سياسات واشنطن الخارجية انسحابات طوعية وتهديدات متجدّدة

أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب  خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)
أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)
TT

سياسات واشنطن الخارجية انسحابات طوعية وتهديدات متجدّدة

أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب  خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)
أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)

يوشك عام 2019 على الانتهاء، وما زالت ملفات كثيرة شائكة تلقي بظلالها على علاقات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بحلفائه التقليديين وخصومه. علاقة واشنطن بروسيا، ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والصين، شهدت تقلبات في بعض الأحيان، واستمرارية في أحيان أخرى.
فشارك ترمب احتفال أعضاء الناتو بالذكرى 70 لتأسيس الحلف في لندن ودافع عنه، في تناقض حاد مع تصريحاته في عام 2017. لكنه غادر الفعاليات مبكّراً لاستيائه على ما يبدو من «نمائم» قادة كندا وبريطانيا وفرنسا. شن حرباً تجارية على الصين وضاعف الرسوم الجمركية على صادراتها، دون المساس بعلاقة «الصداقة» التي تجمعه بنظيره الصيني شي جينبينغ الذي قد يوقع اتفاقاً تجارياً مع واشنطن في بداية 2020.
أما روسيا، فاستشهد سيد البيت الأبيض بحديث رئيسها فلاديمير بوتين للدفاع عن نفسه أمام تهم مجلس النواب التي أدّت إلى عزله، وانسحب في الوقت ذاته من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى الموقعة في عهد الحرب الباردة.

«التمدد الروسي»

هيمنت العلاقات الروسية - الأميركية على جزء كبير من الدورات الإخبارية في واشنطن هذا العام. ففي الوقت الذي يعرب فيه كل من الكرملين والبيت الأبيض عن رغبتهما في تحسين العلاقات الثنائية، تحذّر أجهزة الاستخبارات الأميركية من تدخل روسي جديد في الانتخابات الرئاسية المقبلة، في حين تحذر وزارتا الخارجية والدفاع من «التمدد الروسي» في بعض المناطق التي تشهد انسحاباً أميركياً نسبياً.
ويسعى أكثر من طرف إقليمي ودولي للاستثمار في «الانسحاب الأميركي الطوعي» من أزمات لم يعد التورط مجدياً فيها، على ما أعلنه ترمب مراراً وتكراراً، من سوريا إلى أفغانستان. لكن مع ازدياد الانتقادات لواشنطن واتهامها بالتخلي عن حلفائها وشركائها في المنطقة وتقليص وجودها وأنشطتها في سوريا وليبيا، الذي استغلته روسيا عبر ملء الفراغ فيها، تحركت إدارة ترمب لتطويق تداعيات هذا التمدد، كاشفة عن اتصالات مكثفة بأطراف الصراع في ليبيا لوقف القتال. وأعلن وزير الدفاع مارك إسبر الانتهاء من سحب القوات الأميركية من شمال سوريا، مع الإبقاء على 600 جندي لحماية الأكراد ومواصلة الحرب على «داعش» ومنع سقوط حقول النفط تحت سيطرته أو سيطرة النظام السوري.
كما واصلت إدارة ترمب ممارسة الضغوط على حلفائها الأوروبيين لوقف اعتمادهم على الغاز الروسي، وفرضت أخيراً عقوبات على الشركات العاملة في مشروع «نورد ستريم 2»، في سياسة بدا واضحاً أن محركها اقتصادي بأبعاد سياسية للتضييق عليهم، وليس للضغط على روسيا، بعدما تحولت العلاقة مع الحلفاء إلى «صفقات»، يحددها مدى استفادة واشنطن، وليس ما يخدم موقعها الدولي كقائدة للنظام الدولي، كما يرى البعض.
هكذا، كرر ترمب انتقاده لألمانيا الذي لم يستثنِ مستشارتها أنغيلا ميركل شخصياً، قائلاً إن برلين باتت رهينة لروسيا جراء اعتمادها على مصادر طاقتها، وحاثاً إياها على التفتيش عن مصادر أخرى، من بينها الولايات المتحدة. لكن ملف العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا لا يزال حتى الساعة من دون حل، خصوصاً أن فرضها جاء على خلفية عمليات استخباراتية نفذتها موسكو ضد ناشطين ومعارضين على أراضي دول أوروبية حليفة. ويخشى الآن من تجددها وزيادتها، بعد الإعلان عن مقتل معارض جورجي في ألمانيا على يد عميل روسي في بداية الشهر الحالي.
كما عرضت واشنطن أخيراً مكافأة بقيمة 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تقود إلى اعتقال ومحاكمة روسيين متهمين بارتكاب واحدة من أكبر الجرائم الإلكترونية في التاريخ، تقول وزارة العدل الأميركية إنهما مرتبطان بجهاز الاستخبارات الروسية (إف إس بي)، وتمكنا من الاستيلاء على أكثر من 100 مليون دولار، عبر زرعهما برمجيات خبيثة، في عشرات البلدان خصوصاً في 11 ولاية أميركية.

ترمب والناتو

ملف علاقة الولايات المتحدة بحلف الناتو قد يكون من أكثر الملفات إثارة للجدل، ويلقي الضوء على موقف سيد البيت الأبيض من التحالفات الدولية عموماً. ترمب الذي تراجع عن تهديده بالانسحاب من الحلف، شاهراً في الوقت نفسه شعار إعادة التوازن للإنفاق بين أعضائه، اعتبر في قمة الحلف الأخيرة أن ضغوطه حققت نجاحاً وتقدماً عظيماً مع قادة الناتو جعلهم يدفعون 130 مليار دولار سنوياً، ونحو 400 مليار دولار خلال 3 سنوات، دون أي تكلفة إضافية على الولايات المتحدة.
يقول بول سالم، رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن، إن «ترمب، ورغم اضطراره للبقاء في الناتو بسبب علاقات أميركا العميقة جداً بالحلف وتمسك الدولة العميقة به، فإنه لا يستبعد أن يهدد بالانسحاب منه مجدداً، أو أن ينسحب فعلياً، كما فعل سابقاً الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول. وهو تمكن من الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ومن (نافتا)، واتفاقية التبادل التجاري مع المحيط الهادئ، على اعتبار أنها لم تعد تلبي مصالح أميركا».
ويضيف سالم: «لكن إذا أعيد انتخابه، فسيتمسك عندها ترمب بالقول إنه يقود مساراً أميركياً طويل الأمد، وإن وجهة نظره صحيحة، وإن التاريخ والأميركيين يدعمونه. عندها يمكن القول إن هناك احتمالاً بحصول انقلاب عميق بالنظام العالمي، وينجح ترمب في تفكيك منظومة التحالفات العالمية ومنها حلف الناتو، وندخل في مرحلة جديدة».
ما يعزز هذا التحليل ليس فقط العلاقات المتأرجحة التي تجمع ترمب بقادة الحلف والتي ظهرت خلال قمته الأخيرة في لندن، بل والتعليقات التي صدرت ولا تزال عن عدد منهم في محاولة لإعادة تعريف دور الحلف ووظيفته وسياساته. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان واضحاً في دعوته إلى تغيير جدول القمة، من التركيز على المال إلى مراجعة استراتيجية الحلف، الأمر الذي رفضه ترمب.
كما أن تخفيف ترمب من انتقاداته سمح لقادة الحلف بالخروج بموقف جماعي يؤكد التضامن لمواجهة تهديدات روسيا والإرهاب، والإقرار بالتحديات التي يمثلها تصاعد نفوذ الصين، وبتراجع تركيا عن موقفها المتصلب تجاه خطة الدفاع عن دول البلطيق وبولندا.

تهديد الصين

«تمثّل الصين تهديداً فريداً وهائلاً للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها الديمقراطيين»، هكذا لخّص برادلي بومان الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن العلاقات بين واشنطن وبكين.
ويعتبر بومان أن إدارة الرئيس ترمب أدركت طبيعة وشدة التهديد الذي تمثله الصين، وحققت تقدماً كبيراً في إعادة بناء الجهوزية العسكرية الأميركية.
ولكن هناك الكثير الذي يتعين القيام به، حيث تحتاج وزارة الدفاع إلى تمويل كافٍ وفي الوقت المناسب وبالتعاون مع الكونغرس. ويضيف بومان أن القوة العسكرية الأميركية وحدها ليست كافية، إذ تحتاج أميركا إلى حلفاء وشركاء قادرين عسكرياً ولديهم رؤية مشتركة للتهديد الذي يمثله الحزب الشيوعي الصيني. وتمثل شبكة الحلفاء الأميركية استراتيجية كبيرة ورائدة ينبغي على واشنطن رعايتها وتعزيزها.
ويعتقد بومان أنّ الصين حقّقت مكاسب كبيرة في عدة مجالات من المنافسة، متجاوزة الولايات المتحدة في بعضها، وقد تكون واشنطن استيقظت متأخرة على التهديد وبدأت في تنظيم نفسها، إلّا أنه ينبغي للمرء ألا يقلل من شأن الولايات المتحدة عندما تُهدد مصالحها الأساسية. يوافق بول سالم على هذه الخلاصة ويقول إن أميركا كانت دائماً تشيد بتحالفاتها في مواجهة القوى الكبرى الأخرى، لكن مع سعي ترمب إلى تفكيكها يخشى من أن تصبح معزولة في وجه الصين وروسيا، الأمر الذي سيضعفها كثيراً.
ويضيف أن تغيراً واضحاً طرأ على النظام العالمي وفي ميزان القوى العالمية، مع عودة روسيا لاعباً دولياً جريئاً وصعود الصين المستمر منذ 20 عاماً، حيث بات اقتصادها تقريباً بحجم اقتصاد أميركا.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.