المبدعون التونسيون.. بلا ناشرين

بعد إغلاق الدار الحكومية الوحيدة

محمود المسعدي وغلاف روايته الشهيرة
محمود المسعدي وغلاف روايته الشهيرة
TT

المبدعون التونسيون.. بلا ناشرين

محمود المسعدي وغلاف روايته الشهيرة
محمود المسعدي وغلاف روايته الشهيرة

لكل مبدع تونسي حكاية طويلة مع مشاكل نشر ما يكتبه في غفلة من الآخرين، فالعملية تكاد تكون مغلقة ومسلك سيرها معروف سلفا، فإما أن يجازف الكاتب أو الشاعر بتقديم كتابه إلى إحدى دور النشر وانتظار دوره الذي قد لا يأتي، وهذا ليس في مقدور كل الكتاب والمبدعين؛ إذ إن المسألة محسومة سلفا لصالح دار النشر، وغالبا ما يخرج الكاتب بخفي حنين نتيجة الإجحاف على مستوى العقود التي تحررها دور النشر.
أما إذا جازف بنشر إبداعه على الحساب الخاص، فإن في هذا الاختيار مخاطر جمة تأتي على رأسها صعوبة ترويج الإبداع وإيصاله إلى القارئ المفترض، ومشاكل توفير السيولة المالية لدار النشر التي تمكن المبدع من جميع الحقوق، وتتفصى في المقابل من أي مسؤولية إضافية، لذلك يجد المبدع التونسي نفسه بين المطرقة والسندان؛ مطرقة هاجس الإبداع وإثبات الذات وإعلان الحضور الإبداعي، وسندان دور النشر وشروطهم الكثيرة التي تجعل المبدع يفر بجلده تاركا جميع حقوقه لدار النشر مقابل ألا يدفع شيئا من جيبه.
نتيجة لهذا الظرف الصعب على مستوى نشر الإبداع في تونس، فإن رواجه والتعريف به في الداخل محدود للغاية، وهو يميل إلى حد الكفاف سواء على مستوى عدد النسخ من كل منشور إبداعي، أو على مستوى ما يصل القارئ من إبداع تونسي، أما خارج تونس، فإن ديوان «أغاني الحياة» لشاعر تونس الأول أبو القاسم الشابي، ومقدمة العلامة عبد الرحمن بن خلدون، يمثلان العلامة المضيئة في مسيرة الإبداع التونسي، ولكن هذه الوضعية لا تعكس حقيقة الإبداع التونسي الذي يزخر بأصوات وأقلام عدة مميزة سواء من خلال ما تبدعه أو من خلال حضورها الذهني والإبداعي.
وخلال السنوات الماضية تخلت الدولة عن النشر وتخلصت من مؤسسة الدار التونسية للنشر التي كانت مملوكة لها، وهذه المؤسسة التي كانت رائدة في مجال نشر الإبداع التونسي، تمكنت خلال فترة الستينات والـسبعينات من القرن الماضي من التعريف بالمبدعين التونسيين ونشرت لهم معظم أعمالهم الإبداعية، فعرف التونسيون محمود المسعدي صاحب كتاب «السد» أو «حدث أبو هريرة قال...»، كما قرأ التونسيون المجموعة القصصية «القنطرة هي الحياة» و«المنعرج» لمصطفى الفارسي أو مجموعة «خط رديء» لعبد المجيد عطية، و«التوت المر» للعروسي المطوي، والمجموعة الشعرية «قرط أمي» للشاعر الميداني بن صالح. ورافقت هذه الصحوة على مستوى النشر إبداعات متنوعة على مستوى المسرح والسينما وغيرها من ضروب الإبداع.
وحول مشاكل النشر المتعددة، تعد الشاعرة التونسية آمال موسى أن النشر على النفقة الخاصة أثر سلبا على ترويج الكتاب التونسي؛ إذ إنه من الصعب الإلمام بكافة المعوقات التي تقف دون انتشار الكتاب التونسي خارج الحدود وداخلها، فالبعض منها موضوعي والبعض الآخر ذاتي.
وتعد أن إشعاع الكتاب في تونس ومنافسته الإنتاج الأدبي والمعرفي في مصر ولبنان على سبيل المثال يتطلب نجاح الإبداع في بيئته الأصلية، وهذا ما لم يكتب له إلى حد الآن.
من ناحيتها قالت منيرة الرزقي القاصة التونسية إنّ «الكِتاب التونسي لا يقل جودة على مستوى الإخراج الفني وطريقة الطباعة ونوعية الورق المستعمل على بقية منشورات الدول العربية والغربية، ولكنه لا يزال عاجزا عن اكتساح الأسواق الخارجية والانتشار محليا بالقدر الكافي».
ومن وجهة نظرها، فإن الأسئلة المطروحة بشأن معضلة النشر كثيرة من بينها ما عسى أن تكون العوائق والنقائص التي تحدّ من انتشار الكتاب التونسي؟
عن هذا السؤال الأساسي ترد الرزقي بضرورة اعتبار الكتاب إنتاجا إبداعيا يحمل علامة تونسية مميزة تلقى الرواج السريع وتجلب الاهتمام المتزايد؛ إذ إن كثيرا من الكتاب العرب تمنوا كسر الطوق والدخول إلى عوالم الإبداع بالاعتماد على ما تفرزه بيئتهم الأصلية، ولنا في الطيب صالح صاحب رائعة «موسم الهجرة إلى الشمال» أو المغربي محمد شكري صاحب رائعة «الخبز الحافي»، مثال جيد في هذا الباب.
للأسف معظم المتعلمين في تونس والعالم العربي لا يقرأون وإن أجبروا على القراءة، فإنها لن تتجاوز حدود ما هو مطلوب منهم في البرامج الدراسية، لهذا يقلل المبدعون في تونس من نسخ طبع الكتاب، فالبعض منهم لا يطبع سوى ألف نسخة من ديوان شعري أو مجموعة قصصية ويلقى كل متاعب الدنيا في ترويجها بين القراء على قلتهم، ومن هو مغامر فيطبع 3 آلاف نسخة يبقى معظمها في المخازن، أما أفضل الأسماء الشعرية والقصصية، فهو لن تطبع أكثر من 5 آلاف نسخة لشعب تعداه أكثر من 10 ملايين نسمة.
وفي تونس يبدو أن نظرة المبدعين وأصحاب دور النشر للإنتاج المعرفي مختلفة تمام الاختلاف بين الطرفين، فالمبدع يرى أن ما ينتجه لا يمكن تقديره بثمن فهو غير قابل للمساومة وتطبيق مفاهيم الربح والخسارة عليه، فيما ينطلق أصحاب دور النشر من ضرورة تحقيق هامش ربح من كل عملية نشر ويطالبون المبدع بـ«بضاعة» مميزة وقابلة للتصدير.
لتجاوز هذه العلاقة المعقدة بين المبدع ودور النشر استغل بعض الناشرين الصغار خلو الساحة من منافسين جيدين، وأقبلوا على طباعة كل منتج إبداعي، ولكن على الحساب الخاص، وفي ذلك مغامرة غير محسوبة العواقب، خصوصا بالنسبة للمبدعين الشبان.
لكل هذا وفي مواجهة الاتهامات الكثيرة الموجهة لأصحاب دور النشر، قال عبد اللطيف دمدوم (صاحب دار نشر بالعاصمة التونسية)، إن «الاستثمار في مجال إنتاج الكتاب وترويجه مغامرة مجهولة العواقب تستوجب بعث ورشات للبحث والانتقاء والإنتاج والترويج، وذلك اعتمادا على خلايا إنتاج تتكوّن أساسا من المستثمرين من رؤوس الأموال المولعين بعالم الثقافة والفكر ونخبة من الكتّاب والمبدعين والمثقفين والمختصين البارعين في مجالي الإشهار والتسويق والترويج، حتى تستقيم العلاقة بين المبدعين وأصحاب دور النشر»، وعد أن أجهزة الدولة هي «المحرك الأساسي لعملية الإبداع وعلى عاتقها تقع مسؤولية التعريف بالإبداع والمبدعين، والدافع الوحيد لهم في هذا المجال هو إبراز الفكر التونسي الخلاّق والتعريف به بوصفه جزءا من الهوية».



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.