تواجه الأمم المتحدة في 2020، مع احتفالها بمرور 75 عاماً على إنشائها، تحديات تشبه مشقّات تسلق الجبال. قدّم عام 2019 مؤشرات تنذر بصعوبات متعددة الأوجه: من ضائقة مالية خانقة قادت إلى التقشف حتى في استخدام السلالم الكهربائية وورق الطباعة في المقر الرئيسي للمنظمة الدولية في نيويورك، إلى مساعٍ تواصلت بلا هوادة من أجل «ترشيق» عمليات حفظ السلام وخفض تكاليفها الباهظة، فضلاً عن إخفاقات في صون الأمن والسلم الدوليين في مناطق كثيرة من العالم، ومنها سوريا التي لا تزال تمثل تحدياً صارخاً لدور مجلس الأمن، المنتدى العالمي الأقوى لاتخاذ القرارات ووقف النزاعات.
لكن لائحة الأسباب تطول لتفيد بأن الأمم المتحدة تبقى منتدى عالمياً وحيداً لا غنى عنه في المستقبل المنظور. لا تزال تعكس صورة الأمم التي أنشأتها مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعلى أنقاض عصبة الأمم التي سبقتها.
ترمب: أميركا أولاً... و«العمل سوياً»
في غداء أقامه الرئيس الأميركي دونالد ترمب أخيراً في البيت الأبيض لأعضاء مجلس الأمن، راسماً أمامهم الخطوط العامة لأولوياته على الساحة الدولية، ولا سيما خلال تولي الولايات المتحدة الرئاسة الدورية للمجلس في ديسمبر (كانون الأول) 2019. لم يستوجب الأمر الكثير من الوقت كي يستخلص المدعوون أن «ترمب أمام العدسات ليس كالرئيس الأميركي خلف الأضواء»، وفقاً لانطباعات اثنين من المندوبين الدائمين الذين شاركوا في اللقاء الذي استمر أكثر من ساعة. طلب الرئيس الأميركي من ممثلي الدول «العمل سوياً» من أجل تحقيق «أفكار عظيمة» تمكن المجتمع الدولي من التعامل مع «تهديدات أمنية مشتركة، بما فيها الإرهاب، وتهريب المخدرات، والهجرة غير القانونية، والهجمات الإلكترونية، وانتشار الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية». وركز على «مواجهة تهديدات» كثيرة، وضع على رأسها «سلوك النظام الإيراني، الذي قتل المئات والمئات من الناس في وقت قصير للغاية»، مطالباً وسائل الإعلام بتغطية «الوضع الفظيع» هناك. وطالب بأن تنضم دول العالم إلى جهود الولايات المتحدة في «تشجيع الحرية الدينية عبر العالم».
لا تلتقي أولويات من ينادي بشعار «أميركا أولاً» مع ما يراه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من تحديات. تبتعد هموم الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ عن تطلعات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. لم يعد يقرأ الرئيس الأميركي ونظراؤه الأوروبيون من كتاب واحد. وعلى رغم الإدراك العميق لحقيقة أن الأمم المتحدة، بمكوناتها الرئيسية من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة ومن المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى مجلس حقوق الإنسان وغيرها من الوكالات الدولية، لا تزال تشكل المنتدى العالمي الأوسع والأرحب للعلاقات الدولية والدبلوماسية المتعددة الأطراف، يخشى مسؤولون في المنظمة الدولية ودبلوماسيون من الدول الـ193 الأعضاء في جمعيتها العامة، من تفاقم التحديات والصعوبات الراهنة لتصل إلى حدود الأزمة خلال النصف الثاني من سنة 2020، ولا سيما إذا تواصلت عمليات التجاذب والاستقطاب بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، وكذلك بين الدول الكبرى بمساهماتها في الميزانية العامة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى الميزانيات المنفصلة لدوائرها، وأبرزها على الإطلاق دائرة عمليات حفظ السلام، ووكالاتها المختلفة. قد لا تسمح الضائقة المالية للأمم المتحدة بأن تحتفل كما ينبغي بيوبيلها الألماسي.
أولويات متضاربة
لا يقتصر الخلاف على الأولويات بين الدول الأكثر تأثيراً في المنظمة الدولية، بل يمتد أيضاً إلى كيفية النظر إلى مسألة التغير المناخي التي يضعها الأمين العام أنطونيو غوتيريش على رأس اهتماماته، بينما لا تقيم لها الإدارة الأميركية الراهنة أي اعتبار رئيسي. هناك آراء روسية وصينية وهندية وبرازيلية مختلفة في هذه القضية. بدأت هذه التحديات الجيوسياسية تخرج إلى العلن منذ سنوات كثيرة حين اعتبر البعض أن الولايات المتحدة تعيش «مرحلة انكفاء» عن الساحة الدولية، مما سمح لروسيا ليس فقط باستخدام حق النقض (الفيتو) أكثر من 12 مرة منذ عام 2011 لتعطيل مشاريع قرارات قدمتها الدول الغربية متضامنة في شأن الحرب السورية، بل أيضاً بالتقدم عسكرياً في سوريا وكذلك في أوكرانيا.
بينما عرضت الصين بدائل من قرارات اتخذتها الولايات المتحدة لخفض المساهمات الأميركية في تمويل الميزانية العامة للمنظمة الدولية، بالإضافة إلى المساهمة أكثر في عمليات حفظ السلام وتمويلها. ظهرت تباينات متوترة بين الولايات المتحدة من جهة وفرنسا وبريطانيا من الجهة الأخرى حيال المواقف التي ينبغي اتخاذها من النفوذ الصيني المتزايد في أفريقيا، ومن عدم قيام بيجينغ بخطوات ضاغطة للجم الطموحات النووية لدى كوريا الشمالية ووضع حد لاضطهاد أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار، فضلاً عن الغموض في المسائل المتعلقة بالبرنامج النووي لدى إيران.
إيران تثير خلافاً عميقاً بين إدارة الرئيس دونالد ترمب من جهة وحلفاء أميركا التاريخيين في العواصم الأوروبية التي لا تزال تتمسك بخطة العمل المشتركة الشاملة، أو ما يعرف بالاتفاق النووي الموقع عام 2015 بين إيران و«مجموعة 5 + 1» للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، على رغم مضي أكثر من سنة ونصف السنة على انسحاب الولايات المتحدة منه. ظهرت في الآونة الأخيرة مؤشرات إلى إمكان موافقة الدول الأوروبية على اقتراح أميركي لتفعيل آلية إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران «سناب باك»، وبالتالي نقض القرار 2231 الذي صادق على الاتفاق النووي.
بين الفيتو الروسي والتمويل الأميركي
منع الفيتو الروسي مجلس الأمن من اتخاذ قرارات حاسمة في الحرب السورية، ودفعت الخلافات المستحكمة بين القوى الدولية الرئيسية إلى شلّ قدرة مجلس الأمن على الاضطلاع بالدور المرسوم له في ميثاق الأمم المتحدة، وخصوصاً لجهة صون الأمن والسلم الدوليين. كل هذه التعقيدات، بالإضافة إلى تصاعد التوجهات القومية ومبادئ القرارات الأحادية، دفعت الولايات المتحدة إلى تقليص اعتمادها على المنتدى المتعدد الأطراف في نيويورك، بل سعت إلى خفض مساهماتها المالية فيه. وأدى ذلك إلى «شح مالي لا سابق له» في الموارد المالية للمنظمة الدولية، لا تزال بعض السلالم الكهربائية متوقفة عن العمل في المقر النيويوركي من أجل توفير بضعة آلاف من الدولارات. لجأت الأمانة العامة عام 2019 إلى احتياطاتها المالية من أجل تغطية عجز تبلغ قيمته أكثر من نصف مليار دولار. وقال غوتيريش إن الجمعية العامة للأمم المتحدة وافقت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي على ميزانية للمنظمة الدولية لمدة عامين بقيمة 5.4 مليارات دولار. وهي ميزانية منفصلة عن ميزانية حفظ السلام.
ليست الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي لم تدفع مستحقاتها للمنظمة لعام 2019، ولكنها المدين الأكبر بين 55 دولة لم تدفع ما يتوجب عليها بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. يقع على عاتق الأرجنتين والبرازيل وإسرائيل وكوريا الجنوبية وفنزويلا ما يصل إلى 97 في المائة من إجمالي الديون المستحقة للأمم المتحدة عام 2019. يستحق على البرازيل وحدها مبلغ 143 مليون دولار. تصل الاشتراكات غير المدفوعة من الدول الأعضاء إلى 1.4 مليار دولار. وإلى جانب الديون المستحقة على الولايات المتحدة والبرازيل، تدين الأرجنتين بمبلغ 47 مليون دولار. ولا يمكن لإيران وفنزويلا، اللتين تبلغ ديونهما 27 مليون دولار و17 مليون دولار على التوالي، أن تدفعا بسبب العقوبات الاقتصادية الأميركية. تعد إسرائيل (11 مليون دولار) وكوريا الجنوبية (10 ملايين دولار) من الجهات المانحة الكبرى الأخرى التي لا تزال مستحقة على 2019 مستحقاتها.
تغير المناخ
وفقاً لرؤية غوتيريش، يواجه العالم «لحظة حرجة على جبهات عدة»، واضعاً في صدارة اهتمامه حال الطوارئ المناخية وتفاقم انعدام المساواة وتزايد الكراهية وعدم التسامح، فضلاً عن عدد من التحديات الخاصة بالأمن والسلم. في الوقت الذي يخشى من تصاعد التوتر في الخليج، يطالب بالحوار لإيجاد حلول سياسية من ليبيا إلى اليمن ومن سوريا إلى إسرائيل - فلسطين ومن أفغانستان إلى جنوب السودان. يأمل في أن يواصل زعماء العالم التزامهم تنفيذ أجندة 2030 للتنمية المستدامة، بالإضافة إلى تحديد سنة 2050 للوصول إلى تحييد الانبعاث الكربوني، بغية تحديد ارتفاع درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية، بدلاً من 3.4 أو 3.9 درجة بحلول نهاية هذا القرن.