منذ أشهر، يجتهد المراقبون في تحليل الأسباب التي أدت إلى تفجير الاضطرابات الاجتماعية العنيفة التي تعصف بعدد من بلدان أميركا اللاتينية، والتي تأتي في سياق موجة عالمية عارمة من الاحتجاجات الشعبية المتفاوتة، من حيث دوافعها ومطالبها وأساليبها التعبيرية.
المفاجأة في هذه الاضطرابات لم تقتصر على الصحافيين والمراقبين عند رؤية آلاف المواطنين الغاضبين يخرجون إلى الشوارع، ويصطدمون في مواجهة عنيفة مع قوات الأمن والشرطة، إذ بدا أن هذه التطورات قد باغتت أيضاً القيادات السياسية التي لم تستشعر ارتفاع منسوب الاستياء والغضب في مجتمعاتها، فجاءت ردود أفعالها متعثّرة ويائسة في معظم الحالات. لا شك في أن التعميم يأتي غالباً على حساب الدقة في تحليل الحالات الخاصة، وتشخيص مسبباتها، إلا أن ثمّة مواصفات وقواسم مشتركة من شأنها أن تساعد على تحديد الإطار العام الذي تندرج فيه هذه الاحتجاجات، وتتشكّل ضمنه المطالب الرئيسية للمواطنين من غير أن يغيب عن بالنا أن ثمّة بلداناً أخرى لم تندلع فيها بعد شرارة الاحتجاجات، لكن تعتمل فيها الأوضاع والظروف نفسها التي أشعلت المظاهرات في البلدان الأخرى.
منذ أكثر من خمسة عقود، تتصدّر أميركا اللاتينية مناطق العالم من حيث الفوارق الاجتماعية الحادة، والفجوة العميقة بين الطبقتين العاملة والمتوسطة، من جهة، وحفنة ضئيلة من المواطنين الذين يستأثرون بنسبة عالية من الثروات الوطنية، من جهة أخرى. وتجمع الدراسات على أن هذه الفوارق الكبيرة ليست حائلاً دون تجاوز أزمة الفقر فحسب، بل هي عائق ضخم في وجه الارتقاء الاجتماعي للطبقتين العاملة والمتوسطة. يضاف إلى ذلك أنها تؤدي في الغالب إلى إضعاف النظام الديمقراطي، وتعمّق الشرخ الاجتماعي، وتزيد من وهن شريحة كبيرة من السكّان، وتدفع إلى الاستياء والإحباط لدى الأجيال الطالعة.
هشاشة الأوضاع الاقتصادية
إلى هذه المعوّقات، تضاف هشاشة الأوضاع الاقتصادية في معظم بلدان أميركا اللاتينية التي تعتمد على صادراتها من المواد الأوليّة التي تتراجع أسعارها منذ سنوات في الأسواق الدولية، والتي تعاني من مستويات متدنيّة في الإنتاجية وتضخّم في أسواق العمل غير المنظّمة. والاقتصادات الأميركية اللاتينية شديدة التأثر بالصدمات الخارجية التي تنعكس بسرعة على مستوى حياة المواطنين، وتحدّ من استدامة البرامج الاجتماعية. ويتضّح من الأزمات الراهنة أن الانكماش الاقتصادي الذي تعاني منه المنطقة هو إحدى العقبات الرئيسية التي تواجه الحكومات التي ينصبّ عليها غضب الشارع، بسبب من النظم الرئاسية القوّية، كما حصل في البلدان التي واجهت الاحتجاجات الشعبية.
من العوامل الأخرى التي يجب أخذها في الاعتبار في الأزمات التي تشهدها أميركا اللاتينية، العدوى. فالنجاح الذي حققته الاحتجاجات الأولى، خصوصاً في تشيلي، وتعددية الأطراف التي شاركت فيها، والدور البارز للشباب والمطالب الاجتماعية التقدميّة التي رفعتها، كانت محفّزاً قويّاً للتحركات الشعبية في البلدان الأخرى، حيث أدرك المواطنون أنهم يمتلكون القدرة على تغيير المسار السياسي والاجتماعي في البلاد.
وكان أول الاحتجاجات الشعبية في بورتوريكو، وانتهى بتنحّي الرئيس بعد تسريب تسجيل له يتضمّن تصريحات ذكورية وعبارات استهزاء بالمواطنين ومعاناتهم. في الأرجنتين، كانت الأزمة الاقتصادية وتداعياتها هي التي أدت إلى موجة الاحتجاجات قبل الانتخابات الرئاسية التي أعادت «الحركة البيرونية» إلى الحكم. وفي البيرو، أقدم رئيس الجمهورية على حل البرلمان للخروج من مأزق انسداد الأفق السياسي بعد فضائح فساد مدوّية. أما في الإكوادور، فكان الصاعق المفجّر لموجة الاحتجاجات حزمة التدابير التقشفية الصارمة التي فرضها صندوق النقد الدولي على الحكومة شرطاً لمنحها قرضاً تسدد به الديون الموروثة.
الأزمة التشيلية، التي ليس من الواضح بعد كيف سيكون مآلها، اندلعت في أعقاب قرار بزيادة سعر بطاقة المترو في العاصمة، سرعان ما تحوّل إلى ذريعة بنى عليها المواطنون مجموعة من المطالب الاجتماعية المتراكمة تعبيراً عن إحباط يتنامى منذ سنوات، بسبب تراجع الخدمات الأساسية، وتوزيعها. وهندوراس أيضاً شهدت احتجاجات بسبب علاقات رئيس الجمهورية مع تجّار المخدرات في هذا البلد، الذي يشهد منذ عقود معدلات قياسية من العنف والفقر والفساد. وفي الشهر الماضي، جاء دور بوليفيا بعد التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية، ما أدى إلى تنحّي إيفو موراليس، تحت ضغط الجيش الذي أعاد إلى الأذهان شبح الأنظمة العسكرية التي سادت لسنوات عديدة في المنطقة.
وفي كولومبيا، كانت التدابير التي أعلنتها الحكومة اليمينية لتعديل النظام التقاعدي، وخفض الضرائب على الشركات، والثروات الكبرى، هي التي أثارت غضب النقابات والطلاب والسكّان الأصليين، إضافة إلى الاستياء الذي كان يتراكم بسبب عدم التزام الحكومة بتنفيذ بنود اتفاق السلام الموقّع مع الثوّار في عام 2017، وتعرّض عشرات القياديين الاجتماعيين للاغتيال.
القواسم المشتركة بين الأسباب التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات في أميركا اللاتينية، قابلتها ردود أفعال متشابهة من الحكومات التي لجأت كلّها إلى القمع وسيلة رئيسية لاحتوائها. وقد أدى الإفراط في استخدام القوة، والاستعانة بالجيش في معظم الأحيان إلى زيادة الغضب الشعبي، وإطلاق صفّارات الإنذار الدولية من مخاطر الانزلاق إلى انتهاكات حقوق الإنسان في منطقة لها سجّل حافل في هذا المجال.
مصير الاحتجاجات
أما عن مخارج هذه الاحتجاجات والنتائج التي قد تتمخّض عنها، فمن الصعب في الوقت الحاضر التكهّن بها. صحيح أنه كانت لها بعض المفاعيل الأوليّة، مثل إلغاء التدابير التي أشعلتها كرفع الدعم عن أسعار المحروقات في الإكوادور، أو زيادة سعر بطاقة المترو في تشيلي، لكن هذه ليست سوى ضمادات خفيفة على جسم العلاقات المتدهورة بين الحكومة والمجتمع في هذه البلدان. وفي الحالة التشيلية، يبدو أن المخرج يمرّ عبر تعديل الدستور الليبرالي الموروث عن ديكتاتورية الرئيس الأسبق بينوتشيه، الذي تطالب به النقابات والمنظمات الطلابية وأحزاب اليسار منذ سنوات. وفي كولومبيا، أبدت الحكومة استعدادها للتراجع عن حزمة التدابير الاقتصادية، رغم أنها ما زالت تناور في انتظار سقوط بعض مطالب المحتجين بفعل الإنهاك.
بوليفيا، على موعد مع انتخابات جديدة من المفترض أن تمهّد للخروج من الأزمة الديمقراطية التي نشأت عن إجبار موراليس على الاستقالة، وانتخاب رئيسة جديدة في برلمان لم يكن نصابه مكتملاً. في غضون ذلك، تبقى حالتان تحت المراقبة، هما العملاقان الإقليميان، البرازيل والمكسيك؛ حيث لم تحصل اضطرابات حتى الآن رغم التشابه في منسوب الاستياء الشعبي والظروف الاقتصادية. ويُلاحظ في آخر الاستطلاعات في المكسيك، أن الاستياء من إدارة لوبيز أوبرادور قد تجاوز نسبة 50 في المائة، فيما يتضّح عجز الحكومة عن ضبط الأمن، وتكثر المؤشرات على انحنائها أمام مطالب واشنطن، على الرغم من إصرارها على خطاب شعبوي في الداخل، ما قد يشكّل أرضاً خصبة لتحركات شعبية إذا توفّرت لها الشرارة المفجّرة.
وفي البرازيل، حيث يمرّ بولسونارو بأضعف المراحل منذ انتخابه، أحاطت الحكومة علماً بمخاطر التحركات الشعبية، وتراجعت عن حزمة التدابير الاقتصادية وبرامج الخصخصة التي سبق وأعلنتها. ولا شك في أن خروج الرئيس الأسبق لولا من السجن، ودعوته القوى اليسارية إلى الوقوف جبهة واحدة في وجه بولسونارو، قد يساعد على إعادة تحريك الشارع، مع اقتراب الانتخابات المحلية في الخريف المقبل. أما الأزمة الفنزويلية، التي تبدو بعد تدويلها، ذاهبة في مسار تحللّي بطيء نحو النموذج الكوبي، فهي تحت عين الرقيب الأميركي الذي اختار الانكفاء حتى الانتخابات الرئاسية، والذي يؤكد أن هافانا وكاراكاس تقفان وراء موجة الاضطرابات التي تعصف بأميركا اللاتينية.