مساءلة ماضٍ يرفض الانزواء

«عرب في لندن» لعبد الجليل الساعدي

مساءلة ماضٍ يرفض الانزواء
TT

مساءلة ماضٍ يرفض الانزواء

مساءلة ماضٍ يرفض الانزواء

في لعبة «الكريكيت» هناك لاعبون متميزون بقدراتهم ومهاراتهم في اللعب في كل المراكز، يسمونهم باللغة الإنجليزية «All round players». الأمر نفسه ممكن أن يقال عن كثير من الكتاب المتمرسين ومن ذوي المواهب في قدراتهم ومهاراتهم على الخوض في أنواع كثيرة من الكتابة، تبدأ من المقالة الصحافية، مروراً بالشعر، انتهاء بالرواية؛ ومن ضمنهم الكاتب الليبي عبد الجليل الساعدي.
لم أكن أعرف عبد الجليل شخصياً، رغم تشاركنا في العيش في لندن، لكنه لفت اهتمامي بما كان ينشره من مقالات متفرقة في الصحف العربية الصادرة بها، وهذا حثني على متابعة ما ينشر لأمرين: أولهما ما تتميز به تلك المقالات من سلاسة ووضوح في العرض، ومهارة في توصيل أفكاره للقارئ بلغة عربية متميزة، وأسلوب يشي بعلاقة وطيدة بينه وبين الشعر. وثانيهما أن تلك المقالات تميزت بتسليطها الضوء على تنوع الإيقاعات الحياتية في لندن، مما يؤكد انهماكه واستغراقه كإنسان مغترب في استيعاب مفردات الواقع المختلف الذي قادته الظروف للعيش فيه، لتساعده على أن يجد طريقه، وهو الغريب، في ازدحامه وتعقيداته وتشابكه، وليقف بقدميه على أرض غير رخوة، وتحت سماء يدرك أبعادها، رغماً عن حلكة غيومها وضبابها.
وهذا ما انعكس في روايته «عرب في لندن»، الصادرة أخيراً في 385 صفحة من القطع المتوسط عن مؤسسة الرحاب الحديثة، في بيروت، التي تعد باكورة أعماله الروائية. وحسب علمي، فإن الرواية هي أول الأجزاء من ثلاثية بالعنوان نفسه.
الرواية تضع القارئ في حيرة منذ البداية. أولاً، لأن الرواية تاريخياً نوع إبداعي غربي، وصلنا من أوروبا بمعايير معينة تتأسس على استقطاع واقع إنساني ورصده أفقياً، بمتابعة تنقلات وتغيرات حيوات شخصياته. وحين بدأت الرواية العربية في الصدور، اقتفى كتابها خطوات الروائيين الأوروبيين على اختلافهم، لكنهم حافظوا على الإطار المتعارف عليه، ومن خلاله قدموا أعمالهم للجمهور. ما يميز رواية «عرب في لندن» أنها خالفت تلك المعايير، ونحت إلى اختيار مجرى مختلف.
اختار الساعدي أن يجمع أبطال روايته من شخصيات عربية، من الجنسين، في مكان واحد محدد، وهو مقر عملهم في لندن، وداخل جدران مقر شركة اسمها «الإطلال». وقلبَ توقعاتنا رأساً على عقب، إذ بدلاً من تتبع ما يدور بينهم من صراعات وتفاعلات، وما يتوالد بينهم من مشاعر وخصومات، وتأثيرات الغربة على حيواتهم، وما تتركه من آثار في ذواتهم، اختار أن يكون عَرَبه، من الجنسين، في ذلك المكان وسيلته التي ينقلنا بها (نحن القراء) ليس إلى عوالمهم، بل باتجاه طرح قضايا وهموم وشؤون ماضوية، تقوم على مقارنة تراثهم وتاريخهم ولغتهم بالواقع الاغترابي الآخر الذي يعيشون فيه.
أضف إلى ذلك أنه عمد، قصداً، إلى اختيار أسماء عربية بعضها يعد مهجوراً، ذات نبرة صوتية غير مألوفة على الأذن، وهو أمر لا يعبر ذهن القارئ دون أن يثير فيه رغبة التوقف للتساؤل عن المغزى من ذلك، وكأن الكاتب يسعى لتذكيرنا بما أضعناه.
القراءة الأولى تترك انطباعاً لدى القارئ بأنه لا يقرأ رواية بالمعنى المتعارف عليه، بل يدخل مباشرة في خضم حوارات بين أشخاص ضمهم فضاء محدود، واهتمامات تكاد تكون متشابهة بقضايا لغوية وشعرية وسياسية... إلخ. لكن القراءة الثانية تجعل القارئ يتوقف لينفض ما تراكم في ذهنه من حيرة وأسئلة تتعلق بالكاتب نفسه. فالساعدي أستاذ متخصص في علم اللغويات، واللغة العربية ميدانه، ويبدو أن ذلك الجانب فيه قد طغى على حساب السارد المبدع، أو -على الأقل- يرفض أن يتوارى.
نحن في «عرب في لندن» أمام سرد روائي مختلف، محصورون في فضاء مغلق، بلا نوافذ نطل من خلالها (نحن القراء) على ما يحدث في الدنيا، وما يجري في نفوس الشخصيات، حتى قصص الحب التي تنمو وتنشأ بينهم تجيء على خجل، وسريعاً، ثم تختفي، لتفسح المجال أمام مواصلة استكمال الحوارات والنقاشات، ومواصلة تباين الاختلافات في القضايا المطروحة. وكأن الكاتب مثقل بهمومها ويريد طرحها، واحدة تلو الأخرى، بروح من يود تصفية الحساب معها، مرّة وإلى الأبد، ثم تنفس الصعداء.
على المستوى الأسلوبي واللغوي، يؤكد عبد الجليل الساعدي في عمله الروائي الأول على موهبته، وعمق علاقته باللغة العربية، وبالتراث العربي والأدب البريطاني، وخاصة تتبعه ورصده بحب لأهم شعرائه وأنجبهم، ويقدمهم إلى القارئ العربي من خلال مقاربة مع نظرائهم من شعراء اللغة العربية، خاصة القدامى منهم.
ويبقى سؤال معلق، وفي حاجة إلى إجابة، ويتعلق برؤية الساعدي الكاتب لمعايير العمل الروائي، وحرصه على تصنيف عمله السردي الأول تحت خانة الرواية. ذلك أن تلك المعايير المتعارف عليها لا تجد لها إلا القليل من رجع صدى في روايته. وبدلاً منها، يفصّل لنفسه، عمداً، قالباً آخر، وبمعايير مختلفة، يطرح من خلالها نفسه بصفته روائياً.
وشخصياً، لا أرى سبباً يحول بينه وبين ذلك، لكن ما يهم في العمل الفني الإبداعي هو تمازج الشكل والمضمون في وحدة واحدة، والقدرة على الإقناع والإمتاع عقلياً وفنياً وجمالياً، عبر بناء محكم وشخصيات إنسانية يجري في عروقها دم الحياة، وفي قلوبها مشاعر وعواطف متضاربة، وفي عقولها تخيم أسئلة بأشكال كثيرة تتنازعها بما يطرحه الواقع عليها من إشكالات.

- كاتب ليبي


مقالات ذات صلة

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر
TT

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

تشهد منطقة الباحة، جنوب السعودية، انطلاقة الملتقى الأول للأدب الساخر، الذي يبدأ في الفترة من 22-24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وينظمه نادي الباحة الأدبي.

وأوضح رئيس النادي، الشاعر حسن الزهراني، أن محاور الملتقى تتناول «الأدب الساخر: المفهوم، والدلالات، والمصادر»، و«الاتجاهات الموضوعية للأدب الساخر، والخصائص الفنية للأدب الساخر في المملكة»، وكذلك «مستويات التأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظيراتها العربية»، و«حضور الأدب الساخر في الصحافة المحلية قديماً وحديثاً»، و«أثر القوالب التقنية الحديثة ومواقع التواصل في نشوء أشكال جديدة من الأدب الساخر محلياً»، و«سيميائية الصورة الصامتة في الكاريكاتير الساخر محلياً».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وشارك في صياغة محاور الملتقى لجنة استشارية تضم: الدكتور عبد الله الحيدري، والدكتور ماهر الرحيلي، والقاص محمد الراشدي، ورسام الكاريكاتير أيمن يعن الله الغامدي.

وكشف الزهراني أن النادي تلقى ما يزيد على 40 موضوعاً للمشاركة في الملتقى، وأقرت اللجنة 27 بحثاً تشمل؛ ورقة للدكتورة دلال بندر، بعنوان «حمزة شحاتة... الأديب الجاد ساخراً»، والدكتور محمد الخضير، بعنوان «الخصائص الفنية في الأدب الساخر عند حسن السبع في ديوانه ركلات ترجيح - دراسة بلاغية نقدية»، والدكتور صالح الحربي، بعنوان «المجنون ناقداً... النقد الأدبي في عصفورية القصيبي»، والدكتور عادل خميس الزهراني، بعنوان «الصياد في كمينه: صورة الحكيم في النكت الشعبية بمواقع التواصل الاجتماعي»، والدكتور حسن مشهور، بعنوان «الكتابة الساخرة وامتداداتها الأدبية... انتقال الأثر من عمومية الثقافة لخصوصيتها السعودية»، والدكتورة بسمة القثامي، بعنوان «السخرية في السيرة الذاتية السعودية»، والدكتورة كوثر القاضي، بعنوان «الشعر الحلمنتيشي: النشأة الحجازية وتطور المفهوم عند ابن البلد: أحمد قنديل»، والدكتور يوسف العارف، بعنوان «الأدب الساخر في المقالة الصحفية السعودية... الكاتبة ريهام زامكة أنموذجاً»، والدكتور سعد الرفاعي، بعنوان «المقالة الساخرة في الصحافة السعودية... الحربي الرطيان والسحيمي نموذجاً»، والدكتور عمر المحمود، بعنوان «الأدب الساخر: بين التباس المصطلح وخصوصية التوظيف»، والدكتور ماجد الزهراني، بعنوان «المبدع ساخراً من النقاد... المسكوت عنه في السرد السعودي»، والمسرحي محمد ربيع الغامدي، بعنوان «تقييد أوابد السخرية كتاب: حدثتني سعدى عن رفعة مثالاً»، والدكتورة سميرة الزهراني، بعنوان «الأدب الساخر بين النقد والكتابة الإبداعية... محمد الراشدي أنموذجاً». والدكتور سلطان الخرعان، بعنوان «ملخص خطاب السخرية عند غازي القصيبي: رؤية سردية»، والدكتور محمد علي الزهراني، بعنوان «انفتاح الدلالة السيميائية للصورة الساخرة... الرسم الكاريكاتوري المصاحب لكوفيد-19 نموذجاً»، والكاتب نايف كريري، بعنوان «حضور الأدب الساخر في كتابات علي العمير الصحافية»، والدكتور عبد الله إبراهيم الزهراني، بعنوان «توظيف المثل في مقالات مشعل السديري الساخرة»، والكاتب مشعل الحارثي، بعنوان «الوجه الساخر لغازي القصيبي»، والكاتبة أمل المنتشري، بعنوان «موضوعات المقالة الساخرة وتقنياتها عند غازي القصيبي»، والدكتور معجب الزهراني، بعنوان «الجنون حجاباً وخطاباً: قراءة في رواية العصفورية لغازي القصيبي»، والدكتور محمد سالم الغامدي، بعنوان «مستويات الأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظرياتها العربية»، والدكتورة هند المطيري، بعنوان «السخرية في إخوانيات الأدباء والوزراء السعوديين: نماذج مختارة»، والدكتور صالح معيض الغامدي، بعنوان «السخرية وسيلة للنقد الاجتماعي في مقامات محمد علي قرامي»، والدكتور فهد الشريف بعنوان «أحمد العرفج... ساخر زمانه»، والدكتور عبد الله الحيدري، بعنوان «حسين سرحان (1332-1413هـ) ساخراً»، ويقدم الرسام أيمن الغامدي ورقة بعنوان «فن الكاريكاتير»، والدكتور يحيى عبد الهادي العبد اللطيف، بعنوان «مفهوم السخرية وتمثلها في الأجناس الأدبية».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وخصص نادي الباحة الأدبي جلسة شهادات للمبدعين في هذا المجال، وهما الكاتبان محمد الراشدي، وعلي الرباعي، وأعدّ فيلماً مرئياً عن رسوم الكاريكاتير الساخرة.

ولفت إلى تدشين النادي 4 كتب تمت طباعتها بشكل خاص للملتقى، وهي: «معجم الأدباء السعوديين»، للدكتورين عبد الله الحيدري وماهر الرحيلي، وكتاب «سامحونا... مقالات سعد الثوعي الساخرة»، للشاعرة خديجة السيد، وكتاب «السخرية في أدب علي العمير» للدكتور مرعي الوادعي، و«السخرية في روايات غازي القصيبي» للباحثة أسماء محمد صالح.