سياسات واشنطن الخارجية انسحابات طوعية وتهديدات متجدّدة

أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب  خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)
أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)
TT

سياسات واشنطن الخارجية انسحابات طوعية وتهديدات متجدّدة

أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب  خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)
أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)

يوشك عام 2019 على الانتهاء، وما زالت ملفات كثيرة شائكة تلقي بظلالها على علاقات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بحلفائه التقليديين وخصومه. علاقة واشنطن بروسيا، ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والصين، شهدت تقلبات في بعض الأحيان، واستمرارية في أحيان أخرى.
فشارك ترمب احتفال أعضاء الناتو بالذكرى 70 لتأسيس الحلف في لندن ودافع عنه، في تناقض حاد مع تصريحاته في عام 2017. لكنه غادر الفعاليات مبكّراً لاستيائه على ما يبدو من «نمائم» قادة كندا وبريطانيا وفرنسا. شن حرباً تجارية على الصين وضاعف الرسوم الجمركية على صادراتها، دون المساس بعلاقة «الصداقة» التي تجمعه بنظيره الصيني شي جينبينغ الذي قد يوقع اتفاقاً تجارياً مع واشنطن في بداية 2020.
أما روسيا، فاستشهد سيد البيت الأبيض بحديث رئيسها فلاديمير بوتين للدفاع عن نفسه أمام تهم مجلس النواب التي أدّت إلى عزله، وانسحب في الوقت ذاته من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى الموقعة في عهد الحرب الباردة.

«التمدد الروسي»

هيمنت العلاقات الروسية - الأميركية على جزء كبير من الدورات الإخبارية في واشنطن هذا العام. ففي الوقت الذي يعرب فيه كل من الكرملين والبيت الأبيض عن رغبتهما في تحسين العلاقات الثنائية، تحذّر أجهزة الاستخبارات الأميركية من تدخل روسي جديد في الانتخابات الرئاسية المقبلة، في حين تحذر وزارتا الخارجية والدفاع من «التمدد الروسي» في بعض المناطق التي تشهد انسحاباً أميركياً نسبياً.
ويسعى أكثر من طرف إقليمي ودولي للاستثمار في «الانسحاب الأميركي الطوعي» من أزمات لم يعد التورط مجدياً فيها، على ما أعلنه ترمب مراراً وتكراراً، من سوريا إلى أفغانستان. لكن مع ازدياد الانتقادات لواشنطن واتهامها بالتخلي عن حلفائها وشركائها في المنطقة وتقليص وجودها وأنشطتها في سوريا وليبيا، الذي استغلته روسيا عبر ملء الفراغ فيها، تحركت إدارة ترمب لتطويق تداعيات هذا التمدد، كاشفة عن اتصالات مكثفة بأطراف الصراع في ليبيا لوقف القتال. وأعلن وزير الدفاع مارك إسبر الانتهاء من سحب القوات الأميركية من شمال سوريا، مع الإبقاء على 600 جندي لحماية الأكراد ومواصلة الحرب على «داعش» ومنع سقوط حقول النفط تحت سيطرته أو سيطرة النظام السوري.
كما واصلت إدارة ترمب ممارسة الضغوط على حلفائها الأوروبيين لوقف اعتمادهم على الغاز الروسي، وفرضت أخيراً عقوبات على الشركات العاملة في مشروع «نورد ستريم 2»، في سياسة بدا واضحاً أن محركها اقتصادي بأبعاد سياسية للتضييق عليهم، وليس للضغط على روسيا، بعدما تحولت العلاقة مع الحلفاء إلى «صفقات»، يحددها مدى استفادة واشنطن، وليس ما يخدم موقعها الدولي كقائدة للنظام الدولي، كما يرى البعض.
هكذا، كرر ترمب انتقاده لألمانيا الذي لم يستثنِ مستشارتها أنغيلا ميركل شخصياً، قائلاً إن برلين باتت رهينة لروسيا جراء اعتمادها على مصادر طاقتها، وحاثاً إياها على التفتيش عن مصادر أخرى، من بينها الولايات المتحدة. لكن ملف العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا لا يزال حتى الساعة من دون حل، خصوصاً أن فرضها جاء على خلفية عمليات استخباراتية نفذتها موسكو ضد ناشطين ومعارضين على أراضي دول أوروبية حليفة. ويخشى الآن من تجددها وزيادتها، بعد الإعلان عن مقتل معارض جورجي في ألمانيا على يد عميل روسي في بداية الشهر الحالي.
كما عرضت واشنطن أخيراً مكافأة بقيمة 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تقود إلى اعتقال ومحاكمة روسيين متهمين بارتكاب واحدة من أكبر الجرائم الإلكترونية في التاريخ، تقول وزارة العدل الأميركية إنهما مرتبطان بجهاز الاستخبارات الروسية (إف إس بي)، وتمكنا من الاستيلاء على أكثر من 100 مليون دولار، عبر زرعهما برمجيات خبيثة، في عشرات البلدان خصوصاً في 11 ولاية أميركية.

ترمب والناتو

ملف علاقة الولايات المتحدة بحلف الناتو قد يكون من أكثر الملفات إثارة للجدل، ويلقي الضوء على موقف سيد البيت الأبيض من التحالفات الدولية عموماً. ترمب الذي تراجع عن تهديده بالانسحاب من الحلف، شاهراً في الوقت نفسه شعار إعادة التوازن للإنفاق بين أعضائه، اعتبر في قمة الحلف الأخيرة أن ضغوطه حققت نجاحاً وتقدماً عظيماً مع قادة الناتو جعلهم يدفعون 130 مليار دولار سنوياً، ونحو 400 مليار دولار خلال 3 سنوات، دون أي تكلفة إضافية على الولايات المتحدة.
يقول بول سالم، رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن، إن «ترمب، ورغم اضطراره للبقاء في الناتو بسبب علاقات أميركا العميقة جداً بالحلف وتمسك الدولة العميقة به، فإنه لا يستبعد أن يهدد بالانسحاب منه مجدداً، أو أن ينسحب فعلياً، كما فعل سابقاً الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول. وهو تمكن من الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ومن (نافتا)، واتفاقية التبادل التجاري مع المحيط الهادئ، على اعتبار أنها لم تعد تلبي مصالح أميركا».
ويضيف سالم: «لكن إذا أعيد انتخابه، فسيتمسك عندها ترمب بالقول إنه يقود مساراً أميركياً طويل الأمد، وإن وجهة نظره صحيحة، وإن التاريخ والأميركيين يدعمونه. عندها يمكن القول إن هناك احتمالاً بحصول انقلاب عميق بالنظام العالمي، وينجح ترمب في تفكيك منظومة التحالفات العالمية ومنها حلف الناتو، وندخل في مرحلة جديدة».
ما يعزز هذا التحليل ليس فقط العلاقات المتأرجحة التي تجمع ترمب بقادة الحلف والتي ظهرت خلال قمته الأخيرة في لندن، بل والتعليقات التي صدرت ولا تزال عن عدد منهم في محاولة لإعادة تعريف دور الحلف ووظيفته وسياساته. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان واضحاً في دعوته إلى تغيير جدول القمة، من التركيز على المال إلى مراجعة استراتيجية الحلف، الأمر الذي رفضه ترمب.
كما أن تخفيف ترمب من انتقاداته سمح لقادة الحلف بالخروج بموقف جماعي يؤكد التضامن لمواجهة تهديدات روسيا والإرهاب، والإقرار بالتحديات التي يمثلها تصاعد نفوذ الصين، وبتراجع تركيا عن موقفها المتصلب تجاه خطة الدفاع عن دول البلطيق وبولندا.

تهديد الصين

«تمثّل الصين تهديداً فريداً وهائلاً للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها الديمقراطيين»، هكذا لخّص برادلي بومان الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن العلاقات بين واشنطن وبكين.
ويعتبر بومان أن إدارة الرئيس ترمب أدركت طبيعة وشدة التهديد الذي تمثله الصين، وحققت تقدماً كبيراً في إعادة بناء الجهوزية العسكرية الأميركية.
ولكن هناك الكثير الذي يتعين القيام به، حيث تحتاج وزارة الدفاع إلى تمويل كافٍ وفي الوقت المناسب وبالتعاون مع الكونغرس. ويضيف بومان أن القوة العسكرية الأميركية وحدها ليست كافية، إذ تحتاج أميركا إلى حلفاء وشركاء قادرين عسكرياً ولديهم رؤية مشتركة للتهديد الذي يمثله الحزب الشيوعي الصيني. وتمثل شبكة الحلفاء الأميركية استراتيجية كبيرة ورائدة ينبغي على واشنطن رعايتها وتعزيزها.
ويعتقد بومان أنّ الصين حقّقت مكاسب كبيرة في عدة مجالات من المنافسة، متجاوزة الولايات المتحدة في بعضها، وقد تكون واشنطن استيقظت متأخرة على التهديد وبدأت في تنظيم نفسها، إلّا أنه ينبغي للمرء ألا يقلل من شأن الولايات المتحدة عندما تُهدد مصالحها الأساسية. يوافق بول سالم على هذه الخلاصة ويقول إن أميركا كانت دائماً تشيد بتحالفاتها في مواجهة القوى الكبرى الأخرى، لكن مع سعي ترمب إلى تفكيكها يخشى من أن تصبح معزولة في وجه الصين وروسيا، الأمر الذي سيضعفها كثيراً.
ويضيف أن تغيراً واضحاً طرأ على النظام العالمي وفي ميزان القوى العالمية، مع عودة روسيا لاعباً دولياً جريئاً وصعود الصين المستمر منذ 20 عاماً، حيث بات اقتصادها تقريباً بحجم اقتصاد أميركا.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.