سياسات واشنطن الخارجية انسحابات طوعية وتهديدات متجدّدة

أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب  خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)
أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)
TT

سياسات واشنطن الخارجية انسحابات طوعية وتهديدات متجدّدة

أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب  خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)
أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)

يوشك عام 2019 على الانتهاء، وما زالت ملفات كثيرة شائكة تلقي بظلالها على علاقات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بحلفائه التقليديين وخصومه. علاقة واشنطن بروسيا، ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والصين، شهدت تقلبات في بعض الأحيان، واستمرارية في أحيان أخرى.
فشارك ترمب احتفال أعضاء الناتو بالذكرى 70 لتأسيس الحلف في لندن ودافع عنه، في تناقض حاد مع تصريحاته في عام 2017. لكنه غادر الفعاليات مبكّراً لاستيائه على ما يبدو من «نمائم» قادة كندا وبريطانيا وفرنسا. شن حرباً تجارية على الصين وضاعف الرسوم الجمركية على صادراتها، دون المساس بعلاقة «الصداقة» التي تجمعه بنظيره الصيني شي جينبينغ الذي قد يوقع اتفاقاً تجارياً مع واشنطن في بداية 2020.
أما روسيا، فاستشهد سيد البيت الأبيض بحديث رئيسها فلاديمير بوتين للدفاع عن نفسه أمام تهم مجلس النواب التي أدّت إلى عزله، وانسحب في الوقت ذاته من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى الموقعة في عهد الحرب الباردة.

«التمدد الروسي»

هيمنت العلاقات الروسية - الأميركية على جزء كبير من الدورات الإخبارية في واشنطن هذا العام. ففي الوقت الذي يعرب فيه كل من الكرملين والبيت الأبيض عن رغبتهما في تحسين العلاقات الثنائية، تحذّر أجهزة الاستخبارات الأميركية من تدخل روسي جديد في الانتخابات الرئاسية المقبلة، في حين تحذر وزارتا الخارجية والدفاع من «التمدد الروسي» في بعض المناطق التي تشهد انسحاباً أميركياً نسبياً.
ويسعى أكثر من طرف إقليمي ودولي للاستثمار في «الانسحاب الأميركي الطوعي» من أزمات لم يعد التورط مجدياً فيها، على ما أعلنه ترمب مراراً وتكراراً، من سوريا إلى أفغانستان. لكن مع ازدياد الانتقادات لواشنطن واتهامها بالتخلي عن حلفائها وشركائها في المنطقة وتقليص وجودها وأنشطتها في سوريا وليبيا، الذي استغلته روسيا عبر ملء الفراغ فيها، تحركت إدارة ترمب لتطويق تداعيات هذا التمدد، كاشفة عن اتصالات مكثفة بأطراف الصراع في ليبيا لوقف القتال. وأعلن وزير الدفاع مارك إسبر الانتهاء من سحب القوات الأميركية من شمال سوريا، مع الإبقاء على 600 جندي لحماية الأكراد ومواصلة الحرب على «داعش» ومنع سقوط حقول النفط تحت سيطرته أو سيطرة النظام السوري.
كما واصلت إدارة ترمب ممارسة الضغوط على حلفائها الأوروبيين لوقف اعتمادهم على الغاز الروسي، وفرضت أخيراً عقوبات على الشركات العاملة في مشروع «نورد ستريم 2»، في سياسة بدا واضحاً أن محركها اقتصادي بأبعاد سياسية للتضييق عليهم، وليس للضغط على روسيا، بعدما تحولت العلاقة مع الحلفاء إلى «صفقات»، يحددها مدى استفادة واشنطن، وليس ما يخدم موقعها الدولي كقائدة للنظام الدولي، كما يرى البعض.
هكذا، كرر ترمب انتقاده لألمانيا الذي لم يستثنِ مستشارتها أنغيلا ميركل شخصياً، قائلاً إن برلين باتت رهينة لروسيا جراء اعتمادها على مصادر طاقتها، وحاثاً إياها على التفتيش عن مصادر أخرى، من بينها الولايات المتحدة. لكن ملف العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا لا يزال حتى الساعة من دون حل، خصوصاً أن فرضها جاء على خلفية عمليات استخباراتية نفذتها موسكو ضد ناشطين ومعارضين على أراضي دول أوروبية حليفة. ويخشى الآن من تجددها وزيادتها، بعد الإعلان عن مقتل معارض جورجي في ألمانيا على يد عميل روسي في بداية الشهر الحالي.
كما عرضت واشنطن أخيراً مكافأة بقيمة 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تقود إلى اعتقال ومحاكمة روسيين متهمين بارتكاب واحدة من أكبر الجرائم الإلكترونية في التاريخ، تقول وزارة العدل الأميركية إنهما مرتبطان بجهاز الاستخبارات الروسية (إف إس بي)، وتمكنا من الاستيلاء على أكثر من 100 مليون دولار، عبر زرعهما برمجيات خبيثة، في عشرات البلدان خصوصاً في 11 ولاية أميركية.

ترمب والناتو

ملف علاقة الولايات المتحدة بحلف الناتو قد يكون من أكثر الملفات إثارة للجدل، ويلقي الضوء على موقف سيد البيت الأبيض من التحالفات الدولية عموماً. ترمب الذي تراجع عن تهديده بالانسحاب من الحلف، شاهراً في الوقت نفسه شعار إعادة التوازن للإنفاق بين أعضائه، اعتبر في قمة الحلف الأخيرة أن ضغوطه حققت نجاحاً وتقدماً عظيماً مع قادة الناتو جعلهم يدفعون 130 مليار دولار سنوياً، ونحو 400 مليار دولار خلال 3 سنوات، دون أي تكلفة إضافية على الولايات المتحدة.
يقول بول سالم، رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن، إن «ترمب، ورغم اضطراره للبقاء في الناتو بسبب علاقات أميركا العميقة جداً بالحلف وتمسك الدولة العميقة به، فإنه لا يستبعد أن يهدد بالانسحاب منه مجدداً، أو أن ينسحب فعلياً، كما فعل سابقاً الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول. وهو تمكن من الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ومن (نافتا)، واتفاقية التبادل التجاري مع المحيط الهادئ، على اعتبار أنها لم تعد تلبي مصالح أميركا».
ويضيف سالم: «لكن إذا أعيد انتخابه، فسيتمسك عندها ترمب بالقول إنه يقود مساراً أميركياً طويل الأمد، وإن وجهة نظره صحيحة، وإن التاريخ والأميركيين يدعمونه. عندها يمكن القول إن هناك احتمالاً بحصول انقلاب عميق بالنظام العالمي، وينجح ترمب في تفكيك منظومة التحالفات العالمية ومنها حلف الناتو، وندخل في مرحلة جديدة».
ما يعزز هذا التحليل ليس فقط العلاقات المتأرجحة التي تجمع ترمب بقادة الحلف والتي ظهرت خلال قمته الأخيرة في لندن، بل والتعليقات التي صدرت ولا تزال عن عدد منهم في محاولة لإعادة تعريف دور الحلف ووظيفته وسياساته. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان واضحاً في دعوته إلى تغيير جدول القمة، من التركيز على المال إلى مراجعة استراتيجية الحلف، الأمر الذي رفضه ترمب.
كما أن تخفيف ترمب من انتقاداته سمح لقادة الحلف بالخروج بموقف جماعي يؤكد التضامن لمواجهة تهديدات روسيا والإرهاب، والإقرار بالتحديات التي يمثلها تصاعد نفوذ الصين، وبتراجع تركيا عن موقفها المتصلب تجاه خطة الدفاع عن دول البلطيق وبولندا.

تهديد الصين

«تمثّل الصين تهديداً فريداً وهائلاً للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها الديمقراطيين»، هكذا لخّص برادلي بومان الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن العلاقات بين واشنطن وبكين.
ويعتبر بومان أن إدارة الرئيس ترمب أدركت طبيعة وشدة التهديد الذي تمثله الصين، وحققت تقدماً كبيراً في إعادة بناء الجهوزية العسكرية الأميركية.
ولكن هناك الكثير الذي يتعين القيام به، حيث تحتاج وزارة الدفاع إلى تمويل كافٍ وفي الوقت المناسب وبالتعاون مع الكونغرس. ويضيف بومان أن القوة العسكرية الأميركية وحدها ليست كافية، إذ تحتاج أميركا إلى حلفاء وشركاء قادرين عسكرياً ولديهم رؤية مشتركة للتهديد الذي يمثله الحزب الشيوعي الصيني. وتمثل شبكة الحلفاء الأميركية استراتيجية كبيرة ورائدة ينبغي على واشنطن رعايتها وتعزيزها.
ويعتقد بومان أنّ الصين حقّقت مكاسب كبيرة في عدة مجالات من المنافسة، متجاوزة الولايات المتحدة في بعضها، وقد تكون واشنطن استيقظت متأخرة على التهديد وبدأت في تنظيم نفسها، إلّا أنه ينبغي للمرء ألا يقلل من شأن الولايات المتحدة عندما تُهدد مصالحها الأساسية. يوافق بول سالم على هذه الخلاصة ويقول إن أميركا كانت دائماً تشيد بتحالفاتها في مواجهة القوى الكبرى الأخرى، لكن مع سعي ترمب إلى تفكيكها يخشى من أن تصبح معزولة في وجه الصين وروسيا، الأمر الذي سيضعفها كثيراً.
ويضيف أن تغيراً واضحاً طرأ على النظام العالمي وفي ميزان القوى العالمية، مع عودة روسيا لاعباً دولياً جريئاً وصعود الصين المستمر منذ 20 عاماً، حيث بات اقتصادها تقريباً بحجم اقتصاد أميركا.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.