرتها عبر القارة الأوروبية مما يمكنها من قطع مئات الكيلومترات في الليلة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ثعبان «موراي هاديس» يتميز بلونه البني الداكن وقوامه النحيف (جامعة صن يات سين الوطنية)

اكتشاف نوع جديد من الثعابين يعيش في قيعان الأنهار

أعلن فريق دولي من العلماء عن اكتشاف نوع جديد من ثعابين «الموراي»، أُطلق عليه اسم «موراي هاديس» (Uropterygius hades)، نسبة إلى إله العالم السفلي في الأساطير.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق الوفاء... (أ.ب)

كلبة تقرع باب عائلتها بعد أسبوع من هروبها

بعد بحث استمرَّ أسبوعاً، وجدت «أثينا» طريقها إلى منزل عائلتها في ولاية فلوريدا الأميركية بالوقت المناسب عشية عيد الميلاد؛ حتى إنها قرعت جرس الباب!

«الشرق الأوسط» (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)