مكة المكرمة بعيون الرحالة المغاربة

كتاب يرصد الظواهر الطبيعية والآثار العمرانية في المدينة المقدسة خلال القرن الـ18

مكة المكرمة بعيون الرحالة المغاربة
TT
20

مكة المكرمة بعيون الرحالة المغاربة

مكة المكرمة بعيون الرحالة المغاربة

يُبرز كتاب «الظواهر الطبيعية والآثار العمرانية في مكة المكرمة من خلال كتابات الرحالة المغاربة في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي)» اهتمام الرحالة المغاربة بوصف الظواهر المناخية التي سادت مكة المكرمة عند زيارتهم لها، وعناية هؤلاء المؤرخين بوصف مظاهر سطح الأرض في مكة المكرمة وتضاريسها من جبال وهضاب وشعاب، ووديان، وما يكسو هذه الأماكن من نباتات وأعشاب، واهتمامهم أيضاً بوصف الآثار العمرانية القديمة التي بقيت معالم تاريخية قائمة أزمنة مديدة.
ويعكس الكتاب صور الحياة الثقافية والدينية في مكة المكرمة في القرن الثامن عشر الميلادي، والتي كانت ممتدة عبر الأزمان، وتجسد التسامح والتعددية الفكرية، كما تصور كتابات الرحالة الطبيعة المكانية للمدينة المقدسة، وتأثير المكان والزمان على مسيرة الحجاج والمعتمرين، حيث تعصف بقوافلهم حالات الطقس الملتهبة، وتؤدي لوفاة أعداد غفيرة منهم. كما تمثل المسارات التي يمرّ بها الحجاج جانباً مهماً من حركة التجارة والعمارة والحضارة.
- كرسي الملك سلمان
الكتاب، الواقع في 300 صفحة من الحجم الكبير وينقسم إلى 3 فصول، من إصدارات «كرسي الملك سلمان بن عبد العزيز لدراسات تاريخ مكة المكرمة»، وهو كرسي علمي نشأ بمبادرة من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى، بالشراكة بين الجامعة و«دارة الملك عبد العزيز»، ويهدف لدراسة تاريخ مكة المكرمة وفق منهج تاريخي، وآليات بحثية أصيلة وحديثة. وخلال 4 أعوام أتمها الكرسي، أصدر عدداً من الكتب والتحقيقات التي تدور حول التاريخ المكي، كما تم تدشين 9 إصدارات تناولت الجوانب الاجتماعية والأدبية والمالية، ومناهج البحث والأوقاف والظواهر الطبيعة والمعالم التاريخية، ويشرف على الكرسي الدكتور عبد الله الشريف، الذي يرى أن المجموعة الأولى من إنجازات الكرسي العلمية تمثّلت في «إنجاز أكثر من 50 بحثاً علمياً، نشر عدداً منها والبقية تحت النشر، إلى جانب عدد من الدراسات البحثية الأخرى التي يعكف عليها الباحثون في تاريخ مكة المكرمة عبر العصور؛ ومنها العصر السعودي».
ويقول الشريف إن الكرسي يسعى «لخدمة وإبراز تاريخ مكة المكرمة ودعم البحث العلمي وتعميق الفكر التاريخي، وكذلك دراسة تاريخ مكة المكرمة، وتمويل المشاريع البحثية فيه، وتحقيق مصادر التاريخ المكي، وترجمة المؤلفات في التاريخ المكي، بالإضافة إلى نشر المصنفات في التاريخ المكي، من خلال جعله حلقة وصل بين الأكاديميين والباحثين في قسم التاريخ بجامعة أم القرى، ومركز تاريخ مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومكملاً لدور المركز ورافداً لدارة الملك عبد العزيز في خدمة التاريخ الوطني، علاوة على عقد شراكات بحثية واستشارية مع المراكز العلمية والقطاعات الحكومية والأهلية في مجالات اختصاص الكرسي، وعقد اللقاءات والمناشط العلمية في حقل التاريخ المكي، ودعم طلاب الدراسات العليا بقسم التاريخ، والباحثين في تاريخ مكة المكرمة».
- عينُ الجغرافي عينٌ ثاقبة
تمتاز كتابات الرحالة على العموم باشتمالها على قدر كبير من القضايا والمعلومات عن البلاد والمجتمعات، بنظمها السياسية والاقتصادية، وأنساقها الاجتماعية والثقافية.
وتُعدّ الرحلات المغربية على هذا النحو وثيقة تاريخية ‏مهمة سجلها مثقفون معاصرون، ضمنوها مشاهداتهم للأماكن والبلدان التي مروّا بها منذ خروجهم حتى عودتهم، وتزداد عنايتهم بوصف المكان حسب أهميته لديهم. وتتسم هذه الكتابات الوصفية بالبعد عن التزييف إلى حد كبير «فكتابها لا يرغبون من ورائها في مطمع دنيوي، ولا يتأثرون بتوجه سياسي أو عرقي أو طائفي، فضلاً عن كونهم متلبسين بطاعة الحج» (ص 14).
‏يرى محقق هذه الرحلات، الدكتور سامح عبد العزيز، أن ما دوّنه الرحالة يمثل المصادر غير التقليدية التي عُني أصحابها بتسجيل المشاهدات والأحداث الخاصة بمكة المكرمة في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي)، وقد دوّن هذه الرحلات الحجاج المغاربة من العلماء والأدباء، وهم يمثلون النخبة المثقفة في بلادهم، فأثروا المكتبة العربية برحلاتهم إلى امتازت باشتمالها على وصف كامل للحياة بشتى صورها، ورصدٍ لكل ما شاهدته أعينهم من مظاهر طبيعية، وآثار عمرانية، مركّزين على بيان أثرها في النشاط البشري عند تأدية مناسك الحج في مكة المكرمة.
ويلاحظ المؤلف أن مشاهدات الغرباء عن المكان تختلف غالباً عن رؤية المؤرخين المحليين، فما ألفه المقيمون بمكة المكرمة حول الظواهر والأحداث وقد لا يعيرون لها انتباهاً، هي موضع عناية الرحالة واهتمام الغرباء؛ «حتى غدت رحلات عبارة عن خريطة مناخية تضاريسية تصف الطقس وسطح الأرض وصفاً دقيقاً، فكلما مروا بظاهرة وصفوها، مع التركيز على أثرها الإيجابي أو السلبي في الحجاج والمعتمرين، ‏ووضع بعض الحلول ليستعين اللاحقون بها لتفادي المعوقات».
أما عنايتهم بالآثار العمرانية في مكة المكرمة؛ من مساجد ومنازل وبيوت وقبور وغيرها، فيرجع إلى التعريف بالمزارات والآثار الشريفة، ووصفها وتحليلها، وتحديد أماكنها، وتسجيل انطباعاتهم عنها، في محاولة لربطها بالواقع، وإخراجها من مصادر التراث، ليستعين بذلك القادمون من الحجاج والزوار.
- الحسّ الجغرافي
يسرد مؤلف الكتاب بداية معرفته بهذه الرحلات المغربية إلى عام 2008 حين كان يُعّد رسالة الدكتوراه في جامعة الأزهر عن العلاقات التجارية بين مصر وولايات المغرب العثمانية في القرن الـ18 الميلادي، حيث قاده البحث لسبر أغوار 15 رحلة مغربية، كانت حافزاً لتخصيص بحث لهذه الدراسة موضوع الكتاب.
ويقول إنه اعتمد في إعداد دراسته على عدد كبير من الرحلات المغربية التي لا يزال أكثرها مخطوطاً في دور الحفظ في الرباط والقاهرة، بالإضافة إلى مصادر التاريخ المكي من المخطوطات والمطبوعات (وهي مثبتة جميعاً في قائمة المصادر والمراجع).
ويذكر المؤلف أن سبب اهتمام الرحالة المغاربة بوصف الظواهر الطبيعية في مكة المكرمة من مناخ وتضاريس وآبار وغيرها، هو أن «هؤلاء الرحالة غلب عليهم الحسّ الجغرافي، فكانت رحلاتهم تحمل كثيراً من المعلومات الجغرافية لا عن مكة وحدها؛ بل عن الطرق والبلاد التي مرّ بها الركبان منذ خروجهم من المغرب وحتى عودتهم إلى بلادهم... وعين الجغرافي عين ثاقبة تلتفت إلى كل غريب ومثير» (ص25).
‏ أما الرحلات التي حققها المؤلف للوصول لهذا الكتاب، فمن بينها: «الرحلة الناصرية»، لأبي العباس أحمد بن ناصر الدرعي (تمت الرحلة بين 1709 و1710)، و«رحلة الإسحاقي» لمحمد الشرقي الإسحاقي (1731 - 1732)، و«رحلة ابن عبد القادر الفاسي» من مدينة فاس إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهذه تمت بين عامي 1797 و1798... وغيرها.
- دليل الحجاج
وقد اهتم المؤرخون والرحالة بتسجيل مشاهداتهم في مكة المكرمة وحرصوا على وصف طرقها التي مروا بها؛ من جبالٍ ووديان وعيون ماء، وما زاروا فيها من أماكن وآثار بقيت شاهدة لمن مروا بها أو عاشوا في زمانها. وتمّثلت مقاصد الرحالة في تعريف من يأتي بعدهم بهذه الأماكن التاريخية، وتحقيق مواضعها، أو تنبيههم إلى اجتناب المعوقات والأخطاء التي وقع فيها من سبقهم، وتحذيرهم من المصاعب التي تواجههم في الطريق لأداء مناسكهم.
من أهداف هذه الدراسة، تحديد بعض المواضع التاريخية المهمة في الحجاز التي يتعين أن يوليها الباحثون المختصون عناية خاصة. ويلقي هذا الكتاب الضوء على أحد جوانب هذا التاريخ، حيث يبيّن اهتمام الرحالة المغاربة بوصف الظواهر المناخية التي سادت في مكة المكرمة عند زيارتهم لها في القرن الثاني عشر (هجري/ 18 ميلادي)؛ من حرارة ورطوبة وبرودة وأمطار ‏وسيول، وبيان أثرها على الحجاج، وعنايتهم بوصف مظاهر سطح الأرض وتضاريس مكة المكرمة وما يكسوها من نباتات وأعشاب، واهتمامهم بوصف الآثار العمرانية القديمة التي بقيت معالمها قائمة لأزمنة كثيرة.
- رحلة الحج القاسية
أشدّ ما اشتكى منه الرحالة كان حرّ الطقس، حيث يشتكون من الحرارة في مكة المكرمة وأثرها على الحجاج والدواب، مما أدى إلى وفاة عدد من الحجاج، كما أصيب بعضهم بالإعياء. وقضية حرارة الجو في مكة المكرمة من القضايا التي كانت سبباً رئيسياً في معاناة الحجاج أثناء مسيرهم لأداء المناسك. يقول أبو العباس الفارسي وهو يصف موت بعض الحجاج: «حصد الموت بسبب حرارة الشمس أعداداً كبيرة من الحجاج إما بسبب الإصابة ‏المباشرة بضربة شمس قوية تؤدي إلى الحُمّى، أو بسبب تسخين الماء (بفعل الحرارة) لدرجة أنهم لا يستطيعون تناوله، ثم يورد أن هذه الحادثة وقعت معهم بعد (عسفان) وقبل (وادي فاطمة)». ويقول: «ورحلنا قبل الزوال في حرٍّ شديد مات بسببه خلقٌ كثير» (ص56). وفي طريق العودة أيضاً تعرض الركب نفسه للعطش بفعل الحرارة، يقول: «توفي في هذا اليوم خلقٌ كثير عطشاً من الحر».
‏‏كما يعطي الرحالة وصفاً للحرم المكي الشريف وآثار مكة المكرمة الحدودية وأبواب مكة وما داخلها، وحدود مكة المكرمة الفاصلة بين منطقتي الحِلّ والحرم، ومواقع الإحرام المكانية لأهل مكة ومواقيت الإحرام للقادمين من خارج مكة، ثم وصف المسجد الحرام، والمساجد الأخرى، ووصف الكعبة المشرفة من الداخل.
‏اما مواعيد فتح باب الكعبة، فقد لاحظ الرحالة المغاربة أن باب الكعبة لا يفتح إلا في مواعيد مخصوصة ومناسبات معلومة، ولفترة قصيرة، اجتهد العياشي في تحديدها مستعيناً بما ذكره السابقون في مؤلفاتهم، فقال أبو سالم العياشي: «ويفتح البيت عادة سبع مرات في السنة؛ الأولى يوم النحر لتعليق الكسوة عند طلوع الشمس، ولا يدخل ذلك اليوم إلا من زاحم وتعلق بالقرب، والثانية يوم عاشوراء، والثالثة يوم المولد النبوي في ربيع، والرابعة في شعبان، والخامسة والسادسة في رمضان، والسابعة في ذي القعدة... وقد منّ الله عليّ بدخولها خمس مرات في هذه السنة» (ص168).
- الحياة في مكة المكرمة
كما تحدث الرحالة المغاربة عن أئمة الحرم، ووصف الإسحاقي المنابر الأربعة الموزعة في رواق الحرم لأداء الصلاة حسب مذهب الإمام.
كذلك تحدثوا عن أسعار البيوت وأُجرتها، حيث كانت متفاوتة حسب سعتها وقربها من البيت الحرام. ووصف الرحالة الدور التاريخية في مكة المكرمة، وبينها دار عبد الله بن عبد المطلب، (والد النبي محمد صلى الله عليه وسلم) وتعرف بـ«دار المولد»، التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ومكانها في سوق الليل؛ «وهي من المزارات المهمة للحجاج المغاربة، وموضعها مشهور في شعب بني هاشم» (ص212). «ومن الملاحظ أن هذه الدار كانت من الأماكن التي يجتمع عندها الناس للاحتفال كل ليلة اثنين، وأما في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول فيجتمع الفقهاء والأعيان وناظر الحرمين وقضاة مكة الأربعة ويخرجون بالشموع والمشاعل والفوانيس، ويجتمع معهم مشايخ الطوائف يحملون أعلامهم ويزدحم الناس عند محل ولادته (صلى الله عليه وسلم) في موكب من أعظم مواكب ناظر الحرمين بمكة» (ص212).
إلى ذلك؛ يرصد الرحالة عدداً من المقاهي التي حفلت بها الطرق المؤدية إلى مكة المكرمة، وهي تمثل محطات استراحة للحجاج وتوفر لهم أحياناً أماكن للنوم والراحة. يقول الرحالة العياشي: «في المقاهي مجالس حسنة يبالغ أصحابها في تنظيفها وكنسها ورشها بالماء... وقد اتخذوا فيها أسرّة كثيرة منسوجة بشريط المَسَد وبصنعة محكمة». (ص230).


مقالات ذات صلة

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي
ثقافة وفنون متاهة سردية وبطل يعاني من التهميش

متاهة سردية وبطل يعاني من التهميش

يهدي محمد فرج مجموعته القصصية «شيء ما أصابه الخلل» - دار «المرايا» بالقاهرة - «الكازّين على أسنانهم أثناء النوم»، في تهيئة مُبكرة لما يواكب عالم المجموعة

منى أبو النصر (القاهرة)
يوميات الشرق جانب من افتتاح جناح مدينة الرياض في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 (واس)

افتتاح جناح «الرياض» في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

نطلقت، أمس، فعاليات الدورة الـ49 من معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025، الذي تنظمه مؤسسة الكتاب في الأرجنتين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب رواية «صلاة القلق» للكاتب المصري محمد سمير ندا (صورة من صفحة الكاتب على «إنستغرام»)

فوز «صلاة القلق» للمصري محمد سمير ندا بجائزة الرواية العربية

فاز المصري محمد سمير ندا بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الثامنة عشرة اليوم الخميس عن روايته (صلاة القلق) الصادرة عن منشورات ميسكلياني.

كتب الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

مفاجآت عدّة وإجابات غير متوقعة، تحملها الدراسة التي أجرتها مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية على 12 ألف شاب وشابة من العالم العربي

سوسن الأبطح (بيروت)

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين
TT
20

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

مفاجآت عدّة وإجابات غير متوقعة، تحملها الدراسة التي أجرتها مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية على 12 ألف شاب وشابة من العالم العربي، تتراوح أعمارهم بين 16 و30 عاماً. فهؤلاء أبدوا رغبة في أن تتحمل الدولة المزيد من المسؤوليات في رعايتهم، لكنهم في الوقت نفسه غير راغبين في الانخراط في الأحزاب السياسية. وهم ينظرون إلى السياسة على أنها رديف للفساد والانتهازية، ولا يحبّذون أن يكونوا جزءاً منها. لكن الأكثر لفتاً للانتباه، هو أن الشباب العربي لا يرى الديمقراطية عنصراً حاسماً في صلاح الحكم، بقدر ما يبحث عن القائد القوي الذي يمكن أن ينجو بالسفينة. ومما يدعو إلى الاهتمام هو اعتبار الأغلبية الساحقة من الشباب، في البلدان التي أجريت فيها الاستطلاعات، أن الدين يجب أن يلعب دوراً أكبر في تسيير الحياة. ومن المفارقات، أن الأبحاث التي ترصد الجوع وتصف جيلاً بأكمله بالحرمان، تظهر هي نفسها أن الشباب العربي مفعم بالأمل، وأنه مقبل على الحياة، رغم أنه لا يشعر بالرضا عن واقعه، وهذا أمر في غاية الأهمية.

بعد المأزق جاء الحرمان

نقاط أساسية لفهم توجهات الشباب العربي، تطلعاته، رغباته، بواطنه، وما يجول في خاطره؟ وهو ما لا نعرفه بوضوح بسبب غياب الدراسات، أو تشتتها، وربما عدم توفيرها للجمهور العريض. من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة الاستطلاعية التي شارك فيها 11 باحثاً وباحثة من ألمانيا، وشملت 11 دولة عربية، هي: الأردن، والجزائر، ومصر، والعراق، واليمن، ولبنان، وليبيا، والمغرب، وفلسطين، والسودان وتونس، إضافة إلى اللاجئين السوريين في لبنان. تمت المقابلات مع المستطلعين، بين عامي 2021 و2022، أي بعد وباء كورونا. حرَّرها كلٌ من يورغ غرتل، ودافيد كروير وفريدريكا ستوليس. وأصدرت «دار الساقي» الدارسة في كتاب من 500 صفحة بترجمة دكتورة شيماء مرزوق، حمل عنواناً دالاً هو «الجيل المحروم». وكانت دراسة أولى قد أجرتها المؤسسة بين عامي 2016 - 2017 رصدت من خلالها توجهات الشباب بعد ثورات الربيع العربي، صدرت في كتاب بعنوان «مأزق الشباب»، بينما تأتي الدراسة الجديدة بعد خمس سنوات، لترصد التغيرات بعد الموجة الثانية للحراك الشعبي عام 2018 الذي شاهدناه في لبنان، والجزائر والسودان.

محاور أساسية

تنقسم الدراسة إلى أربعة محاور رئيسية، تتفرع منها عناوين عدة. المحور الأول حول «الحرمان» والفقر. أما المحور الثاني، فهو حول «الأزمات المتعددة» التي يعاني منها الشباب مثل الجوع والعنف والهجرة، والبيئة. أما المحور الثالث، فهو عن «التوجهات الشخصية» للشباب من خلال الأسرة والتعليم والقيم الفردية والجمعية والدين. في حين يكشف المحور الرابع عن طبيعة «العلاقات الاجتماعية» ومستوى الالتزام الاجتماعي للشباب ونظرتهم للمؤسسات ومدى ثقتهم بها، وصولاً إلى رصد تطلعاتهم وأحلامهم على المستويين الشخصي والجماعي من خلال الإعلام ووسائل التواصل، كذلك السياسة والمشاركة المدنية والآمال والتوقعات.

فيما يخص التدين تظهر الدراسة الميدانية أن غالبية الذين سئلوا يشعرون بأنهم أكثر تديناً اليوم عما كانوا عليه قبل خمس سنوات. وتربط الدراسة بين هذه النتائج، وازدياد الإحساس بعدم اليقين، الذي يعيشه الشباب في مجتمعات متقلبة تعاني أزمات اقتصادية وحروباً وتهديدات مباشرة للحياة. وقد قال الليبيون والمغاربة والأردنيون، إنهم الأكثر تديناً من ذي قبل بعلامة وصلت إلى 8 من 10، في حين انخفضت العلامة التي أعطاها الشباب لتدينهم في لبنان وتونس، لكنها بقيت 6 درجات من 10.

قال أكثر من ثلثي الشباب المستطلعين إنهم غير مهتمين على الإطلاق بالسياسة. وهم حين يتحدثون عن هذا الموضوع فإنما يربطونه في «المقام الأول بالسياسة الحزبية الرسمية» في بلادهم، ولا يحيلون في حديثهم إلى الانخراط في خدمة المجتمع. وهذه النظرة تنبع من الإحباط العام الذي يعانيه الشباب بعد الأزمات المتلاحقة التي عاشتها بلادهم.

الثقة بالقبيلة والجيش

يرغب أكثر من ثلثي المشاركين في أن تلعب الدولة دوراً أكبر في تسيير الحياة اليومية. والنسبة الأكبر جاءت من لبنان 88 في المائة والأدنى من الجزائر 50 في المائة؛ ما يدل على إحساس بغياب الدولة في لبنان، وتدخلها الشديد في الجزائر، بينما يرغب فقط 7 في المائة من المستطلعين، في أن تؤدي الدولة دوراً أقل. والثقة متدنية بالمؤسسات السياسية والقانونية، وانخفضت أكثر عما كانت عليه قبل خمس سنوات، بينما يحظى الجيش بالثقة الأكبر، خصوصاً في الدول ذات الانتماءات القبلية. ففي ليبيا واليمن بعد اشتعال الحروب، يقول الشباب إنهم يثقون بقبائلهم أكثر من ثقتهم بدولتهم. وحين يُسألَون عن النظام السياسي الذي يرغبون فيه، نجد أن نسبة المطالبين بنظام ديمقراطي، قد انخفضت عما كانت عليه قبل خمس سنوات، وعبرت الغالبية عن حاجتها إلى «رجل قوي يحكم البلاد».

ويرغب ثلثا الشباب المسلمين الذين شملهم الاستطلاع، في أن يؤدي الإسلام دوراً أكبر في الحياة العامة. وقد زادت النسبة عما كانت عليه قبل خمس سنوات بمقدار عشر نقاط، وهو تحول ملموس ولافت. وصلت نسبة الذين يريدون دوراً أكبر للدين في فلسطين إلى 90 في المائة، وفي الأردن إلى 84 في المائة، وتحظى - بحسب الدراسة - أفكار الجماعات الإسلامية بشعبية بين الشباب. وهذا يظهر أكثر بين الذين لم يغادروا بلادهم منه عند الذين قضوا وقتاً خارج أوطانهم. كما أنها رغبة موجودة بنسبة أكبر عند الطبقة المتوسطة، التي عبر 70 في المائة منها عن رغبتهم في رؤية الدين يلعب دوراً أبرز في حياتهم، بينما انخفضت النسبة إلى 62 في المائة عند الطبقة الفقيرة أو الغنية. مع ذلك، تبقى نسبة عالية جداً قياساً إلى مجتمعات أخرى.

مفعمون بالأمل لا بالرضا

ومقارنة بالدراسة التي أجريت منذ خمس سنوات، ورغم الظروف الصعبة التي استجدت بقي الشباب محتفظاً بالأمل، وهو أمر مثير للاهتمام. باستثناء النازحين السوريين في لبنان واللبنانيين الذين انخفض بينهم قليلاً الشعور بالأمل، فإن عدد المتشائمين لم يرتفع في العالم العربي، بالقدر الذي يمكن تصوره. على العكس، نصف الجزائريين متفائلون وأكثر من الثلثين في تسع دول أخرى. رغم حالة عدم اليقين الشديدة التي تعيشها بلادهم، يبقى الشباب العربي متفائلاً في رؤيته للمستقبل. ففي جميع الدول التي أجري فيها الاستطلاع، 58 في المائة من الشباب يميلون إلى التفاؤل، و15 في المائة فقط هم من عبروا عن تشاؤمهم، وثلثا الذين سئلوا، قالوا إنهم «واثقون تماماً» أو «إلى حدٍ ما» من تحقيق رغباتهم وطموحاتهم المهنية. لكن هذا لا يعني أن الشباب يشعرون بالرضا عن أوضاعهم والحياة التي يعيشونها، فالتفاوت الطبقي والبطالة والنزاعات المسلحة كلها مصدر قلق، مع ذلك، فإن الشباب في مصر مثلاً رغم معدلات الفقر العالية، أكثر رضا من دول أكثر غنى مثل العراق أو الجزائر، واللاجئون السوريون في لبنان رغم أوضاعهم الحرجة أكثر رضا عن معاشهم من اللبنانيين أنفسهم. ويأتي السودان، حتى في دراسة أجريت قبل الحرب، في مؤخرة اللائحة.

الإعلام ينقل الأخبار السيئة

لا مفاجأة في أن 90 في المائة من المستطلعين يمتلكون هاتفاً ذكياً، وإن انخفضت النسبة قليلاً في اليمن والسودان. لكن الثقة بوسائل الإعلام التقليدية، لا تتجاوز في المتوسط 14 في المائة حين يتعلق الأمر بالمواضيع السياسية، أما أعلى نسبة ثقة فهي في المغرب ولا تتجاوز 26 في المائة. وعكس المتوقع، الثقة بوسائل التواصل ليست أفضل حالاً في ما يتعلق بمواضيع السياسة؛ إذ تبقى عند 16 في المائة. وعلى أي حال، ثلاثة أرباع الشباب يحصلون على معلوماتهم من وسائل التواصل، ويرون وسائل الإعلام بشكل عام، أدواتٍ لنقل الأخبار السيئة.

ورغم الكلام الكثير على الدور السياسي لوسائل التواصل وأهميتها التعليمية، وتعزيزها فرص الحصول على العمل، فإن هذه الدراسة تبين أن الشباب العرب يستخدمون هذه الأدوات بشكل أساسي للتواصل مع عائلاتهم وأصدقائهم، وبدرجة ثانية للاسترخاء وملء وقت الفراغ. وعلى الأرجح أن وسائل التواصل تهدئ الشباب ولا تشحن ثورتهم وغضبهم.

الإيمان أولاً

وحين طُلب من المستطلعين وضع علامة على عشرة فيما يخص إنجازات الحياة التي يريدون تحقيقها، جاء الإيمان بالله على رأس اللائحة، تلاها العثور على شريك ذي ثقة، ثم الشعور بالأمان، تلتها الصحة والمثابرة. ثم نجد الاستقلال المادي والالتزام بقانون الشرف والعار، في الخانة نفسها، وجاء في آخر اللائحة إنجازات من صنف المشاركة في السياسة أو إرضاء الآخرين، أو امتلاك السلطة، أو الانقياد للمشاعر الذاتية.

أما الهجرة بالنسبة للشباب العربي، فهي ليست فقط لأسباب اقتصادية ومالية، بل تحولت في بعض البلدان نوعاً من العادة، وتسجل الدراسة تغيراً في وجهتها؛ إذ لم تعد الدول الغربية هي الهدف الأول، وحلّ مكانها دول الخليج العربي بنسبة 14 في المائة، مقابل 9 في المائة لأوروبا، 6 في المائة إلى آسيا، و3 في المائة إلى أميركا الشمالية ودول جنوب الصحراء.

وتنمو الرغبة في الهجرة في كل من تونس، ولبنان وسوريا لتصل إلى 20 في المائة ومستقرة عند 5 في المائة في مصر والمغرب.

شارك في الدراسة الاستطلاعية 11 باحثاً وباحثة من ألمانيا وشملت11 دولة عربية

لكن هذه الرغبة لا تشهد نموا يذكر في مصر والمغرب؛ إذ لا يتجاوز معدل 5 في المائة، مقارنة بتونس ولبنان وسوريا، التي يتضاعف فيها معدل الرغبة المؤكدة في الهجرة ويقترب من نسبة 20 في المائة.

ويُعدّ الأردن الاستثناء الوحيد من بين دول المنطقة التي شملتها الدراسة، الذي يُسجَّل به تراجعٌ كبيرٌ في معدل الرغبة المؤكدة في الهجرة لدى الشباب، وهو ما يجد تفسيره في إحساس الشباب بأن لديه فرصاً في بلاده، وبأنه لا يشعر بدرجة إقصاء أو تهميش كبيرة.

كما يرصد الباحثون ظهور نوع من ثقافة «الاعتياد على الهجرة» لدى الشباب في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بيد أن الدراسة تسجل أيضاً تحولاً مهماً في البلدان أو المناطق المقصودة لدى الشباب، اعتماداً على تجاربهم الشخصية في الهجرة. إذ تأتي دول الخليج العربي في المقدمة بنسبة 14 في المائة، مقابل 9 في المائة بأوروبا، وبنسبة 6 في المائة في آسيا، ونسبة 3 في المائة في أمريكا الشمالية ودول جنوب الصحراء.

وشارك في الدراسة 11 باحثاً وباحثة من ألمانيا من تخصصات أكاديمية وحقول متعددة من مناهج العلوم الاجتماعية، كما تمت الاستفادة مما يزيد على مائتي عنوان كتاب ودراسة لباحثين ومراكز دراسات ومؤسسات دولية، حول أوضاع الشباب في العالم العربي.

ويمزج مؤلفو الدراسة في أبحاثهم بين أدوات البحث التجريبي والواقعي لأوضاع الشباب الشخصية والمجتمعية والتحليل الموضوعي للظواهر والسياقات التي يعيشون فيها محلياً وإقليمياً. وهو ما يضفي على هذا العمل البحثي ثراءً في المعلومات والمعطيات عن تضاريس حياة الشباب في الدول العربية، مدعمةً بعشرات الرسوم البيانية، ونظرة تحليلية معمقة لاتجاهات التطور في الأفكار والقيم والعلاقات في المجتمعات العربية.

وتتبع الدراسة عملاً بحثياً سابقاً كان بحجم أقل تم إنجازه في سنتي 2016 و2017؛ وهو ما يشكل أرضية مناسبة برأي المشرفين على الدراسة لإجراء مقارنات واستنتاج اتجاهات تطور الأوضاع في المجتمعات العربية.