فرنسا: حراك اجتماعي في الداخل وصعوبات متراكمة في الخارج

محتجون في باريس (أ.ف.ب)
محتجون في باريس (أ.ف.ب)
TT

فرنسا: حراك اجتماعي في الداخل وصعوبات متراكمة في الخارج

محتجون في باريس (أ.ف.ب)
محتجون في باريس (أ.ف.ب)

مع انتهاء كل عام، يجد الرئيس الفرنسي نفسه في مواجهة أزمة اجتماعية مستعصية. ففي العام الماضي، كان حراك «السترات الصفراء» في أوجه.
وكانت جادّات باريس والعديد من المدن الكبرى مسرحاً لعمليات كر وفر بين الأمن المتظاهرين، وبينهم مئات المشاغبين من مجموعات «بلاك بلوكس» اليسارية الفوضوية، إضافةً إلى مجموعات أخرى من اليمين المتطرف. ولم تُمحَ من ذاكرة الفرنسيين الصور التي دارت عبر العالم وهي تُظهر الحرائق في «أجمل جادة في العالم» وفق التسمية الفرنسية لـ«الشانزليزيه».
نهاية هذا العام ليست أفضل حالاً وإن كانت أقل عنفاً. فالمظاهرات والإضرابات التي عمّت فرنسا منذ 5 ديسمبر (كانون الأول) الجاري وضعت وجهاً لوجه الحكومة والنقابات وتحولت إلى عملية لي ذراع. الشرارة انطلقت من رفض شبه شامل لمشروع الحكومة الساعية لإحداث تغييرات جذرية في نظام التقاعد المعمول به حالياً في فرنسا.
والأصح أنه يتعين الحديث عن «أنظمة» تقاعد لأن هناك 42 نظاماً مختلفاً ومعقداً يتم العمل بها. الهدف المعلن للحكومة هو توحيد هذه الأنظمة والوصول إلى نظام تقاعدي موحد وشامل وأكثر عدلاً. والحال أن العرض الذي قدمه رئيس الحكومة أغضب النقابات كافة وشرائح واسعة من المواطنين، إذ رأى البعض فيه افتئاتاً على مرتباتهم التقاعدية التي توفرها الأنظمة القديمة، ورفعاً لسن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، فضلاً عن أن المقترح الحكومي يشوبه الكثير من الغموض.
والخلاصة أن مئات الآلاف من المواطنين نزلوا إلى الشوارع منذ أوائل الشهر وترافق ذلك مع إضرابات تطال قطاعات حيوية للاقتصاد ولحياة السكان، وقد ضربت القطاعين العام والخاص، فغابت القطارات ووسائل النقل العامة وأُصيب قطاع التعليم، معلمين وأساتذة وطلاباً وتلامذة، وتعطل استقبال المرضى في المستشفيات وفي أقسام الطوارئ، وتباطأ عمل القضاء مع إضراب القضاة والمحامين، والتحق بهم الأطباء... وتطول اللائحة. والأهم من ذلك أن الاحتجاجات جاءت قبيل نهاية العام وحرمت الآلاف من الاحتفالات العائلية وازدادت النقمة على الحكومة.
هكذا يبدأ عام 2020 وهو يحمل هموماً كبرى للرئيس إيمانويل ماكرون. فالرجل الذي جاء إلى السلطة ساعياً لإصلاح البلاد ونفض الغبار عن أنظمتها يجد نفسه في مأزق داخلي حقيقي. ولا شك أنه يستذكر ما عانى منه رئيس الحكومة الأسبق الآن جوبيه الذي سعى في عام 1995، أيام ولاية الرئيس جاك شيراك الأولى، إلى إصلاح نظام التقاعد. لكن المقاومة التي واجهته أجبرته على التراجع فاقترح انتخابات مبكرة خسرها اليمين وكانت نتيجتها عودة الاشتراكيين إلى السلطة لخمس سنوات، فدُفن المشروع الإصلاحي. ومشكلة ماكرون أنه إذا تراجع فسيخسر صورته الإصلاحية وينفض عنه من رأى فيه رئيساً ليبرالياً قوي العزيمة ولا يخاف من المواجهة.
أما إذا بقي متشدداً، فإنه يدفع البلاد لمزيد من التعقيدات وسيجعل النقابات، بما فيها تلك التي كانت مستعدة للحوار مع السلطة حول خطتها، في صف الرافضين لها قطعياً.
ولا يتعين تناسي أن فرنسا مقبلة على انتخابات بلدية مفصلية. فبعد مرحلة من السبات منذ الانتخابات الرئاسية ربيع عام 2017 للحزبين التقليديين اللذين تناوبا على حكم فرنسا منذ قيام الجمهورية الخامسة نهاية الخمسينات، وهما الحزب اليميني الكلاسيكي المسمى حالياً «الجمهوريون» والحزب «الاشتراكي»، عادت الحياة تدب في شرايينهما. ولا شك في أن ماكرون وحزبه «الجمهورية إلى الأمام» يحتاجان لتحقيق نتائج إيجابية، الأمر الذي يعد ضرورياً لمقاربة الرئيس الحالي للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2022 من موقع قوي.
حلم ماكرون الذي تراجعت شعبيته (أقل من ثلث الفرنسيين يؤيد سياسته اليوم) أن يجد نفسه مجدداً وجهاً لوجه مع مارين لوبن، مرشحة اليمين المتشدد التي هزمها المرة الماضية في الدورة الثانية بفارق 29 نقطة. والحال أن استطلاعات الرأي تبين أن الفارق الهائل السابق يمكن أن يتقلص إلى الربع. وفي أي حال، فإن الفريق الرئاسي يرى أن لوبن «أفضل منافس» للرئيس الحالي لأن الفرنسيين «ليسوا مستعدين بعد لتسليم مفاتيح قصر الإليزيه لرئيسة الحزب اليميني «المتطرف». لكن السياسة تحمل مفاجآت ولا يزال أكثر من عامين يفصلان عن الاستحقاق المقبل.
منذ انتخابه، تعْلق بماكرون صفة «رئيس الأغنياء». وقد حاول خلال العام المنصرم أن يتقرب أكثر إلى الناس، مروّجاً لقراراته الخاصة بخفض الضرائب ولنتائجه الاقتصادية لجهة تراجع نسبة البطالة وتحسن القدرة الشرائية للشرائح المتواضعة. لكنّ ذلك كله لم ينفع حتى اليوم، والشعور العام لا يدفع في هذا الاتجاه.
بيد أن التحديات المقبلة ليست داخلية فقط. ففي السياسة الخارجية ورغم مساعيه الحثيثة، لم ينجح ماكرون في تحسين علاقاته مع نظيره الأميركي دونالد ترمب، ولا حققت جهوده للتقرب من نظيره الروسي فلاديمير بوتين نتائج ملموسة. أما علاقاته مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فقد أصبحت «جليدية» في الأشهر الأخيرة. ولعل النجاح المشترك لهما مقتصر على «الوعود» التي حصلا عليها من بوتين فيما يخص الملف الأوكراني. وليس لفرنسا حضور في الملف الفلسطيني أو في سوريا، فيما هي على خصام مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. أما أوراقها اللبنانية فقد فقدت الكثير من فاعليتها، والدليل على ذلك الاجتماع الباهت الذي استضافته باريس لمساعدة لبنان في 13 ديسمبر. وفي ليبيا، ما زالت باريس تلعب لعبة الغموض بين دعم حكومة الوفاق ومساعدة المشير خليفة حفتر. لكن مصدر القلق الأكبر عنوانه منطقة الساحل حيث لباريس قوة عسكرية من 4500 رجل «برخان» منذ عام 2014، وهي مكرسة لمحاربة التنظيمات الإرهابية التي تعشش في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. والنتيجة أن «برخان»، رغم جهود باريس والدعم «المتواضع» الذي تحظى به من الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، ليست قادرة على وقف تنامي التنظيمات الإرهابية.
وكانت باريس تعوّل على قيام القوة الأفريقية المشتركة «جي 5» من بلدان الساحل الخمسة لتكون رأس الحربة في محاربة الإرهاب وتوفير الاستقرار للمنطقة. والحال أن هذه القوة ما زالت هلامية وتفتقر للتدريب والتنظيم والتمويل، وبالتالي فإن باريس تتطارح الأسئلة حول ما ستقوم به للخروج من هذا الوضع غير المريح. وحتى اليوم، فقدت فرنسا 43 ضابطاً وجندياً، فيما الكلفة المالية لـ«برخان» تربو على 700 مليون يورو في العام. ويعول ماكرون على القمة المقررة في مدينة بو (جنوب غربي فرنسا) مع قادة الدول الخمس ليقرر مصير قواته المرابطة في الساحل، خصوصاً أن هناك حملات إعلامية وسياسية تستهدفها مشككةً في نيّات فرنسا وأهدافها في المنطقة الاستراتيجية لمصالح باريس.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.