ولّى ذلك الزمن الذي كانت تنهار فيه الديمقراطيات تحت وطأة الانقلابات العسكرية أو الثورات الشعبية، وبدأ عصر انحلال النظم الديمقراطية في عجزها عن معالجة المشكلات الملحّة التي يعاني منها المواطن، وجنوحها نحو أنماط شبه استبدادية للحكم تقوم على شخصية الزعيم «المنقذ» الذي غالباً ما يحاكي الغرائز التي خدّرتها عقود من الرفاه والاستقرار وعادت لتستيقظ على وقع الأزمات الاقتصادية وانسداد الأفق أمام حلّها في القريب المنظور.
النزف الديمقراطي في العالم لم يعد وليد الصراعات العسكرية، بل أصبح صنيع الزعامات المنتخَبة والرؤساء الذين يتنكرّون للقواعد التي أوصلتهم إلى السلطة وينقلبون عليها. وكما يقول الباحث السياسي في جامعة هارفارد ستيفن ليفيتسكي في مؤلفه (كيف تموت الديمقراطيات): «في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين لن تلفظ الأنظمة الديمقراطية أنفاسها الأخيرة برصاصة الرحمة التي ستطلق عليها، بل بعد حشرجة ضعيفة ناجمة عن وهن المؤسسات الأساسية مثل الأجهزة القضائية والمجالس التشريعية ووسائل الإعلام، وتداعي القواعد السياسية التقليدية».
وقد شهد العام المنصرم مواجهة شديدة بين تيّارين يدفع كل منهما بعكس الآخر، وليس واضحاً بعد لمن ستكون الغلبة في نهاية هذا الصراع الذي بدأ يزعزع القواعد الاجتماعية وركائز التعايش في العديد من الدول. الأول ليس بجديد، بل هو نما في العقدين الماضيين وتوطّد خلال السنوات الأخيرة فيما يمكن تسميته تمرّد النخبة. والثاني له سوابق عدة في العقود الماضية، من مايو (أيار) 1968 الفرنسي إلى محطات الربيع العربي وانفجار الحركات الشعبية، لكنه راح يتجسّد مؤخراً في احتجاجات متزامنة شملت مناطق عديدة من العالم، يقودها طيف واسع من المواطنين والمجموعات المدنية المتفاوتة، من كل الأعمار ومن غير انتماء طبقي محدد، يعربون عن غضبهم؛ لأن السياسة قد تخلّت عنهم ويشعرون بأن الطبقة الحاكمة تهزأ بهم وتحتقرهم.
ويلاحظ الباحثون الذين انكبّوا على دراسة هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة، أن ثمّة نزوعاً متزايداً بين الطبقة الحاكمة نحو التخلّي عن هدف المصلحة المشتركة، يدفع المجتمعات الغربية إلى المزيد من الفوضى، فيما تنهار الطبقة الوسطى التي كانت تشكّل عماد هذه المجتمعات ومصدر استقرارها الرئيسي، وتزداد أزمة التمثيل السياسي حدّة مع اتسّاع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية.
لكن الطبقة السياسية المسيطرة، وبالتناغم مع النُخَب، ما زالت تصرّ على أسطورة الطبقة الوسطى الصاعدة اجتماعياً التي لم يعد لها وجود منذ ما لا يقلّ عن عقد من الزمن. وتقوم هذه الطبقة، بالتعاون والتواطؤ مع مجموعات اقتصادية وسياسية تمثّل الشرائح المحظيّة في المجتمعات، بفسخ من طرف واحد للعقد الاجتماعي الذي يربط بين المواطنين، وتنعزل في أوساطها وداخل شبكاتها وعالمها المكتفي بذاته، متخلّية عن الطبقات الاجتماعية الأخرى ومتنكّرة لفكرة الديمقراطية كنظام يُعنى بكل المواطنين.
والعقد الاجتماعي الذي تخلّت عنه الطبقة المهيمنة هو اتفاق ضمني غير مكتوب بين المواطنين والدولة والنُخَب، يقتضي توفير الحماية الاجتماعية والاقتصادية الأساسية، بما فيها فرص معقولة للعمل ودرجة معيّنة من الأمان المعيشي لكل مواطن. ومن الشروط التي يتضمنها هذا الاتفاق، أن يتقاسم الفقراء أرباح المجتمع في زمن النمو الاقتصادي، وأن يساهم الأغنياء في التخفيف من الضائقة الاجتماعية في الأزمات. وهذا بالتحديد ما أخفقت فيه المجتمعات الغربية إبّان «الكساد الكبير» أواخر عشرينات القرن الماضي، وما تتبدّى ملامحه اليوم حيث تتجّه الأنظمة السياسية نحو ديمقراطيات فرديّة لم يعد قوامها التضامن ودعم الحقوق الشخصية. إنه نموذج نرجسي للديمقراطية، ينزع نحو أنماط جديدة من التفرقة السياسية والاجتماعية والثقافية، وينال من نوعيّة الحكم ومستوى أدائه.
التيّار المعاكس تمثّله الاحتجاجات والتحرّكات العديدة التي انفجرت في مناطق متباعدة جغرافياً طوال العام المنصرم، واتخّذت أشكالاً مختلفة جمع بينها عدم وجود رابط سياسي أو نقابي، وكانت قواسمها المشتركة هي العفويّة وعدم وجود قيادات أو تحديد خصم معيّن لانتفاضتها. إنه، في جملة القول، تيّار الخاسرين في نظـام العولمة يخرجون إلى الشوارع ضد قوانين العمل الجديدة وتحرير التجارة والعفو عن الذين يتهرّبون من دفع الضرائب والسوق الأوروبية الواحدة، ويشعرون بأنهم وقعوا ضحيّة خدعة كبيرة بأن كل ذلك سيؤدي إلى تحسين ظروف حياتهم.
إنهم مواطنون غاضبون ومقتنعون بأن اللجوء إلى القنوات والسبل المؤسسية للضغط لا يجدي نفعاً، لأن أهل السياسة غير قادرين على فهم ظروفهم ومعاناتهم، أو غير مستعدّين للتجاوب مع المطالب الاجتماعية الواسعة التي تستدعي تغييراً جذريّاً في وجهة الحكم. لكن الغاضبين، في غالبيتهم الساحقة، يكتفون بالتعبير عن استياء عارم من الأنظمة السياسية بغضّ النظر عن لونها، ولا يقترحون أي برامج عمل من شأنها تحقيق أهداف معيّنة. إنهم يحملون من الإحباط أكثر مما يحملون من الطموحات، ولأنهم لا يشعرون بانتماء بروليتاري فمن الأرجح ألا تؤدي احتجاجاتهم إلى تغيير في الواقع الاجتماعي.
لكن ماذا سيحصل بعد هذه الانتفاضات العفوية الحاشدة عندما يستقرّ الإنهاك في صفوفها؟ ما الذي سيتبقّى من كل هذه الاحتجاجات؟
هذه التساؤلات تذكّرنا بالنقاش الذي دار بعد أحداث مايو 68 حول ما إذا كان النضال الاجتماعي يحتاج لطلائع سياسية أو نقابية منظمة لقيادته. ويقول أحد الذين شاركوا في تلك الأحداث، بعد خمسين عاماً على وقوعها: «ثم جاء الشهر التالي، فأعاد اليمين تنظيم صفوفه فيما لم يكن عند اليسار ما يقدّمه آيديولوجياً أو حتى إصلاحيا. من كل ذلك استخلصت عبرة واحدة: لا عودة إلى محاولة الإمساك بالسلطة من القاعدة ولا إلى الخطاب السياسي من خارج السلطة. تملكتني المرارة والنقمة على هشاشة ما قمنا به والألم العميق الذي خلّفته تلك التجربة، ولذلك فإن الدعوات إلى الإمساك الجزئي بالسلطة تثير عندي شكوكاً كبيرة».
عوارض «السقم» في الديمقراطيات الغربية
عوارض «السقم» في الديمقراطيات الغربية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة