النواب البريطانيون يطوون صفحة «بريكست»

الاتحاد الأوروبي يبدأ بتحديد الخطوط الحمراء في المفاوضات

جونسون المنتصر (أ.ف.ب)
جونسون المنتصر (أ.ف.ب)
TT

النواب البريطانيون يطوون صفحة «بريكست»

جونسون المنتصر (أ.ف.ب)
جونسون المنتصر (أ.ف.ب)

في اليوم الأخير من الشهر الحالي وعند الساعة 23:00 بتوقيت لندن تصبح بريطانيا أول دولة عضو تغادر التكتل الأوروبي بعد 47 عاما. وبعد تصويت تاريخي بعد أزمة مستمرة منذ ثلاث سنوات ونصف، أي منذ استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) في يونيو (حزيران) 2016 وافق النواب البريطانيون على النص النهائي الذي سيسمح للمملكة المتحدة بمغادرة الاتحاد الأوروبي في 31 يناير (كانون الثاني). ومر نص الاتفاق الذي أبرمه رئيس الوزراء بوريس جونسون مع دول الاتحاد الـ27، بكل سهولة في مجلس العموم، ما سيفتح صفحة جديدة في العلاقات الصعبة بين المملكة والتكتل الأوروبي. وصادقت الغرفة السفلى المنتخبة في البرلمان البريطاني التي يهيمن عليها المحافظون بزعامة رئيس الوزراء بوريس جونسون، على النص الذي يرسي اتفاق بريكست في قانون، بأغلبية 330 صوتا مقابل 231 صوتا معارضا، وسيطرح الأسبوع المقبل على مجلس اللوردات قبل أن توافق عليه الملكة إليزابيث الثانية. ويبقى أن يصادق البرلمان الأوروبي على الاتفاق لتصبح المملكة المتحدة في 31 يناير (كانون الثاني).
واعتبر التصويت على مشروع قانون اتفاق الانسحاب من الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير شكليا، حيث يتمتع حزب المحافظين بزعامة جونسون بأغلبية 80 مقعدا في المجلس المؤلف من 650 مقعدا عقب انتخابات مبكرة جرت الشهر الماضي. وسيدفع ذلك، جونسون أكثر نحو تحقيق هدفه ببدء عملية الانسحاب الرسمي لبريطانيا. ويشكل مشروع القانون مرحلة مهمة «في رحلة عودة بريطانيا... للأمل وإلى الوطنية والعظمة»، حسبما قال النائب جون هييس عن الحكومة خلال جلسة نقاش أمس الخميس، كما نقلت عنه الصحافة الفرنسية. وسيطوي ذلك التاريخ صفحة من الفوضى السياسية شهدتها بريطانيا منذ الاستفتاء الذي حصل فيه مؤيدو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على 52 في المائة من الأصوات.
وخلال الثلاث سنوات ونصف التي تلت الاستفتاء انقسم البريطانيون حول الأمر، ورفض البرلمان اتفاقا أبرمته رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي دون اقتراح سيناريو بديل، ما أثار مخاوف من حدوث خروج صعب أو تخلي عن الخروج. وحسم وصول جونسون المؤيد المتحمس لبريكست إلى الحكم وفوزه الانتخابي العريض الأمر، لكن دون حل لمختلف التحديات القائمة.
ينظم اتفاق بريكست التي تم التفاوض بشأنه مع بروكسل الخطوط العريضة للطلاق خصوصا من خلال ضمان حقوق المواطنين وتسوية معضلة الحدود داخل آيرلندا. ويهدف تحديدا إلى ضمان المرور بسلاسة إلى علاقة مستقبلية بين الطرفين ما زال يتعين تحديدها.
وتبدأ في 31 يناير (كانون الثاني) فترة انتقالية تستمر حتى نهاية 2020 بغرض تمكين بروكسل ولندن من الاستعداد لعلاقة المستقبل. وسيستمر البريطانيون خلالها في تطبيق القواعد الأوروبية والإفادة دون مشاركة من المؤسسات الأوروبية ودون الحق في القرار داخلها. ويرفض جونسون أي تمديد للفترة الانتقالية لما بعد 2020، وهي إمكانية واردة في اتفاق بريكست. وكرر ذلك الأربعاء لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لين التي استقبلها في لندن داعيا إلى بدء التفاوض «بأسرع ما يمكن». لكن إزاء ضغط الجدول الزمني، ألمحت رئاسة الحكومة البريطانية إلى إمكانية الاكتفاء باتفاق جزئي إذا تعذر التوصل إلى اتفاق شامل بحلول نهاية 2020، ونبهت رئيسة المفوضية الأوروبية إلى أن المباحثات ستكون «صعبة» وأنه سيكون من المستحيل الاتفاق على «الصعد كافة» دون تمديد فترة المباحثات وقالت: «علينا اختيار الأولويات».
وحذرت من أن الاتحاد الأوروبي سيبقى حازما بشأن مبادئه «دون منافسة منصفة في مجالات البيئة والعمل والضرائب ومساعدات الدولة، لا يمكن الحصول على دخول رفيع المستوى لأكبر سوق مشتركة في العالم». وبدأ الاتحاد الأوروبي الأربعاء أعمالاً لتحديد الخطوط الحمر وأهدافه في المفاوضات. وستوجه هذه المباحثات المفوضية المكلفة لتقدم للدول الأعضاء ولاية التفاوض التي تتيح لها التفاوض باسم الدول ويمكن أن يتم اعتماد هذا التكليف مع نهاية فبراير (شباط). وقال رئيس الحكومة الكرواتية أندري بلينكوفيتش الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، إنه على الطرفين أن يكونا «واقعيين».
وأضاف في تصريحات في زغرب: «هذا يعني عدم وضع الكثير من الملفات التي لا يمكن حلها على الطاولة»، مشيرا إلى ملفي التجارة والصيد البحري باعتبارهما ملفين أولويين.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟