تطوّران بارزان حملهما عام 2019 إلى المشهد السياسي في كلّ من إيطاليا وإسبانيا، بحيث إن ما سيأتي بعدهما لن يشبه ما كان قبلهما في هاتين الدولتين الأوروبيّتين الوحيدتين اللتين وقفتا بجانب «الرايخ الثالث» الألماني في الحرب العالمية الثانية، وهما أيضاً ما تراهن عليهما اليوم بقوة الحركة العالمية لليمين المتطرف استعداداً لنهضة جديدة تختمر مفاعيلها منذ سنوات في أوروبا.
بعد ثمانية عقود على دحر فاشيّة موسوليني، التي رغم فولكلوريّة مؤسسها ونهايته البائسة، أحدثت شرخاً عميقاً في صميم الهويّة الإيطالية لم يغب تأثيره على الحياة السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عاد الحنين إليها يُزهر من جديد على صهوة أزمة الهجرة المتفاقمة، وتراجع الأداء الاقتصادي، وانهيار الأحزاب السياسية التقليدية، وعجزها عن مواكبة المرحلة الجديدة ومعالجة المشكلات التي نشأت عنها. سفينة هذه العودة إلى المناخ الفاشي هو «حزب الرابطة» الذي نشأ في مطلع تسعينات القرن الماضي كحزب محلّي يطالب بانفصال مقاطعات الشمال عن إيطاليا، ولم تكن شعبيته تتجاوز 5 في المائة، ليصبح اليوم القوة السياسية الأولى التي تتحيّن أوّل فرصة انتخابية للانقضاض على السلطة، أو التفرّد بها، بعد أن قاربت شعبيتها 40 في المائة، حسب الاستطلاعات الأخيرة.
الولد المشاكس في إيطاليا
أما قبطان هذه السفينة فهو ماتّيو سالفيني، الولد المشاكس في المشهد السياسي الإيطالي، صاحب الخطاب الناري الذي لا يوفّر أحداً من خصومه، الفعليين أو الافتراضيين، من المهاجرين الأفارقة والمسلمين إلى اليسار والشيوعيين، ومن إيمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل إلى المفوضّية الأوروبية والبابا فرنسيس. ولا يتردّد زعيم «الرابطة»، الذي يعيش في حملة انتخابية دائمة، في التباهي بصداقته مع السياسية الفرنسية مارين لوبان والمجري فيكتور أوروبان، والإعراب عن إعجابه بفلاديمير بوتين وبنيامين نتنياهو.
كان سالفيني قد نجح العام الماضي، بعد الانتخابات العامة التي حلّ فيها حزبه في المركز الثاني، في إقناع حركة «النجوم الخمس» الفائزة في تلك الانتخابات بتشكيل تحالف حكومي تولّى فيه وزارة الداخلية التي أطلق منها حملة واسعة ضد المهاجرين، كانت ترفع شعبيته، رغم انتهاكها أحكام الدستور الإيطالي والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، والمعارضة الشديدة التي كانت تلقاها من الكنيسة الكاثوليكية والمؤسسات الأوروبية. ومع صعوده السريع والاستطلاعات التي كانت تضعه في صدارة المشهد السياسي الإيطالي، بدأ سالفيني يشعر بأن موقعه ينبغي أن يكون في قيادة الحكومة، فأقدم على طرح الثقة برئيسها متيقّناً من إسقاطها وحل البرلمان، والذهاب إلى انتخابات تتوّج مشروعه السياسي. لكن سرعان ما تبيّن أن تلك كانت هفوة كبيرة ارتكبها، قد تكلّفه الانتظار أربع سنوات قبل أن يعود إلى الحكم في بلد تقاس فيه أعمار الحكومات بالأشهر وليس بالسنوات.
حاول سالفيني استدراك خطأه بكل الوسائل، لكن خصومه لم يفوّتوا الفرصة الثمينة، وشكّلوا أغلبية برلمانية جديدة بين «النجوم الخمس» و«الحزب الديمقراطي» اللذين سبق أن رفض أي تقارب بينهما لتشكيل حكومة ائتلافية بعد الانتخابات الأخيرة. وكانت الخطوة الأولى التي قام بها بعد خروجه من الحكومة، تشكيل تحالف انتخابي مع حزب برلوسكوني المحتضر منذ سنوات، و«الفاشيين الجدد» في حزب «إخوان إيطاليا» الذين بايعوه زعيماً بلا منازع لتحالف اليمين، الذي فاز في كل الانتخابات المحلية التي أجريت حتى الآن.
حزب «فوكس» الإسباني
في المشهد الإسباني أيضاً، كان الحدث البارز هو ظهور اليمين المتطرف ودخوله البرلمان، لأول مرة، منذ وفاة الجنرال فرنكو في سبعينات القرن الماضي. وكان المؤشر الأول لعودة اليمين الإسباني المتطرف قد ظهر في ربيع العام الماضي عندما فاز حزب «فوكس» بـ10 مقاعد في البرلمان الإقليمي الأندلسي، وتمكّن بتحالفه مع «الحزب الشعبي» وحركة «مواطنون» من إزاحة «الحزب الاشتراكي» عن الحكم في الإقليم الذي يشكّل خزّانه الانتخابي الرئيسي، الذي يحكمه منذ عودة الديمقراطية.
وبعد ذلك جاء دخول «فوكس» إلى البرلمان الوطني في الانتخابات العامة التي أجريت في الربيع الماضي، لكن رصيده الذي لم يتجاوز العشرين مقعداً أبقاه خارج دائرة التأثير في النشاط البرلماني الذي ظلّ مقصوراً طوال أشهر على تشكيل أغلبية تسمح بتشكيل حكومة مستقرّة. وبعد أن عجزت الأحزاب السياسية عن تشكيل حكومة، ذهبت إسبانيا إلى انتخابات جديدة مطالع الشهر الماضي، كانت مفاجأتها الكبرى حصول «فوكس» على 52 مقعداً، ليصبح ثالث قوة سياسية في إسبانيا بعد أقل من 6 سنوات على تأسيس الحزب.
ولا شك في أن هذا الصعود السريع لليمين المتطرف في إسبانيا يعود بشكل أساسي إلى الأزمة الانفصالية التي اندلعت في كاتالونيا في خريف عام 2017، عندما أقدمت الأحزاب المطالبة بالاستقلال على تنظيم استفتاء حول تقرير مصير الإقليم، في تحدّ سافر لقرار المحكمة الدستورية بعدم شرعيته، ولتحذيرات الحكومة المركزية بإبطال مفاعيل الحكم الإقليمي وإخضاع المؤسسات الكاتالونية للإدارة الوطنية.
وقد استفاد حزب «فوكس» من التعثّر في مواجهة التحدّي الانفصالي، أولاً من جانب حكومة «الحزب الشعبي» المحافظة التي تضاعفت شعبية الحركة الانفصالية خلال ولايتها، قبل أن تسقط عندما فقدت ثقة البرلمان بفضل التحالف بين القوى اليسارية والأحزاب المطالبة بالاستقلال، ثم من جانب الحكومة الاشتراكية التي كان بقاؤها مرهوناً بدعم الانفصاليين الكاتالونيين الذين لم ينفكّوا عن ابتزازها حتى إسقاطها مطلع عام 2019. وخلافاً للحالة الإيطالية، حيث أنجز حزب «الرابطة» المتطرف هيمنته على المشهد اليميني، وأحكم سيطرته على تحالف القوى المحافظة، لم يتمكّن حزب «فوكس» بعد من تصدّر المشهد اليميني في إسبانيا، رغم الصعود السريع والقوي الذي حققه في فترة قصيرة منذ تأسيسه. لكن لا شك في أن الأزمة الانفصالية التي لا يلوح أي حل لها في الأفق القريب، من شأنها أن تمدّ اليمين المتطرف بالمقوّمات الكافية لقلب المعادلة السياسية في إسبانيا.