الأمم المتحدة 2020: يوبيل ماسي متخم بخلافات وتحديات

أولويات متضاربة تشلّ قدرات مجلس الأمن من كوريا الشمالية وإيران إلى التنمية وتغير المناخ

مبنى الأمم المتحدة في نيويورك
مبنى الأمم المتحدة في نيويورك
TT

الأمم المتحدة 2020: يوبيل ماسي متخم بخلافات وتحديات

مبنى الأمم المتحدة في نيويورك
مبنى الأمم المتحدة في نيويورك

تواجه الأمم المتحدة في 2020، مع احتفالها بمرور 75 عاماً على إنشائها، تحديات تشبه مشقّات تسلق الجبال. قدّم عام 2019 مؤشرات تنذر بصعوبات متعددة الأوجه: من ضائقة مالية خانقة قادت إلى التقشف حتى في استخدام السلالم الكهربائية وورق الطباعة في المقر الرئيسي للمنظمة الدولية في نيويورك، إلى مساعٍ تواصلت بلا هوادة من أجل «ترشيق» عمليات حفظ السلام وخفض تكاليفها الباهظة، فضلاً عن إخفاقات في صون الأمن والسلم الدوليين في مناطق كثيرة من العالم، ومنها سوريا التي لا تزال تمثل تحدياً صارخاً لدور مجلس الأمن، المنتدى العالمي الأقوى لاتخاذ القرارات ووقف النزاعات.
لكن لائحة الأسباب تطول لتفيد بأن الأمم المتحدة تبقى منتدى عالمياً وحيداً لا غنى عنه في المستقبل المنظور. لا تزال تعكس صورة الأمم التي أنشأتها مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعلى أنقاض عصبة الأمم التي سبقتها.

ترمب: أميركا أولاً... و«العمل سوياً»
في غداء أقامه الرئيس الأميركي دونالد ترمب أخيراً في البيت الأبيض لأعضاء مجلس الأمن، راسماً أمامهم الخطوط العامة لأولوياته على الساحة الدولية، ولا سيما خلال تولي الولايات المتحدة الرئاسة الدورية للمجلس في ديسمبر (كانون الأول) 2019. لم يستوجب الأمر الكثير من الوقت كي يستخلص المدعوون أن «ترمب أمام العدسات ليس كالرئيس الأميركي خلف الأضواء»، وفقاً لانطباعات اثنين من المندوبين الدائمين الذين شاركوا في اللقاء الذي استمر أكثر من ساعة. طلب الرئيس الأميركي من ممثلي الدول «العمل سوياً» من أجل تحقيق «أفكار عظيمة» تمكن المجتمع الدولي من التعامل مع «تهديدات أمنية مشتركة، بما فيها الإرهاب، وتهريب المخدرات، والهجرة غير القانونية، والهجمات الإلكترونية، وانتشار الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية». وركز على «مواجهة تهديدات» كثيرة، وضع على رأسها «سلوك النظام الإيراني، الذي قتل المئات والمئات من الناس في وقت قصير للغاية»، مطالباً وسائل الإعلام بتغطية «الوضع الفظيع» هناك. وطالب بأن تنضم دول العالم إلى جهود الولايات المتحدة في «تشجيع الحرية الدينية عبر العالم».
لا تلتقي أولويات من ينادي بشعار «أميركا أولاً» مع ما يراه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من تحديات. تبتعد هموم الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ عن تطلعات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. لم يعد يقرأ الرئيس الأميركي ونظراؤه الأوروبيون من كتاب واحد. وعلى رغم الإدراك العميق لحقيقة أن الأمم المتحدة، بمكوناتها الرئيسية من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة ومن المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى مجلس حقوق الإنسان وغيرها من الوكالات الدولية، لا تزال تشكل المنتدى العالمي الأوسع والأرحب للعلاقات الدولية والدبلوماسية المتعددة الأطراف، يخشى مسؤولون في المنظمة الدولية ودبلوماسيون من الدول الـ193 الأعضاء في جمعيتها العامة، من تفاقم التحديات والصعوبات الراهنة لتصل إلى حدود الأزمة خلال النصف الثاني من سنة 2020، ولا سيما إذا تواصلت عمليات التجاذب والاستقطاب بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، وكذلك بين الدول الكبرى بمساهماتها في الميزانية العامة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى الميزانيات المنفصلة لدوائرها، وأبرزها على الإطلاق دائرة عمليات حفظ السلام، ووكالاتها المختلفة. قد لا تسمح الضائقة المالية للأمم المتحدة بأن تحتفل كما ينبغي بيوبيلها الألماسي.

أولويات متضاربة
لا يقتصر الخلاف على الأولويات بين الدول الأكثر تأثيراً في المنظمة الدولية، بل يمتد أيضاً إلى كيفية النظر إلى مسألة التغير المناخي التي يضعها الأمين العام أنطونيو غوتيريش على رأس اهتماماته، بينما لا تقيم لها الإدارة الأميركية الراهنة أي اعتبار رئيسي. هناك آراء روسية وصينية وهندية وبرازيلية مختلفة في هذه القضية. بدأت هذه التحديات الجيوسياسية تخرج إلى العلن منذ سنوات كثيرة حين اعتبر البعض أن الولايات المتحدة تعيش «مرحلة انكفاء» عن الساحة الدولية، مما سمح لروسيا ليس فقط باستخدام حق النقض (الفيتو) أكثر من 12 مرة منذ عام 2011 لتعطيل مشاريع قرارات قدمتها الدول الغربية متضامنة في شأن الحرب السورية، بل أيضاً بالتقدم عسكرياً في سوريا وكذلك في أوكرانيا.
بينما عرضت الصين بدائل من قرارات اتخذتها الولايات المتحدة لخفض المساهمات الأميركية في تمويل الميزانية العامة للمنظمة الدولية، بالإضافة إلى المساهمة أكثر في عمليات حفظ السلام وتمويلها. ظهرت تباينات متوترة بين الولايات المتحدة من جهة وفرنسا وبريطانيا من الجهة الأخرى حيال المواقف التي ينبغي اتخاذها من النفوذ الصيني المتزايد في أفريقيا، ومن عدم قيام بيجينغ بخطوات ضاغطة للجم الطموحات النووية لدى كوريا الشمالية ووضع حد لاضطهاد أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار، فضلاً عن الغموض في المسائل المتعلقة بالبرنامج النووي لدى إيران.
إيران تثير خلافاً عميقاً بين إدارة الرئيس دونالد ترمب من جهة وحلفاء أميركا التاريخيين في العواصم الأوروبية التي لا تزال تتمسك بخطة العمل المشتركة الشاملة، أو ما يعرف بالاتفاق النووي الموقع عام 2015 بين إيران و«مجموعة 5 + 1» للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، على رغم مضي أكثر من سنة ونصف السنة على انسحاب الولايات المتحدة منه. ظهرت في الآونة الأخيرة مؤشرات إلى إمكان موافقة الدول الأوروبية على اقتراح أميركي لتفعيل آلية إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران «سناب باك»، وبالتالي نقض القرار 2231 الذي صادق على الاتفاق النووي.

بين الفيتو الروسي والتمويل الأميركي
منع الفيتو الروسي مجلس الأمن من اتخاذ قرارات حاسمة في الحرب السورية، ودفعت الخلافات المستحكمة بين القوى الدولية الرئيسية إلى شلّ قدرة مجلس الأمن على الاضطلاع بالدور المرسوم له في ميثاق الأمم المتحدة، وخصوصاً لجهة صون الأمن والسلم الدوليين. كل هذه التعقيدات، بالإضافة إلى تصاعد التوجهات القومية ومبادئ القرارات الأحادية، دفعت الولايات المتحدة إلى تقليص اعتمادها على المنتدى المتعدد الأطراف في نيويورك، بل سعت إلى خفض مساهماتها المالية فيه. وأدى ذلك إلى «شح مالي لا سابق له» في الموارد المالية للمنظمة الدولية، لا تزال بعض السلالم الكهربائية متوقفة عن العمل في المقر النيويوركي من أجل توفير بضعة آلاف من الدولارات. لجأت الأمانة العامة عام 2019 إلى احتياطاتها المالية من أجل تغطية عجز تبلغ قيمته أكثر من نصف مليار دولار. وقال غوتيريش إن الجمعية العامة للأمم المتحدة وافقت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي على ميزانية للمنظمة الدولية لمدة عامين بقيمة 5.4 مليارات دولار. وهي ميزانية منفصلة عن ميزانية حفظ السلام.
ليست الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي لم تدفع مستحقاتها للمنظمة لعام 2019، ولكنها المدين الأكبر بين 55 دولة لم تدفع ما يتوجب عليها بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. يقع على عاتق الأرجنتين والبرازيل وإسرائيل وكوريا الجنوبية وفنزويلا ما يصل إلى 97 في المائة من إجمالي الديون المستحقة للأمم المتحدة عام 2019. يستحق على البرازيل وحدها مبلغ 143 مليون دولار. تصل الاشتراكات غير المدفوعة من الدول الأعضاء إلى 1.4 مليار دولار. وإلى جانب الديون المستحقة على الولايات المتحدة والبرازيل، تدين الأرجنتين بمبلغ 47 مليون دولار. ولا يمكن لإيران وفنزويلا، اللتين تبلغ ديونهما 27 مليون دولار و17 مليون دولار على التوالي، أن تدفعا بسبب العقوبات الاقتصادية الأميركية. تعد إسرائيل (11 مليون دولار) وكوريا الجنوبية (10 ملايين دولار) من الجهات المانحة الكبرى الأخرى التي لا تزال مستحقة على 2019 مستحقاتها.

تغير المناخ
وفقاً لرؤية غوتيريش، يواجه العالم «لحظة حرجة على جبهات عدة»، واضعاً في صدارة اهتمامه حال الطوارئ المناخية وتفاقم انعدام المساواة وتزايد الكراهية وعدم التسامح، فضلاً عن عدد من التحديات الخاصة بالأمن والسلم. في الوقت الذي يخشى من تصاعد التوتر في الخليج، يطالب بالحوار لإيجاد حلول سياسية من ليبيا إلى اليمن ومن سوريا إلى إسرائيل - فلسطين ومن أفغانستان إلى جنوب السودان. يأمل في أن يواصل زعماء العالم التزامهم تنفيذ أجندة 2030 للتنمية المستدامة، بالإضافة إلى تحديد سنة 2050 للوصول إلى تحييد الانبعاث الكربوني، بغية تحديد ارتفاع درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية، بدلاً من 3.4 أو 3.9 درجة بحلول نهاية هذا القرن.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.