أميركا اللاتينية... اضطرابات اجتماعية عنيفة باغتت القيادات السياسية

ارتفاع منسوب الاستياء والغضب في مجتمعاتها

متظاهرون في تشيلي أثناء تعرضهم للمياه بخراطيم قوات الأمن لتفريقهم في أكتوبر الماضي (رويترز)
متظاهرون في تشيلي أثناء تعرضهم للمياه بخراطيم قوات الأمن لتفريقهم في أكتوبر الماضي (رويترز)
TT

أميركا اللاتينية... اضطرابات اجتماعية عنيفة باغتت القيادات السياسية

متظاهرون في تشيلي أثناء تعرضهم للمياه بخراطيم قوات الأمن لتفريقهم في أكتوبر الماضي (رويترز)
متظاهرون في تشيلي أثناء تعرضهم للمياه بخراطيم قوات الأمن لتفريقهم في أكتوبر الماضي (رويترز)

منذ أشهر، يجتهد المراقبون في تحليل الأسباب التي أدت إلى تفجير الاضطرابات الاجتماعية العنيفة التي تعصف بعدد من بلدان أميركا اللاتينية، والتي تأتي في سياق موجة عالمية عارمة من الاحتجاجات الشعبية المتفاوتة، من حيث دوافعها ومطالبها وأساليبها التعبيرية.
المفاجأة في هذه الاضطرابات لم تقتصر على الصحافيين والمراقبين عند رؤية آلاف المواطنين الغاضبين يخرجون إلى الشوارع، ويصطدمون في مواجهة عنيفة مع قوات الأمن والشرطة، إذ بدا أن هذه التطورات قد باغتت أيضاً القيادات السياسية التي لم تستشعر ارتفاع منسوب الاستياء والغضب في مجتمعاتها، فجاءت ردود أفعالها متعثّرة ويائسة في معظم الحالات. لا شك في أن التعميم يأتي غالباً على حساب الدقة في تحليل الحالات الخاصة، وتشخيص مسبباتها، إلا أن ثمّة مواصفات وقواسم مشتركة من شأنها أن تساعد على تحديد الإطار العام الذي تندرج فيه هذه الاحتجاجات، وتتشكّل ضمنه المطالب الرئيسية للمواطنين من غير أن يغيب عن بالنا أن ثمّة بلداناً أخرى لم تندلع فيها بعد شرارة الاحتجاجات، لكن تعتمل فيها الأوضاع والظروف نفسها التي أشعلت المظاهرات في البلدان الأخرى.
منذ أكثر من خمسة عقود، تتصدّر أميركا اللاتينية مناطق العالم من حيث الفوارق الاجتماعية الحادة، والفجوة العميقة بين الطبقتين العاملة والمتوسطة، من جهة، وحفنة ضئيلة من المواطنين الذين يستأثرون بنسبة عالية من الثروات الوطنية، من جهة أخرى. وتجمع الدراسات على أن هذه الفوارق الكبيرة ليست حائلاً دون تجاوز أزمة الفقر فحسب، بل هي عائق ضخم في وجه الارتقاء الاجتماعي للطبقتين العاملة والمتوسطة. يضاف إلى ذلك أنها تؤدي في الغالب إلى إضعاف النظام الديمقراطي، وتعمّق الشرخ الاجتماعي، وتزيد من وهن شريحة كبيرة من السكّان، وتدفع إلى الاستياء والإحباط لدى الأجيال الطالعة.

هشاشة الأوضاع الاقتصادية
إلى هذه المعوّقات، تضاف هشاشة الأوضاع الاقتصادية في معظم بلدان أميركا اللاتينية التي تعتمد على صادراتها من المواد الأوليّة التي تتراجع أسعارها منذ سنوات في الأسواق الدولية، والتي تعاني من مستويات متدنيّة في الإنتاجية وتضخّم في أسواق العمل غير المنظّمة. والاقتصادات الأميركية اللاتينية شديدة التأثر بالصدمات الخارجية التي تنعكس بسرعة على مستوى حياة المواطنين، وتحدّ من استدامة البرامج الاجتماعية. ويتضّح من الأزمات الراهنة أن الانكماش الاقتصادي الذي تعاني منه المنطقة هو إحدى العقبات الرئيسية التي تواجه الحكومات التي ينصبّ عليها غضب الشارع، بسبب من النظم الرئاسية القوّية، كما حصل في البلدان التي واجهت الاحتجاجات الشعبية.
من العوامل الأخرى التي يجب أخذها في الاعتبار في الأزمات التي تشهدها أميركا اللاتينية، العدوى. فالنجاح الذي حققته الاحتجاجات الأولى، خصوصاً في تشيلي، وتعددية الأطراف التي شاركت فيها، والدور البارز للشباب والمطالب الاجتماعية التقدميّة التي رفعتها، كانت محفّزاً قويّاً للتحركات الشعبية في البلدان الأخرى، حيث أدرك المواطنون أنهم يمتلكون القدرة على تغيير المسار السياسي والاجتماعي في البلاد.
وكان أول الاحتجاجات الشعبية في بورتوريكو، وانتهى بتنحّي الرئيس بعد تسريب تسجيل له يتضمّن تصريحات ذكورية وعبارات استهزاء بالمواطنين ومعاناتهم. في الأرجنتين، كانت الأزمة الاقتصادية وتداعياتها هي التي أدت إلى موجة الاحتجاجات قبل الانتخابات الرئاسية التي أعادت «الحركة البيرونية» إلى الحكم. وفي البيرو، أقدم رئيس الجمهورية على حل البرلمان للخروج من مأزق انسداد الأفق السياسي بعد فضائح فساد مدوّية. أما في الإكوادور، فكان الصاعق المفجّر لموجة الاحتجاجات حزمة التدابير التقشفية الصارمة التي فرضها صندوق النقد الدولي على الحكومة شرطاً لمنحها قرضاً تسدد به الديون الموروثة.
الأزمة التشيلية، التي ليس من الواضح بعد كيف سيكون مآلها، اندلعت في أعقاب قرار بزيادة سعر بطاقة المترو في العاصمة، سرعان ما تحوّل إلى ذريعة بنى عليها المواطنون مجموعة من المطالب الاجتماعية المتراكمة تعبيراً عن إحباط يتنامى منذ سنوات، بسبب تراجع الخدمات الأساسية، وتوزيعها. وهندوراس أيضاً شهدت احتجاجات بسبب علاقات رئيس الجمهورية مع تجّار المخدرات في هذا البلد، الذي يشهد منذ عقود معدلات قياسية من العنف والفقر والفساد. وفي الشهر الماضي، جاء دور بوليفيا بعد التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية، ما أدى إلى تنحّي إيفو موراليس، تحت ضغط الجيش الذي أعاد إلى الأذهان شبح الأنظمة العسكرية التي سادت لسنوات عديدة في المنطقة.
وفي كولومبيا، كانت التدابير التي أعلنتها الحكومة اليمينية لتعديل النظام التقاعدي، وخفض الضرائب على الشركات، والثروات الكبرى، هي التي أثارت غضب النقابات والطلاب والسكّان الأصليين، إضافة إلى الاستياء الذي كان يتراكم بسبب عدم التزام الحكومة بتنفيذ بنود اتفاق السلام الموقّع مع الثوّار في عام 2017، وتعرّض عشرات القياديين الاجتماعيين للاغتيال.
القواسم المشتركة بين الأسباب التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات في أميركا اللاتينية، قابلتها ردود أفعال متشابهة من الحكومات التي لجأت كلّها إلى القمع وسيلة رئيسية لاحتوائها. وقد أدى الإفراط في استخدام القوة، والاستعانة بالجيش في معظم الأحيان إلى زيادة الغضب الشعبي، وإطلاق صفّارات الإنذار الدولية من مخاطر الانزلاق إلى انتهاكات حقوق الإنسان في منطقة لها سجّل حافل في هذا المجال.

مصير الاحتجاجات
أما عن مخارج هذه الاحتجاجات والنتائج التي قد تتمخّض عنها، فمن الصعب في الوقت الحاضر التكهّن بها. صحيح أنه كانت لها بعض المفاعيل الأوليّة، مثل إلغاء التدابير التي أشعلتها كرفع الدعم عن أسعار المحروقات في الإكوادور، أو زيادة سعر بطاقة المترو في تشيلي، لكن هذه ليست سوى ضمادات خفيفة على جسم العلاقات المتدهورة بين الحكومة والمجتمع في هذه البلدان. وفي الحالة التشيلية، يبدو أن المخرج يمرّ عبر تعديل الدستور الليبرالي الموروث عن ديكتاتورية الرئيس الأسبق بينوتشيه، الذي تطالب به النقابات والمنظمات الطلابية وأحزاب اليسار منذ سنوات. وفي كولومبيا، أبدت الحكومة استعدادها للتراجع عن حزمة التدابير الاقتصادية، رغم أنها ما زالت تناور في انتظار سقوط بعض مطالب المحتجين بفعل الإنهاك.
بوليفيا، على موعد مع انتخابات جديدة من المفترض أن تمهّد للخروج من الأزمة الديمقراطية التي نشأت عن إجبار موراليس على الاستقالة، وانتخاب رئيسة جديدة في برلمان لم يكن نصابه مكتملاً. في غضون ذلك، تبقى حالتان تحت المراقبة، هما العملاقان الإقليميان، البرازيل والمكسيك؛ حيث لم تحصل اضطرابات حتى الآن رغم التشابه في منسوب الاستياء الشعبي والظروف الاقتصادية. ويُلاحظ في آخر الاستطلاعات في المكسيك، أن الاستياء من إدارة لوبيز أوبرادور قد تجاوز نسبة 50 في المائة، فيما يتضّح عجز الحكومة عن ضبط الأمن، وتكثر المؤشرات على انحنائها أمام مطالب واشنطن، على الرغم من إصرارها على خطاب شعبوي في الداخل، ما قد يشكّل أرضاً خصبة لتحركات شعبية إذا توفّرت لها الشرارة المفجّرة.
وفي البرازيل، حيث يمرّ بولسونارو بأضعف المراحل منذ انتخابه، أحاطت الحكومة علماً بمخاطر التحركات الشعبية، وتراجعت عن حزمة التدابير الاقتصادية وبرامج الخصخصة التي سبق وأعلنتها. ولا شك في أن خروج الرئيس الأسبق لولا من السجن، ودعوته القوى اليسارية إلى الوقوف جبهة واحدة في وجه بولسونارو، قد يساعد على إعادة تحريك الشارع، مع اقتراب الانتخابات المحلية في الخريف المقبل. أما الأزمة الفنزويلية، التي تبدو بعد تدويلها، ذاهبة في مسار تحللّي بطيء نحو النموذج الكوبي، فهي تحت عين الرقيب الأميركي الذي اختار الانكفاء حتى الانتخابات الرئاسية، والذي يؤكد أن هافانا وكاراكاس تقفان وراء موجة الاضطرابات التي تعصف بأميركا اللاتينية.


مقالات ذات صلة

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
حصاد الأسبوع نيوم... مدينة المستقبل (الشرق الأوسط)

الفرص والتحديات وتوقّعات المستقبل من منظورَي الرياض وبكين

تُعَدُّ الشراكة بين السعودية والصين فرصة كبيرة لتعزيز التعاون في مجالات حيوية عدة. إذ يوفر التعاون في الطاقة النظيفة والابتكار التكنولوجي فرصاً لدعم أهداف


ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.