أميركا في 2019: إجراءات عزل تاريخية وقرارات أشعلت صراعات في البيت الأبيض

ترمب يُعدّ لمعركة انتخابية ساخنة... ويعوّل على تبرئته في «محاكمة الشيوخ»

نانسي بيلوسي ومايك بنس يصفقان بعد إلقاء ترمب خطاب حالة الاتحاد أمام الكونغرس في 5 فبراير 2019 (أ.ف.ب)
نانسي بيلوسي ومايك بنس يصفقان بعد إلقاء ترمب خطاب حالة الاتحاد أمام الكونغرس في 5 فبراير 2019 (أ.ف.ب)
TT

أميركا في 2019: إجراءات عزل تاريخية وقرارات أشعلت صراعات في البيت الأبيض

نانسي بيلوسي ومايك بنس يصفقان بعد إلقاء ترمب خطاب حالة الاتحاد أمام الكونغرس في 5 فبراير 2019 (أ.ف.ب)
نانسي بيلوسي ومايك بنس يصفقان بعد إلقاء ترمب خطاب حالة الاتحاد أمام الكونغرس في 5 فبراير 2019 (أ.ف.ب)

كان عام 2019 حافلاً بأحداث سوف يذكرها التاريخ، واجهت فيه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تحديات قلّما واجهتها إدارات أميركية في السابق. وأصبح ترمب خلالها الرئيس الثالث فقط في التاريخ الأميركي الذي يعزله مجلس النواب.
فشخصية ترمب مختلفة للغاية عن شخصيات سياسية تقليدية اعتادت عليها واشنطن وعرفتها. شخصية تصادمت مع الديمقراطيين وتحدّتهم ليصل الأمر بهم إلى محاولة خلعه من مقعد الرئاسة. شخصية تحدّت زعماء الدول الحليفة وواجهتهم من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وصولاً إلى رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو. هذه الشخصية تحدّت الأعراف والتقاليد، واعتمدت على سياسة التواصل عبر «تويتر»، والإعلان عن أهم القرارات في السياسة الأميركية داخلياً وخارجياً عبر تغريدات.
أبلغ ترمب من خلال تغريداته الأميركيين والعالم بسحب القوات الأميركية من سوريا، وبإلغاء الضربة العسكرية على إيران، وبمنع رئيسة مجلس النواب من السفر بسبب الإغلاق الحكومي، وباستقالة أو إقالة مسؤولين في الإدارة. ناهيك عن تغريداته اليومية التي حملت وابلاً من الانتقادات للمحقق الخاص روبرت مولر، وللديمقراطيين، وإجراءات عزله. ومما لا شك فيه أن تداعيات السياسات المذكورة ستمتد إلى العام المقبل، وتؤثر مباشرة على نتيجة الانتخابات الرئاسية والتشريعية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، في حلبة صراع مزدحمة بمرشحين ديمقراطيين ورئيس حالي هو الثالث الذي يصادق مجلس النواب على عزله في تاريخ الولايات المتحدة.

الإغلاق الحكومي الأطول
في تاريخ الولايات المتحدة

في الأول من يناير (كانون الثاني) 2019، استيقظ الأميركيون على وقع الإغلاق الحكومي الثالث في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب. لم يعرفوا حينها أنه سيكون الإغلاق الأطول في تاريخ الولايات المتحدة. فقد بدأ الإغلاق الجزئي في الثاني والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) 2018 مع بدء عملية شد الحبال بين البيت الأبيض والكونغرس، بعد فوز الديمقراطيين بالأغلبية في مجلس النواب. السبب: ملف الهجرة غير الشرعية وبناء حائط مع المكسيك. ففي حين دفع الديمقراطيون باتجاه تمويل المرافق الحكومية من دون شروط، أصر البيت الأبيض على إضافة تمويل الحائط. ومع مطلع العام الجديد وتسلم نانسي بيلوسي مطرقة الرئاسة في مجلس النواب، بدا أن الوضع يتدهور أكثر فأكثر وتبددت الآمال بالتوصل إلى اتفاق.

قصة خطاب حالة الاتحاد

علاقة ترمب ببيلوسي علاقة يصفها الكثيرون في واشنطن بالمضطربة في أفضل أيامها، ولعل أبرز مثال على ذلك قصة خطاب حال الاتحاد. فهذا التقليد المرسخ في العلاقة بين الكونغرس والبيت الأبيض شهد أكبر أزمة في تاريخه: بيلوسي سحبت الدعوة التي سبق وأن وجّهتها لترمب لإلقاء خطاب حال الاتحاد السنوي في التاسع والعشرين من يناير، بسبب الإغلاق الحكومي. فردّ عليها ترمب من خلال إلغاء زيارتها الرسمية إلى مصر وأفغانستان وبلجيكا. واستمرت عملية شد الحبال هذه إلى أن تم التوصل إلى اتفاق لفتح المرافق الحكومية بعد خمسة وثلاثين يوماً من إغلاقها. لكن بيلوسي لم تخرج من الصورة، حرفياً. فبعد فتح المرافق الحكومية أبوابها، ألقى ترمب خطاب حال الاتحاد في الخامس من فبراير (شباط)، ووراءه مباشرة جلست رئيسة المجلس، لتصبح صورتها وهي تصفق بسخرية للرئيس الصورة الأشهر تلك الليلة. ويتحدث مدير مكتب صحيفة «بوليتيكو»، جون بريسناهن، عن المراحل المتعدّدة التي مرت بها علاقة ترمب ببيلوسي. ويقول: «لقد بدأت بتغطية الكونغرس في أوائل عام 1990، وعلاقة ترمب ببيلوسي هي أكثر علاقة مشحونة ومتوترة تجمع بين رئيس أميركي ورئيس مجلس نواب. إن العلاقة تدهورت بشكل دراماتيكي منذ تسلم بيلوسي مطرقة رئاسة في المجلس، وهما بالكاد يتحدثان مع بعضهما بعضاً اليوم. وفي كل مرة يتحدثان فيها، تحصل مواجهة كبيرة ويغادر أحدهما قاعة الاجتماع. هذا أمر غير مسبوق».

جيمس ماتيس وسوريا

دخل ترمب العام الجديد من دون وزير دفاع في إدارته. فجايمس ماتيس قدّم استقالته بعد خلافات عميقة بين الرجلين بسبب قرار ترمب سحب القوات الأميركية من سوريا، ودراسة سحب القوات من أفغانستان. وجاءت استقالة الجنرال المتقاعد بعد يوم من تصريحات مفاجئة للرئيس الأميركي يعلن فيها عن انسحاب القوات الأميركية من سوريا والفوز على تنظيم «داعش» الإرهابي. تصريحات ترمب هزت وزارتي الدفاع والخارجية؛ إذ تزامنت مع تكرار مسؤولين في الوزارتين لتصريحات مفادها أن القتال ضد التنظيم في سوريا لم ينته بعد.
الموضوع الآخر الذي دفع بماتيس إلى اتخاذ قراره بالاستقالة هو طلب ترمب من البنتاغون العمل على استراتيجية لسحب عدد من القوات الأميركية من أفغانستان، على الرغم من معارضة وزير دفاعه.
غياب ماتيس هز الأوساط السياسية في واشنطن، خاصة في الكونغرس، حيث يتمتّع الرجل بسمعة طيبة ويحظى بثقة المشرعين من الحزبين، وقد عادلت هذه الصدمة التي تلقاها المشرعون لدى استقالة ماتيس صدمة سماعهم بنية ترمب الانسحاب من سوريا. ولعلّ خير دليل على هذا تصريح أقرب حلفاء ترمب في الكونغرس، زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش مكونيل الذي قال حينها: «لقد أحزنني خبر استقالة ماتيس، وأنا مستاء ومضطرب من أنه قدّم استقالته بسبب خلافات عميقة مع الرئيس متعلقة بمظاهر أساسية للدور القيادي العالمي الذي تؤديه الولايات المتحدة».

دان كوتس وروسيا

وجه آخر استاء أعضاء الكونغرس من مغادرته الإدارة هو دان كوتس، مدير الاستخبارات الوطنية. كوتس السياسي المخضرم الذي خدم في مجلسي الشيوخ والنواب وعُيّن سفيراً للولايات المتحدة في ألمانيا أيام جورج بوش الابن، كان مستاءً من موقف الإدارة حيال روسيا. وبحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن كوتس قرّر تقديم استقالته لأسباب متعلقة بمحاولات الإدارة المتكررة للتخفيف من حدة الانتقادات لروسيا بسبب تدخلها في الانتخابات الأميركية.

جون كيلي و«الناتو»

استقالة أخرى هزت الإدارة هي استقالة جون كيلي، كبير موظفي البيت الأبيض ووزير الأمن القومي السابق. ويقول داعمو كيلي، إن وجوده في البيت الأبيض ساعد في ملفات عدة، أبرزها إقناع ترمب بعدم سحب القوات الأميركية من كوريا الجنوبية، وإبقاء عضوية الولايات المتحدة في حلف شمالي الأطلسي.

كيرستن نيلسن وجدل الهجرة

استقالة جون كيلي حوّلت الأنظار إلى خليفته في منصبه السابق، وزيرة الأمن القومي كيرستن نيلسن. فنيلسن واجهت أحد أكثر الملفات حماوة في واشنطن: ملف الهجرة غير الشرعية، وقد أدت سياسة فصل الأطفال عن أهاليهم على الحدود الأميركية - المكسيكية إلى موجة من الانتقادات الديمقراطية لتعاطي نيلسن مع الملف. وعندما احتدم النقاش في الإدارة الأميركية لمحاولة إصلاح سياسة الهجرة غير الشرعية، أعلن الرئيس الأميركي عن نيته اعتماد سياسة أكثر صرامة، فقدّمت وزيرة الأمن القومي هي الأخرى استقالتها.

جون بولتون وإيران

لم تتوقف موجة الاستقالات عند نيلسن، ولعل الاستقالة الأكثر دراماتيكية حتى الساعة هي استقالة مستشار الأمن القومي جون بولتون. علاقة ترمب ببولتون، وهو من صقور الجمهوريين، كانت متوترة على مدى السبعة عشر شهراً التي أمضاها في منصبه. ووصلت إلى درجة الانفجار لدى مغادرة بولتون، فقد غرد ترمب بأنه طلب من بولتون الاستقالة، في حين أصر بولتون على أنه قرر تقديم استقالته بنفسه.
ولعل السبب الأبرز الذي أدّى إلى استقالة بولتون أو إقالته، هو محاولاته الحثيثة عرقلة مساعي ترمب للتوقيع على اتفاق سلام مع حركة «طالبان» في كامب ديفيد. وقد غيّر ترمب رأيه في اللحظة الأخيرة وألغى الاجتماع بعد أن تبنت «طالبان» انفجار سيارة مفخخة في كابول أودى بحياة جندي أميركي.
واتهم ترمب بولتون بتسريب أخبار الاجتماع في كامب ديفيد لإفشاله. وواجه الرئيس الأميركي انتقادات كثيرة من قبل حزبه والديمقراطيين، خاصة أن اللقاء كان سيتزامن مع ذكرى هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).
ويتحدث ماثيو برودسكي الباحث في مجموعة الدراسات الأمنية في واشنطن عن هذه الاستقالات المتتالية في الإدارة الأميركية وتأثيرها على البيت الأبيض: «إن أي استقالة تؤثر بطريقة مختلفة على كل حزب. عندما أصبح ترمب رئيساً، قال الديمقراطيون إن من حوله سيشكلون درعاً لحماية البلاد، وسوف يحرصون على ألا يتخذ قرارات متشددة. الديمقراطيون وثقوا بماتيس كثيراً، وفقدوا صوابهم عندما غادر. أما الجمهوريون من الصقور مثلي، فاعتبروا مغادرة بولتون أمراً محزناً لأنه كان يركز كصقر على تهديدات مثل إيران وكوريا الشمالية».
تأثير الصقور كبولتون كاد أن يُترجم في يوليو (تموز) 2019 عندما أسقطت إيران طائرة أميركية من دون طيار فوق مضيق هرمز. قال ترمب حينها، إن إيران «ارتكبت خطأً كبيراً»، وقرّر الرد عبر شن ضربة عسكرية. غير أنه تراجع في اللحظة الأخيرة، مفاجئاً جنرالاته وحلفائه. وبرر هذا القرار في تغريدة قال فيها: «أوقفت الغارة قبل 10 دقائق من موعد تنفيذها؛ لأن الرد لا يتناسب مع إسقاط طائرة من دون طيار». وقال ترمب إنه ألغى الضربات عندما قيل له إن 150 شخصاً سيذهبون ضحايا لها.
الديمقراطيون تنفسوا الصعداء لدى إلغاء الضربة. وقالت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، إن الولايات المتحدة ليست لديها رغبة في الحرب مع إيران، في حين وصف نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن استراتيجية ترمب في إيران بأنها كارثية. أما صقور الجمهوريين فقد خاب أملهم من قرار ترمب، موقف فسّره ماثيو برودسكي الذي عمل مستشاراً في الخارجية الأميركية للملف الإيراني: «أعتقد أن الولايات المتحدة كان يجب أن تضرب إيران، فالضعف يؤدي إلى مزيد من الأفعال الاستفزازية من قبل أعدائنا... إن النظام الإيراني يحاول التلاعب بأوروبا والولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف، على الأرجح أن تستمر أوروبا باسترضاء إيران، وعلى الولايات المتحدة وضع خط أحمر والالتزام به».

مولر وحملة الاعتقالات

في حين تشابكت الاضطرابات على صعيد السياسة الخارجية، كان ترمب يواجه فيضاً من الهجمات الداخلية، فطرده لمدير الـ«إف بي آي» جايمس كومي كانت له تداعيات كبيرة، تمثلت بقرار وزارة العدل حينها تعيين المحقق الخاص روبرت مولر للنظر في احتمال وجود تواطؤ بين حملة ترمب الانتخابية وروسيا. تحقيق وصفه ترمب مراراً وتكراراً بـ«حملة مطاردة الساحرات». مولر وبعد تحقيق استمر قرابة العامين، أصدر تقريره النهائي في أبريل (نيسان) من عام 2019. وقد أدت تحقيقاته إلى إدانة 34 شخصاً، منهم مدير حملة ترمب السابق بول مانافورت، ومستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين، ومحامي ترمب السابق مايكل كوهين، وغيرهم.
وعلى الرغم من أن التقرير بخلاصته برأ ترمب من أي تواطؤ مباشر مع الروس، فإنه لم يحسم موضوع عرقلته للعدالة. وقد قال مولر حينها للكونغرس: «ليست لدينا الثقة الكافية لنقول بعد التحقيق إن الرئيس لم يقم بأي عرقلة للعدالة». وترك مولر الباب مفتوحاً أمام الكونغرس للنظر في هذه النقطة على وجه التحديد.
لكن رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي لم تر حينها وجود أدلة كافية لفتح باب التحقيق، إلى أن ظهرت شكوى المُبلغ في فضيحة أوكرانيا وانقلبت كل المعطيات.
ويشرح جون برسناهن، مدير مكتب «بوليتيكو» في الكونغرس، كيف تغيرت حسابات الديمقراطيين: «عندما انكشفت فضيحة أوكرانيا، تزايد الدعم الديمقراطي لعزل الرئيس، لكن هذا لم يبدأ من الصفر. فقد كان هناك عدد لا بأس به من الديمقراطيين الذين أرادوا عزل ترمب بعد تقرير مولر. اتصال ترمب الشهير بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي جرى في الخامس والعشرين من يوليو بعد يوم واحد من إدلاء مولر بإفادته أمام الكونغرس».

المصادقة التاريخية على العزل

في الرابع والعشرين من سبتمبر 2019، أعلنت نانسي بيلوسي عن بدء التحقيق في عزل الرئيس الأميركي دونالد ترمب ليصبح الرئيس الرابع في تاريخ الولايات المتحدة الذي يواجه إجراءات العزل. سبقه كل من أندرو جونسون في عام 1868، وريتشارد نيكسون في عام 1974، الذي استقال قبل مباشرة إجراءات العزل ضده، وبيل كلينتون في عام 1998.
بيلوسي ترددت كثيراً قبل اتخاذ القرار، لكن اتصال الخامس والعشرين من يوليو الشهير بين ترمب والرئيس الأوكراني زيلينسكي كان كافياً لإقناعها بالمضي قدماً. فخلال الاتصال، طلب ترمب من زيلينسكي فتح تحقيق بشركة «بوريسما» الأوكرانية. وقال ترمب، بحسب النص الذي نشره البيت الأبيض: «هناك حديث عن نجل بايدن وعن أن بايدن أوقف التحقيق بالشركة، ويريد أشخاص كثر أن يعرفوا المزيد عن هذا الموضوع؛ لذلك فإن أي شيء تستطيع أن تفعله في هذا الخصوص مع النائب العام سيكون رائعاً». وكان ترمب يشير إلى هنتر بايدن، الذي يتمتع بمقعد في مجلس إدارة شركة «بوريسما».
وثارت ثائرة الديمقراطيين؛ فهم رأوا أن الاتصال يثبت أن ترمب جمّد المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا للضغط على زيلينسكي في سبيل الإعلان عن إجراء تحقيق بخصم سياسي. في حين نفى ترمب والجمهوريون هذه الاتهامات، وقالوا إن الرئيس الأميركي كان يتحدث عن الفساد في أوكرانيا بشكل عام، وإنه جمّد المساعدات لهذا السبب قبل الإفراج عنها.
وبدأ مسلسل إجراءات العزل عبر عقد جلسات استماع مغلقة ومفتوحة، تم استدعاء أكثر من 17 شاهداً خلالها. شهود من المقربين لترمب ومسؤولين حاليين وسابقين في الإدارة الأميركية، منهم من لبّى دعوة الكونغرس، ومنهم من رفضها احتراماً لرغبة البيت الأبيض.
في مساء الثامن عشر من ديسمبر (كانون الأول)، صادق مجلس النواب على عزل الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة. وهي المرة الثالثة فقط في التاريخ الأميركي التي يصوت فيها مجلس النواب لعزل رئيس أميركي حالي. فقد صوّت المجلس لعزل أندرو جونسون وبيل كلينتون.
ومع انتقال إجراءات العزل إلى مجلس الشيوخ، تبقى النتيجة شبه محسومة لصالح الرئيس. فالجمهوريون يسيطرون على المجلس المسؤول عن محاكمة الرئيس، وبيده القرار الأخير لخلعه عن الرئاسة. الأمر المستحيل نسبياً كون القرار بحاجة إلى ثلثي الأصوات، ليصبح مصير ترمب مشابهاً إلى حد كبير لمصير الرئيسين السابقين أندرو جونسون وبيل كلينتون. فقد صوّت مجلس النواب لعزل جونسون وكلينتون، لكنّ مجلس الشيوخ لم ينجح في إدانتيهما، فأكملا رئاستيهما حتى نهاية عهديهما.
ويشرح جون برسناهن الفرق بين إجراءات عزل كلينتون ونيكسون من جهة، وترمب من جهة أخرى: «هناك فرق كبير في إجراءات عزل كلينتون ونيكسون وترمب؛ فنيكسون وكلينتون كانا في ولايتهما الثانية عند بدء إجراءات عزلهما ولم يكن متوقعاً أن يخوضا معركة رئاسية. ترمب مرشح لولاية ثانية، وعلى الجمهوريين التضامن معه وإلا فسوف يدفعون الثمن في نوفمبر المقبل».
وسيخوض ترمب معركة رئاسية محتدمة في نوفمبر 2020، يراها البعض بمثابة محاكمة شعبية له في حال لم يعزله مجلس الشيوخ. لكن الرئيس الأميركي مطمئن، فعندما سأله أحد الصحافيين ما إذا كان قلقاً من تأثير العزل على نتيجة الانتخابات، رد ترمب: «أبداً! أبداً! هذه خدعة كبيرة سخيفة».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.